الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

موسيقى صفراء رموز ودلالات في حوار فلسفي

موسيقى صفراء رموز ودلالات في حوار فلسفي
18 يونيو 2008 23:44
سمي العنوان بنية تسول أو بنية افتقار أو بنية صغرى أو الثريا، باعتباره أداة اشارية منقوصة دائماً وهو في حالة افتقار دائم للمتن الحكائي الذي يعبر عنه ويشرحه ويفصله كونه البنية الكبرى، بحيث يصبح العنوان رمزاً مستلاً من النص برمته إما تمثيلاً خارجياً ''العنوان الخارجي'' للنص أو اقتباساً داخلياً ''العنوان الداخلي'' من النص· المعنى والدلالة ''موسيقى صفراء'' عنوان بكلمتين تتعارضان ضمناً في المعنى والدلالة، فالأولى ''موسيقى'' باعتبارها دالاً على جمالية الحياة والتفاؤل والثانية ''صفراء'' التي عادة ما تعتبر دالاً على المرض في أغلب حالات المشابهة بين الدال والمدلول وما يربط بينهما في الاستخدام الموروثي الشعبي والشعري معاً· ولأننا افترضنا التعارض عند انفصال الكلمتين فإننا نفترض أيضاً التجانس عند اقتران الكلمتين مع بعضهما كما حصل في عنوان المسرحية بمعنى أن الموسيقى التي ستقدم ذات نزعة عدوانية، إلا أن الغرابة هذه في العنوان تخلق بؤرة تشويقية أو نقطة تساؤلات أولها الإشارة إلى الموسيقى التي هي نبض الحياة والمتعة بصفة مختلفة ومفارقة وهي الاصفرار، وبذلك يصبح العنوان رمزاً غير دالٍ إلا عبر المدلول ''المتن الحكائي''· ومن جانب آخر لو افترضنا عكس ذلك أي أن نبتدئ من المتن الحكائي بعد مشاهدته إخراجاً من على المسرح لاتضح لنا أن العنوان يفسر النص، أي أن النص صار مفصلاً بالإيجاز· هنا تتحكم فينا طريقتان هما العنوان إلى المتن قبل المشاهدة أو المتن إلى العنوان بعد المشاهدة· الأنغام المسيطرة تدور أحداث المسرحية حول شخصية موسيقية، متجبرة، متسيِّدة على مدينة ما، وتؤدي معزوفته الأثيرة فرقة موسيقية يقودها مايسترو، لايقبل الموسيقار أن يعزف أي لحن آخر إلا لحنه هذا، وبعد أن سمعه أهل المدينة مراراً وتكراراً لم يعودوا إلى المسرح مرة جديدة، فقد هجروا هذه الأنغام المسيطرة على المدينة وفي كل بقعة منها وعليه فإن قسوة هذه الموسيقى تقوده إلى قتل معارضيه من الشباب بحكم نوازعه العدوانية ويبدأ الصراع الثلاثي بينه وبين المايسترو ومجتمع المدينة وهم ''الأم، وقاطع تذاكر المسرح، والمجنون''، أما الموتى فلهم قصة أخرى، حيث يرسل أحدهم وهو ابن المرأة ''الأم'' معزوفة موسيقية إلى أمه التي تأتي بها إلى الموسيقار ليقرأها ولكنه يرفض ذلك ويحيلها إلى المايسترو الذي يعرف ماذا تحتوي من إبلاغ عن قاتلهم ''الموسيقار'' والذي تعود إليه الرسالة فيمزقها· الموسيقار لا سبيل له إلا سماع معزوفته والمايسترو لم يعد قادراً على تنويعها والموسيقيون المختفون من على المسرح سوى مصاطبهم التي تبدو موزعة في الفضاء المسرحي لم يستطيعوا أن يضيفوا شيئاً إلى النص الموسيقي، والناس أصابهم الملل والمقت بالموت الأصفر بسبب هذه الموسيقى· أما قاطع التذاكر، فإنه العارف بمسببات عزوف الناس عن الدخول إلى المسرح الذي تعزف فيه هذه الموسيقى، أما المجنون فكما يبدو وهو الأكثر عقلاً متهكماً· الحكاية خرافية ذات مداليل إشارية واضحة تقود إلى فضح الديكتاتور المهمين والذي يفرض قوانينه ومبتكرات عقله المريض، وبالتالي يتسلم الموسيقار الفرقة المسرحية ليقودها عزفاً، حين يحل محل المايسترو إلا أنه يعزف دماً بدأ يتساقط على المسرح بجنون وخبل قل نظيره· حركات إيقاعية تلاعب المخرج علاء النعيمي ''بالإضافة إلى كونه ممثلاً أدى دور الموسيقار'' بالسينوغرافيا، حيث استخدم أبسط أنواع الديكورات وهي مربعات ملونة لمقاعد ومايسترو يؤدي حركات إيقاعية بيديه الخفيفتين ومع لباسه الكلاسيكي الغربي يقودنا إلى تشخيصه السريع كمايسترو· أما النعيمي ''الموسيقار''، فعند دخوله المسرح يبدأ بلغة صامتة بينه وبين المايسترو المرعوب عبر نظراته التي ما أن تسلط على المايسترو حتى يتوقف مرتجفاً· وما أن يشيح بوجهه عنه حتى يبدأ العزف ثانية، صراع خفي من البساطة والوضوح أن يكشفه المتلقي ليعرف بعد دقائق أن بدايات القصة تبدأ هكذا· وهذا يحسب للإخراج حقاً؛ لأن لملمة خيوط المتن الحكائي عند غيابها في بداية استهلال النص تصبح صعبة إذا لم تصل إلى المتلقي في بداية العرض كي يكون منسجماً مع النص ومفسراً له· الرجل الأعرج يدخل متوكئاً على عصاه، فيُسأل من قبل الموسيقار هل هذه التي بين يديك هي عصاك التي تتوكأ عليها فيرد الأعرج: إنها آلة موسيقية أعزف عليها· وبهذه الدلالة الرمزية تبدأ إشارات النص في أن العصا هي آلة الأعرج فعلاً· الموسيقار يكشف عن حالته، إنه لا ينام إلا على أنغام موسيقاه، اذاً كل إنسان يعزف على موسيقاه ذاك لا يتحرك إلا بآلته وهذا لا ينام إلا بموسيقاه، الموسيقار لا يريد أن يسمع موسيقاه إلا عزفاً بالأيدي، ولأنها مكررة دائماً فمن المنطق أن تسمع عن طريق ''المسجل''، ولكنه يفترض أن المسجل عبارة عن آلة تبث الموسيقى الميتة أما موسيقى الأيدي فهي الحية فعلاً· ولأن الآلات قد تعبت، فإن استبدالها أمر مستحيل، بحسب الموسيقار· والعازفون، كذلك، الذين وصلوا إلى حد الإجهاد المستمر أو الموت· قاطع التذاكر يصرح بحقيقة مرة وهي ضرورة توقف هذه المعزوفة· وتتحرك مقاعد المسرح لتلتم مرة وتتوزع تارة أخرى في فضاء المسرح لتعطي مدلولات كثيرة، تحولها إلى قلعة وإلى كراسي للعازفين وإلى هرم يقف فوقه الموسيقار وإلى سجن يقبع داخله الأبرياء· المعزوفة قاتلة، كريهة، يشبهها قاطع التذاكر بنبضات قلب الموسيقار أما الناس فقد سئموا سماع ألحانها المقيتة· ويتبادر سؤال مهم: ما هي حقيقة هذه المعزوفة؟ محتوى الرسالة المعزوفة كما أراد لها خزعل الماجدي رمز لفكرة شريرة، هي معزوفة القهر السلطوي والتجبر وإلغاء إبداعات الآخرين، وليس بالضرورة هي إدانة للسلطة بمعناها الظاهر وإنما هي إدانة لكل سلطة وفي جميع أنماط الحياة، السلطة الثقافية ربما أوغيرها· بما يشير إلى أن الغاء الآخر أو إبداعه يؤدي إلى إلغاء حياته· تدخل الأم مع كورس خلفها وثمة غطاء أبيض كبير فوق رأسها وحالما تكشف عن وجهها ''مثلت الدور الفنانة أشواق'' تخالط الموسيقار علامات الكره لها، ولأنها تريد أن تكشف عن محتوى الرسالة التي بعثها لها ابنها من الحياة الآخرة فإنها تأتي بها للموسيقار ليقرأها كونها كتبت على شكل ''نوتة'' موسيقية ولكن البريد لا ينقل رسائل الموتى· فيفترض أنها رسالة أشباح، الموسيقار لا يعرف أن يقرأ إلا موسيقاه، تلك هي قوانين السلطة الديكتاتورية· اشترك في أداء النص المسرحي الممثل علاء النعيمي في دور الموسيقار ''المؤلف''، وعبدالله الشامسي في دور المايسترو، والفنانة أشواق في دور الأم، وحميد المهري في دور المجنون وفيصل الحمادي في دور المعوق، والممثل السوري أيمن سرحيل في دور قاطع التذاكر، والملحن إسماعيل العوضي في دور عازف عود وكمان، والفنان محمد مرشد في دور عازف الساكسفون، وريحان العريمي وسلطان اليافعي من ضمن المجاميع، مع مشاركة المخرج فيصل الدرمكي كمساعد مخرج· نص حكائي مركب من مجموعة كثيرة من الرموز والدلالات الفاضحة لبنية التسلط، وبوصفه عملاً جاداً فإن الدراما لابد لها أن توازي المتن أما المخرج علاء النعيمي فقد تمثل حركات القصة ومحتواها بشكل بدت فيه براعة وحضور إخراجي عالٍ، حيث شكل المسرح بطريقة رمزية تقابل رموز المتن الحكائي فخلق جواً مريضاً ''مصفراً قاتماً'' قدمه على مستوى التمثيل ببراعة واضحة أما على مستوى الإخراج فقدمه بقيادة صارمة ودقيقة فعلاً· استخدم علاء النعيمي المقاعد المربعة والتشكلات الحديدية التي تحولت إلى رموز كثيرة، السجن، النوتات الموسيقية وشباك للتذاكر· أما عبدالله أبو شامس الذي مثل دور المايسترو فقد تمثل حالات الخوف والرعب بملامح أعطت الشخصية حضوراً واضحاً وفاعلاً في العرض، كذلك حميد المهري الذي قام بدور المجنون، فقد فضح عري الديكتاتور الخائف من الحقيقة التي تخرج من أفواه المجانين· كذلك فيصل الحمادي بدور المعوق الذي أجاد دوره بالرغم من صعوبته· استخدم النعيمي الإضاءة الحمراء من خلال ''بروجكتر'' في عمق المسرح ليقدم لنا صورة تعاضد الموسيقى المريضة الصفراء لدم ينزف من هذه الموسيقى عندما يتولى الموسيقار ''المؤلف'' عزف مقطوعته الموسيقية، كانت الإضاءة رمزاً عاضد كل رموز المسرحية· النص المعروض استغرق ما يوازي الـ45 دقيقة، قدم فيه الممثلون متناً حكائياً صعباً كونه مغرقاً بالرمزية والدلالات غير المكشوفة، والإيحاءات التي تحتاج إلى وضوح باستمرار· أما الحوار، فكان في أغلبه فلسفياً، يمتلك تساؤلاته الكبرى حول الموسيقى والموت والإنسان والتسلط وحقوق الذات المعذبة· ولكن لنقل بوضوح إن هذه الدرامية العالية عبر خطابها الفلسفي من الصعوبة أن تصل إلى المتلقي بيسر ووضوح، إذ إن التمويه الرمزي يغلب عليها ولكن لا يعني هذا أن النص ظل حبيساً لهذه الرموز، بل كشف عن قدرة في تمثل ما هو مأساوي يصل بالدراما إلى مصاف الأعمال الجادة بكل ثقة· استغرق النعيمي وأبو شامس كل زمن النص حتى أنهما كممثلين رئيسيين لم يغادرا المسرح إلا لثوان معدودات، وبالرغم من أنهما قدما عرضاً بارعاً إلا أن هذا لم يكن لصالح النص· أما سبب عدم مغادرتهما المسرح فلأن النص قائم على الحوار لا على الحكاية· فالنص عرض لمفاهيم وليس عرضاً لصراعات· مفاهيم التسلط ورفضها· وليس صراعاً بين قوى الشر والخير· إذ الموسيقار يمتلك ما يجعل القمع لديه مستمراً أما حركة الممثلين على المسرح فتبدو بطيئة ومجمل النص المسرحي كان يسير بخطى غير متسارعة ما دام الحوار قائماً لا حركة الحكاية ولهذا فإن النص ولكونه حوارياً فإنه أبطأ من فاعلية الحدث فقدم موقفاً لا صراعاً· وعليه يصبح النص حتى بهذا التوصيف نصاً ذا ملامح صفراء، عبرت عنه الموسيقى بكل تمثلاتها المريضة فاستحق أن يقال عنه ''موسيقى صفراء''· لقد عزفت في العمل المسرحي أعمال ''الموسيقار المصري'' عمر خيرت التي كانت مقطوعة المايسترو، أما مقطوعة المؤلف فهي للموسيقار ياني Yanni·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©