الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأزمة الأوكرانية.. الأبعاد الأوروبية والدولية

25 مارس 2014 22:37
بروز معضلة الهويات المتعددة والمختلفة في القارة الأوروبية من جديد مع استمرار بروز الدور الروسي، والذي يعكس مكانتها العالمية المتجددة، يقود من دون شك إلى تهديد استقرار أوروبا بأكملها، ولا يقطع وعداً باستمرار الجزء الغربي منها في الرفاهية. كما أن أوروبا أصبحت قريبة من الشرق الأوسط في كونها قارة تتصارع فيها الدول العظمى (اتحاد روسيا والولايات المتحدة الأميركية)، فهذه واشنطن تمثل الغرب بمنظومتهِ الرأسمالية والليبرالية، وفي الضد موسكو التي تناهض القوة الغربية الرأسمالية الليبرالية وتطمح برجوع هيبتها السابقة على أساس أن هناك توازناً في النظام العالمي. فأحداث الأزمة الأوكرانية تجعلنا نستعرض ونحلل المصالح الأميركية والروسية في القارة الأوروبية، مع التعرف على ما يهدد الوحدة الترابية وحالة الاستقرار لأوروبا، والآثار المترتبة على الساحة الدولية. المحور الأول: أوروبا بين المصالح الأميركية والروسية. أولاً: المصالح الأميركية: أ. الأمن ضد مهيمن معادٍ: تكمن المصلحة الأمنية الأميركية الأكثر جوهرية في أوروبا من منطلق البعد التاريخي والأمني في الحيلولة دون ظهور مهيمن معادٍ أو مهيمن محتمل، يمكنه أن يشكل تهديداً مباشراً للأمن الأميركي، مثلما فعلت ألمانيا النازية، وروسيا السوفييتية. فألمانيا اليوم بلد ديمقراطي متكامل مع بلدان ديمقراطية أخرى في “الناتو” والاتحاد الأوروبي- فهي لا تشكل مثل هذا التهديد، رغم أن مكانتها في أوروبا تعد كبيرة. والتهديد الآخر الممكن، بل الواقع في أوروبا هو روسيا، فبعد انهيار الشيوعية وانشطار الاتحاد السوفييتي تقلصت كثيراً قدرة روسيا (وإرادتها الممكنة) لتشكل مثل هذا التهديد، لكن بروز روسيا من جديد باعتبارها “منافساً نداً” بقيادة بوتن أصبحت معضلة واقعية للغرب عموماً، ولكن للمعضلة هذه ميزة كبيرة للعالم، لأنها تخلق حيزاً أكبر لمسارات العلاقات الدولية التعاونية والصراعية بين الدول. وتبقى روسيا قوة نووية استراتيجية مع ثقلها كمورّد للنفط والغاز، إضافة إلى قوتها في الصناعة الحربية وسعيها لتكوين تنوع صناعي ومكانة للاستثمار العالمي، وليس غريباً أن تكون روسيا تجني من جديد نفوذ الاتحاد السوفييتي حيث للقيادة الحالية أهداف تصبو إلى ذلك. ب. دعم حلفاء ديمقراطيين ليبراليين. فمع المصالح الأمنية الملموسة، لدى الولايات المتحدة مصلحة عامة في دعم وتوسيع مجموعة البلدان التي تشاطرها في النظم السياسية الديمقراطية ذات اقتصاديات السوق الحرة. وأصبحت هذه المصلحة بعد الحرب العالمية الثانية محدِّدا رئيسياً للسياسة الأميركية تجاه أوروبا الغربية. وبانهيار الشيوعية، أصبحت للولايات المتحدة مصلحة مهمة في توسيع مجموعة هذه الدول بدعم عمليات التحول في حقبة ما بعد الشيوعية في أوروبا الوسطى والشرقية. وينظر إلى التواجد العسكري الأميركي في أوروبا بصورة واسعة باعتباره مساعداً في دعم التطورات الاقتصادية والسياسية الملائمة، وهو ما يشبه إلى حد ما ما قدمته أميركا من مساعدة لتشجيع الاستقرار وإصلاح النظم الاقتصادية في السنين الخوالي في غرب أوروبا في فترة الخمسينيات (مشروع مارشال). فالتواجد العسكري الأميركي في أوروبا يبرره الدفاع عن أوروبا نفسها، ولكنه يساهم أيضاً في قدرة أميركا على حشد القوة في مناطق أخرى من العالم، لاسيما أفريقيا والخليج العربي. ج. المصالح الاقتصادية: رغم أن أهمية أوروبا الاقتصادية قد تقلصت بالنسبة للولايات المتحدة في السنوات الأخيرة بسبب بروز شرق آسيا وأسواق أخرى آخذة في البروز، فإن للولايات المتحدة رهاناً ضخماً في أوروبا الغربية ولها مصالح اقتصادية متزايدة في أوروبا الوسطى والشرقية. ثانيا: روسيا وأوروبا: تضارب مسار أوروبا الغربية: هناك مساران في تضارب، الأول الحدود النهائية لمشروع اندماج أوروبا الغربية، والمدى الذي يمكن أن تصله التوجهات شرقاً، المسار الآخر ما مدى نجاح روسيا بمفردها أو بالاشتراك مع دول أخرى، في استعادة مكانة القوة الجيوسياسية النسبية التي تمتعت بها في الحقبة السوفييتية. وتستمر سياسة روسيا الخارجية في التركيز على ما تسميه رسمياً “الخارج القريب”، وكانت أهداف روسيا وسياستها تجاه كومنولث الدول المستقلة قد أُعلنت في مرسوم رئاسي وقعه يلتسين في سبتمبر1995 بعنوان “استراتيجية روسيا تجاه الدول أعضاء كومنولث الدول المستقلة”. ونصت الوثيقة على أن أولوية سياسة روسيا الموالاة إلى كومنولث الدول المستقلة هي نتيجة عاملين: تمركز المصالح الحيوية الروسية في الاقتصاد والدفاع والأمن وحماية حقوق الروس في إقليم الكومنولث، وبصورة مهمة فإن التعاون الفعال مع دول الكومنولث يُعد عاملًا مهماً لبروز وتنامي القوة الروسية في أوروبا والعالم بوجه عام. والسياسة الخارجية الروسية ترفض قطعاً التمدد العسكري والسياسي الغربي في دول أوروبا الشرقية، لأنه يهدد قوة ونفوذ روسيا. العلاقات الاقتصادية: إذا كانت أوروبا بها التكنولوجيا والصناعة والمال المستثمر في جزئها الغربي، فإن لموسكو أيضاً أهمية كمصدر للطاقة ومكاناً للأسواق والتكنولوجيا النووية والصناعية ما يعزز مكانتها العالمية في التنافس والصراع مع النفوذ والسياسات الغربية في مناطق متعددة من العالم. المحور الثاني: تهديد أوروبا نتناول هنا بعض الهويات التي تهدد الوحدة الوطنية للدول الأوروبية، ثم نطرح المعضلة الأوكرانية كمثال على زعزعة الاستقرار الأوروبي وأبعادها الدولية. التحديات الأكثر خطورة للوحدة الترابية في أوروبا الغربية توجد في بلجيكا (إقليم فلاندرز الناطق باللغة الهولندية) وإسبانيا (إقليم كتالونيا)، وهناك حركات انفصالية نشطة في المملكة المتحدة (أسكتلندا وأيرلندا الشمالية) وفرنسا (جزيرة كورسيكا المتعددة في أعراقها). ولا توجد حركات انفصالية قائمة على العرق في ألمانيا ولكن هناك توجه لتفضيل وتقديم السياسات العامة للولايات الألمانية على حساب التوجه الأوروبي. وفي جزء آخر من أوروبا يبلغ عدد المجريين الذين يعيشون خارج المجر (في رومانيا وسلوفاكيا وصربيا وأوكرانيا وسلوفينيا) حوالي 3.5 مليون نسمة. ورغم أن المجر أعادت التأكيد على قبول حدودها لما بعد الحرب العالمية الأولى في معاهدات واتفاقات مختلفة ومتعددة الأطراف، لكن ليست هناك أية ضمانة بألا تصبح المشكلات العرقية مصدراً للنزاع في المستقبل بين المجر ورومانيا، أو بين المجر وسلوفاكيا. وهناك جزيرة قبرص المتصارع عليها بين اليونان وتركيا، وأيضا الاتحاد الروسي مثالا آخر، حيث فيه ما نسبتهُ 20 بالمئة من السكان غير الروس لا زالوا يشكلون حوالي 30 مليون نسمة، الكثير منهم مسلمون ويتركزون في مناطق تتمتع بالحكم الذاتي أو شبه الذاتي. المعضلة الأوكرانية أبعاد دولية تعدد الأعراق والأديان ليس لصيقاً بالشرق الأوسط وحسب بل أوروبا والعالم بأسره، فلا توجد دولة متجانسة عرقياً ولغوياً ودينياً، وإنما التجانس متفاوت رغم أنهُ قاعدة مهمة لأمن الدول، فكلما زادت نسبة التجانس بين السكان زادت قوة وأمن الدولة وأصبح شعارها قومياً، والعكس صحيح. وفي الاتحاد السوفييتي السابق تعد أكثر التوجهات تلك المرتبطة بالأعراق، وهي التي تشغل بال 25 مليون روسي يعيشون خارج الاتحاد الروسي. وقضية هؤلاء الناس في المقابل مرتبطة بمسألة الحدود الإدارية الداخلية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية التي أصبحت عام 1991 حدوداً دولية. وتعد القرم في أوكرانيا و”الأراضي العذراء” في شمال كازاخستان أقاليم اعتبرت تاريخياً ضمن روسيا، وهي مكتظة بالسكان الروس. وبعد الاستقلال تعهدت حكومة “يلتسين” باحترام الحدود السابقة بين الجمهوريات باعتبارها حدودا دولية صالحة. فلأوكرانيا أقلية كبيرة من الروس في الشرق والقرم، لذا من الطبيعي حدوث هذه الأزمة. ولرومانيا أيضاً خلاف خاص مع أوكرانيا على جزيرة زميني Zmeinyy (الثعبان). الأزمة الأوكرانية الحالية تذكرنا بالحرب الروسية الجورجية 2008 التي نتج عنها انتصار روسيا واعترافها بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا كدولتين مستقلتين. فكلما أتى الغرب بأيديولوجيتهِ ومصالحهِ نحو روسيا كلما عاد مهزوما، وهذه المرة أتى محاولاً تطوير العلاقات التجارية والسياسية مع أوكرانيا في فلك الاتحاد الأوروبي، دون أن يتحسب للاعتبارات السياسية والأمنية، والتي تفسح المجال لدخول البضائع والقيم الغربية الأوروبية إلى السوق والساحة الاجتماعية الروسية، التي لابد وأن تشجع على التوسع العسكري للحلف الأطلسي. فأحداث أوكرانيا الحالية تحمل أبعاداً اقتصادية وأمنية دولية متعددة، أولاً، تتعلق بالعلاقة المضطربة بين كل من أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية مع روسيا، فأوروبا الغربية لا تتعامل مع روسيا خارج المنظور والمصلحة الأميركية، لذلك عليها أن تعيد تقويم سياساتها تجاه موسكو. ثانياً، الاستفتاء في جزيرة القرم أتى في صالح استقلال شبه الجزيرة عن أوكرانيا وضمها إلى روسيا، وكأن ذلك إعلان بأن موسكو لن تتخلى عن العودة إلى نفوذها في حقبة الحرب الباردة، وستكون أكثر صرامة في الصراع على الموارد الطبيعية في مناطق عدة منها القطب الشمالي. ثالثاً، لاجدوى من العقوبات على روسيا من قبل أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، لأن تلك العقوبات الاقتصادية ستزيد من حدة الصراعات الدولية الأخرى، فالادعاء بأن الدول الأوروبية الشرقية لابد أن تهرول في علاقات قوية نحو الاتحاد الأوروبي حتى تضعف روسيا أمام الغرب يكون ادعاءً مصحوباً، على أن الصين بعد أحداث القرم لا بد أن تزداد صرامة في منظور “الصين الواحدة” أمام تايوان وحلفائها كواشنطن، وسوف تتمتع كوريا الشمالية بدعم من موسكو وبكين أيضاً، ناهيك عن تزايد دور دول أميركا اللاتينية التي تناهض نفوذ الولايات المتحدة. رابعاً، محاولة تقليل الغرب من الاعتماد على الطاقة القادمة من روسيا عبر أوكرانيا المقدرة ب40% يقود بها إلى البحث عن موارد النفط والغاز في شمال أفريقيا القريبة جغرافياً من أوروبا كالجزائر وليبيا وتأمين استقرارها وتبعيتها، وفي هذه الحالة كأن أوروبا الغربية تبحث عن روسيا في أفريقيا، فالمنطقة لا تخلو من مزاحمة موسكو وبكين لها في مجالات الطاقة والأمن والاستقرار. خامساً، سوف يستمر عدم الاستقرار في الشرق الأوسط مع تزايد أهميتهِ في الطاقة متأثراً بالأزمة الأوكرانية، وهنا سوف نشهد تدخلات غربية وروسية في بؤر استقرار الشرق الأوسط مدفوعةً بالمصلحة الخاصة في الطاقة والأمن، ومن تلك الحلقات ستكون طهران في قوة أمام التفاوض مع الغرب، ونظام “البعث” السوري سيبقى لفترة ما إلى أن ترفع موسكو يدها عنه، وسوف يزداد التعاون بين روسيا والخليج ومصر في مجال الأمن والاقتصاد والطاقة على خلفية موقف موسكو من التمسك بحلفائها، وتوتر العلاقة الأميركية مع بعض دول مجلس التعاون الخليجي ومصر في مسألة “الإخوان” والتقارب مع طهران وتخفيف الحضور الأمني الأميركي في المنطقة. أخيراً إعلان استقلال شبه جزيرة القرم ليس بإعلان تغير المناخ الأوروبي إلى مناخ الحرب الباردة وحسب، بل ربما سوف نشهد اضطراباً كبيراً في أوروبا بسبب بروز الهويات والأعراق، وهنا يكون مناخ القارة ممتزجاً بمناخ الحرب الباردة وبتوترات الشرق الأوسط.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©