الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ضفاف التلفزيون

ضفاف التلفزيون
18 يونيو 2008 23:31
في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، أنجز الإيطالي فريدريكو فيلليني، فيلمه ''جنجر وفريد'' الذي تتركز ثيمته الأساس - على غنى الموضوعات الأخرى الأثيرة على قلب المخرج كالطفولات والموت والشيخوخة - حول ''الميديا'' خاصة التلفزيون، الذي بدأ في التهام المساحة التي كانت للفنون الأخرى وفي طليعتها السينما·· وبدأت ملامح القِران العضوي المدمّر بين سلطة المال و''مافياتها'' المتشعبة وبين ''الميديا'' مجسدة أكثر في الفنون التلفزيونية التي كان وما زال على الصعيد الإيطالي برلسكوني عرابها الأول· أحسَّ المخرج الكبير بقدوم الخطر الكاسح على ما تبقى من الإنجازات الفنيّة والجماليّة وعلى روح الإنسان وفطرته وقيمه، فدفع بهذا الفيلم ليفضح ويتنبأ بالمشهد المُعاش الذي يزداد اتساعه وهيمنته يوماً بعد آخر· يستدعي فيلليني راقصيْ الثلاثينات في أميركا، جنجر وفريد، الشهيرين في تلك المرحلة، (يقوم بدورهما مارتشيلو ماسترياني وجوليتا مازنيا) يستدعيهما، فيلليني، كعادته حين يحوّل الأساطير والشخصيات والقصص، إلى ظلال وأشباح الرواية المعروفة والمتداولة· هكذا فعل بـ(كازنوفا) حين أحاله إلى كائن آخر غير العاشق المعروف، يعلوه الصلع، ويصاب أخيراً بالحزن والانهيار واليأس· جنجر وفريد، ليسا إلا ذريعة، وقد كانا في الفيلم عجوزين متعبين، لما يريد فيلليني، أن يعبّر عنه، ويقلقه·· كان يقرأ في قدوم السيطرة المطلقة للمال والسلطة، المعادية للمعرفة والجمال والمعادية لتفتح الطاقات الإنسانية، يقرأ تجلي هذه الهيمنة في ''الميديا'' التي يقودها التلفزيون ومن ثم الروافد والوسائط الأخرى التي لم تكن موجودة بعد في تلك الفترة· كان المخرج الكبير شديد الإحساس بهذا الخطر الذي سيلاحق حتى الهوامش والأقاصي في النفس والروح ويحتل الحلبة كاملة، على هذا النحو من البريق والاستقطاب وكأنه الآلهة أو بديل عنها لهذه البشريّة الباحثة عن عزاء وملاذ· عبر هذه السيطرة يمكن للقوى المهيمنة أن تقلب الحقائق وتفبرك الحروب والمجازر، أن تزيّف وعي الكائن البشري وتحيله إلى مسخ حديث ومدني بكامل أناقته وجروحه·· هكذا في المدن المنتجة والحضاريّة التي ينطلق منها المخرج الإيطالي في نبوءته العبقريّة التي أتت عبر هذا الفيلم بمثل هذا الجمال والدهشة والسخرية· السخرية، كانت سلاح المخرج الانتقامي من هذا الزحف الهمجي الذي سيكون على أشده بعد فترة قصيرة من عرض تلك العلامة السينمائيّة، في مسيرة الأفلام الخالدة· أقول: هكذا في البلدان الحضاريّة، فكيف سيكون الحال في البلدان الاستهلاكيّة والتابعة بلداننا، كيف سيكون تجلي هذه السيطرة وتحويل البشر إلى قطعان هائمة، دائخة تحت قوس أحلامها الكاذبة؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©