الجمعة 10 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حسابات خاطئة

حسابات خاطئة
16 مارس 2012
(القاهرة) - أفكار الشباب في معظم الأحيان تكون حماسية نابعة من المثالية في التعامل مع المواقف والظروف، لا تقبل الانصياع والتضحية، والتفاني هما عنوان كل تصرف بلا انتظار لجزاء أو شكر، وهكذا كانت رؤيتي وأنا طالب بالجامعة عندما كنت أدرس في كلية نظرية، ورغم أن ظروفي المادية كانت سيئة، فإنها لم تؤثر في القيم والأصول عندي، لكن الفقر جعلني أتقوقع أحياناً على نفسي وأعتزل الآخرين، من أجل التركيز في الدراسة وعبور هذه المرحلة الصعبة، وأيضاً لأنني لا أستطيع أن أساير زملائي وزميلاتي في الخروج والتنزه والرحلات التي كانوا ينظمونها، أسوق الحجج التي تبدو في ظاهرها مقنعة، بينما في باطنها أنني عاجز عن المشاركة بسبب ظروفي المادية. توفي أبي منذ كنت في المرحلة الابتدائية وتركني أنا وأخي الأكبر وأمي لا نملك إلا بعض القراريط من الأراضي الزراعية ورثتها أمي عن أبيها، أخي لا يهتم بكيفية تسيير أمور حياتنا، وإن لم يكن مسرفاً في الإنفاق، إلا أن دوره سلبي، بل مفقود في أسرتنا الصغيرة ولا يُشارك برأي أو فكرة، وتحملت أنا مع أمي المسؤولية، ولم يكن أمامنا اختيار إلا أن نبيع من الأرض قطعة تلو الأخرى حسب الحاجة، وبعد أن تخرجت لم يبق بين أيدينا منها شيء وغادر أخي إلى مدينة نائية وعمل بها معلماً في إحدى المدارس وتعرف على واحدة من زميلاته وتزوجها وانقطعت صلته بنا تقريباً، ولم يكن بيننا إلا الرسائل البريدية مرة كل عدة أشهر. بعدما انتهيت من الدراسة ما زالت أفكار الشباب هي التي تسيطر على كل تصرفاتي، وأول ما كان يشغلني هو أن أهتم بأمي ولا أتركها تحت أي ظرف، بينما هي تواصل سلسلة تضحياتها وتريدني أن أركز لتأسيس حياتي وبناء مستقبلي، وكان هذا هو محل الخلاف الجميل بيننا وربما يتجدد الحوار حوله بطريقة أو بأخرى كل عدة أيام، حتى أنني رفضت فرصة عمل جيدة ستحرمني من البقاء معها، وقد اضطر لزيارتها كل عدة أسابيع وعوضني الله عنها بوظيفة أخرى أتاحت لي الإقامة الكاملة معها ورعايتها والاهتمام بها، خاصة وأنها تقدمت في العمر واقتربت من السبعين. راتبي لا يكفي إلا للضروريات من الحياة ولا مجال لترفيه أو كماليات، إلا أننا راضون وقانعون ولا تشغلنا تلك الأشياء، وإن كانت مسألة التفكير في الزواج تراودني مثل أي شاب بلغ الرابعة والعشرين من العمر إلا أنها لم تكن ملحة أو عاجلة غير أن الأهم من هذا كله هو المبدأ الذي لا أحيد عنه، إذ لا تراجع ولا تفريط في الشروط، فأنا أؤمن بأنني يجب أن أتحمل تلك المسؤوليات بشكل كامل مثل أي رجل سويّ تكون له القوامة في بيته وعلى أهله ليس من قبيل التحكم وإنما من قبيل أن للرجال مهامهم وللنساء مهامهن كل حسب طبيعته وتكوينه، ولا يمكن أن أتنازل عن رجولتي في أي مقابل. وسط هذه الأجواء جاءتني أمي بعروس لا أعرفها، ترى أنها مناسبة لي من كل النواحي؛ لأنها من أسرة تقاربنا في المستوى الاجتماعي والعادات والتقاليد، والأهم هي الشقة التي ستحل لنا أكبر مشكلة، إذ إنني غير قادر على الاقتراب منها أو بالأحرى عاجز حتى عن مجرد التفكير فيها، فهي فوق كل إمكاناتي وبعيدة عنها، لكن ذلك لن يثنيني عمّا أتمسك به ومع إلحاح أمي الشديد وتأكيدها أن تلك فرصة يجب أن أغتنمها؛ لأنها لن تعود وحاولت أن تقنعني بكل الوسائل بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى، لذلك قررت أن أسايرها، وأن أضمر في نفسي البحث عن وسيلة لعدم إتمام الموضوع وأخطط كي يأتي ذلك من الطرف الآخر. الفاجعة كانت عند اللقاء الأول للتعارف ظهرت الصدمة على ملامح وجهي، وأعتقد أن الجميع لاحظوها، فالعروس لا صلة لها بالأنوثة أو الجمال وإن تغاضيت عن عدم تعليمها، إلا أن المصيبة الكبرى أنها مطلقة وأقول مصيبة لأنني لا أعرف شيئاً من هذه المعلومات قبل ذلك، وقد يكون الجميع تعمدوا إخفاءها إلى أن يتم وضعي أمام الأمر الواقع، وعلمت فيما علمت أن تلك الشقة التي تملكها، وهي الميزة الوحيدة لديها قد آلت إليها من طليقها الذي تنازل لها عنها كي يتخلّص منها بعد أن استحالت العشرة بينهما. اعتقدت أن أمي سوف تغير رأيها بعد أن عرفت ما عرفت، إلا أنني فوجئت أنها على علم بكل التفاصيل وأكثر وحاولت أن تجملها في عيني وتركز على ميزتها الوحيدة وتتغاضى عمّا رأيته عيوباً أو ما لم أجده عندها من مميزات وفي الحقيقة مع الرفض المبدئي الذي كنت أكنه، فقد حسمت أمري واتخذت قراري النهائي الذي لا رجعة فيه بالرفض التام أو الموت الزؤام خاصة وأنني لا أقبل أن أعيش في بيت زوجتي؛ لأن هذا يعني ببساطة أنني تنازلت عن أهم المبادئ التي أعتقدها وهي كل رصيدي في الحياة. بالقطع لم تكن لديّ أي نية للمناورة بعد ما تبينت الصورة ولا بد من إعلان موقفي واضحاً بغير مواربة أو لبس كي أحسم الموقف بشكل نهائي، لكن ذلك لم يعجب أمي وغضبت غضباً شديداً مؤكدة أنها تعرف مصلحتي أكثر مني، لكنني استرضيتها وشرحت لها وجهة نظري بأن المال وحده لا يمكن أن يصنع السعادة وأرى في الأفق ملامح لعدم الاتفاق ولست على استعداد للدخول في تجربة أرى أنها محكوم عليها بالفشل وعندما أنظر في المرآة أجدني على حق ولا بد من التمسك به، فلن أسامح نفسي إذا قبلت هذا العرض، فما في تلك المرأة لا يغري أي شاب مهما كانت ظروفه وإمكاناته، والأهم أنني لم أكن متقبلاً لها أصلاً. أصدقائي والمقربون مني والمحيطون بي كان معظمهم على عكس وجهة نظري، لديهم قناعة بأن المال وحده قد يصنع السعادة، ومن يقول بغير ذلك فهو مخطئ أو لا يعرف الحقيقة، وتدخلوا محاولين إقناعي بألا أفوت الفرصة وكرروا نفس التعبيرات التي تستخدمها أمي على مسامعي، وكدت أشك في عقلي وطريقة تفكيري إلا أن القلة الباقية من هؤلاء أيدت وجهة نظري، ولم يكن ذلك حلاً للمشكلة أو نهاية للحيرة التي أغرقوني فيها وان كنت أقرب إلى الرفض عن قناعة تامة إلا أن النفس البشرية تميل بالكلام وتريد أن تستحوذ على كل الأشياء ولو كانت مرفوضة أحياناً من باب التجريب. لم أجد في النهاية إلا أن أستمع إلى صوت العقل والحكمة وأن أنجو من هذا المطب أو الفخ غير المقصود، قبل أن أقع فيه واستطعت أن أقنع أمي بوجهة نظري فبكت بدموع غزيرة، وقالت يا ولدي ما أردت أن أوقعك في زيجة لا ترغب فيها وإنما أشفقت عليك من الفقر وخشية أن يفوتك قطار الزواج وأنا في داخلي أتمنى لك كل السعادة مع فتاة عذراء تكون أجمل الجميلات وما أسعدني في هذا الموقف أن أمي تفهمت رؤيتي ولم تكن غاضبة مني وهذا هو الأهم عندي ولا أرى أي ندم على فوات الفرصة، كما كانوا يريدون أن يعتبروها وما زال المستقبل أمامي رحباً والحياة مقبلة ولا داعي للتعجل الذي قد تكون خسارته أكبر من فوائده. نسيت الأمر كله وانغمست في أمور الحياة بين عملي والاهتمام بأمي المريضة التي انتقلت إلى جوار ربها بعد عدة أشهر لتتركني وحيداً وقد فقدت كل سند وأخي لم يعد يزورني لأنه منشغل بأسرته وحياته وتكاد الصلة بيننا تكون مقطوعة ولا أبرئ نفسي من التقصير، لكن الدنيا هكذا غرورة وقادرة على الإلهاء، حتى بلا مشاغل حقيقية والسنون تمر سريعة، من غير أن أشعر بها كأنني تنبهت فجأة لأجد نفسي بعد الأربعين وما زالت حياتي عند نقطة الصفر لم تتقدم قيد أنملة ولم أحصل على المسكن ولم أدخر مالاً ولم أحقق أي شيء مما كنت أرجو وأتمنى. أحد أصدقائي غير المقربين تزوج تلك المرأة التي رفضتها ويتمتع بمالها وما تملك من زوجها السابق، وقد استنكرت حينها تصرفه ووصفته بأنه وصولي مستغل تنازل عن رجولته مقابل حفنة من المال وأنه بلا مبادئ، وقد انتقل للإقامة معها وما وصلني من أخبار أنها نعم الزوجة الهادئة التي سعد بها وسعدت به وكما يقال أنجبا البنين والبنات وعاشا في تبات ونبات ولم أندم ولم تتغير وجهة نظري في القرار القديم الذي اتخذته، فما زلت عند موقفي وان البعض ما زالوا يرون أنني مغفل. وفي الخمسين من عمري وأنا بين الوحدة والفراغ أدركت أنني قاربت على الخروج من الدنيا صفر اليدين ولن تتحقق لي أي أمنية وما زلت عاجزاً عن الوصول إلى أي هدف مع أنني أعمل واجتهد، لكن بلا نتيجة تذكر وقد ضاقت فرص الاختيار أمامي إلى أقصى درجة ممكنة فالفتيات اللاتي يصلحن للزواج أصبحت في عمر آبائهن، ولا أخفي أنني بدأت أستشعر أنني بحاجة ماسة إلى امرأة تؤنس وحدتي التي طالت، لكن من الصعب العثور عليها وأنا في هذه الظروف، ولا أدري إن كان من سوء أم من حسن الحظ أنني وجدت «عانساً» فاتها قطار الزواج من سنين ورثت مسكنا عن أبيها وإن كانت لا تختلف كثيراً عن المرأة التي زهدت فيها، إلا أنني الآن لا أريد أن أفوت الفرصة. تزوجتها وقبلت وأنا عجوز ما رفضته وأنا شاب وتنازلت عمّا كنت أتمسك به واعتقدت أنها ستعوضني عمّا مضى، لكنني كنت واهماً أيضاً، فقد كان كل ما بيننا مختلفاً لم نتفق على أبسط الأمور وتم الطلاق وخسرت في كل الأحوال، ومن المؤكد أنني لا أجيد مهارة الحسابات ولا سر التنازلات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©