الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أمي الأخرى

أمي الأخرى
17 أغسطس 2009 00:06
حكاية والدي مع والدتي حكاية عجيبة، سمعتها مراراً من جدتي، وفي كل مرة كانت تزيد وتنقص من أحداثها بحسب حالتها النفسية، فجدتي لم ترض يوماً عن ذلك الزواج، وعن تلك المرأة الأجنبية التي تزوجها والدي، وأحضرها من بلدها ليضع أهله أمام الأمر الواقع. تقول جدتي: كانت أمك شابة جميلة وجذابة، كانت خجولة وخائفة، لا تدري كيف تكيف نفسها للحياة معنا، فهي جاءت من بلد متحرر، ونحن كما تعلمين متمسكون بعاداتنا وتقاليدنا، لا أعلم لم رضي أهلها بأن يزوجوها في بلد بعيد لتعيش وحيدة ومعزولة !! إنه بالتأكيد بسبب المال، فلا شيء يسبب التعاسة والألم غير الحاجة للمال. كان والدك متعلقاً بها بشدة ويغار عليها من نسمة الهواء، كان يقفل عليها باب غرفتها بالمفتاح، حتى صارت كالسجينة. تحدثنا إليه كي يخفف عنها هذا التشدد، فانصاع لرأينا وترك لها باب الغرفة بلا قفل، ولكنه طلب منا حراستها بشكل مستمر. لم ترزق بالأطفال في السنة الأولى من الزواج، فصارت تقضي وقتها بالاهتمام بنفسها، طوال الوقت تضع الأصباغ والمساحيق، وترتدي الثياب المتبرجة، كنا نختلس النظر إليها لننتظر ما الجديد الذي ستفعله اليوم بنفسها، لا أحد يدري كيف استطاعت وعلى الرغم من كل الحراسة المشددة عليها من الهروب من البيت لمرات عديدة، وقد استطاعت التعرف إلى شاب من بلدها، كانت تخرج معه للتنزه. علم والدك بذلك، فضربها بشدة وأعاد إغلاق الباب عليها بالمفتاح، كانت تبكي لدرجة الموت، وكنا نطلب منه أن يطلقها، ولكنه لم يقبل بذلك لأنه كان يحبها. بعد ذلك رزقها الله بالأطفال، فأنجبتكم أنت وإخوتك الثلاثة، وقد اعتقدنا بأن الأمومة ستغيرها وستحول اهتمامها نحو أطفالها، ولكنها لم تكن تكترث لكم، وظلت تعتني بنفسها طوال الوقت، وتفكر بالهرب من سجن الزواج. بعد أن عجزنا عن مهمة مراقبتها طوال اليوم لكي لا تهرب، وعجزنا أيضاً عن إقناع والدك بفكرة تطليقها، كما عجزنا عن تقبلها بيننا وهي تظهر في البيت بين فترة وأخرى بملابس لم نتعود عليها، عندها طلبنا من والدك أن يخرجها من بيتنا لتعيش في منزل مستقل، واقترحنا عليه جلب خادمة للعناية بالصغار وبنظافة المنزل ولمراقبتها في تحركاتها، فاستجاب أخيراً لإلحاحنا وأخرجها لتعيش على راحتها، تخرج وتأتي كما تشاء غير مكترثة لسمعتها ولا تخاف ولا تخشى من أي شيء بعد أن استطاعت إسكات الخادمة بما كانت تمنحها من أموال. حياتنا الأسرية كلما كبرت ووعيت على هذه الدنيا، أدركت بأن أمي ليست مثل بقية الأمهات، فلم أشعر يوماً بحنانها، ولم أستطع أن أتواصل معها بأي شكل من الأشكال. كنت أتساءل منذ صغري مع نفسي عن نوعية هذه الأم التي لم تكن تحتمل أن يقترب منها أحد صغارها، وقد تركتهم للخادمة لتكون أمهم بدلاً عنها. كل مخلوقات الله لها أم وهي تعتني بصغارها بالفطرة، إلا نحن !! أنا وإخوتي، فقد أدركنا منذ الطفولة بأننا محرومون من حنان الأم ورعايتها، وليس ذلك فقط، وإنما توّلد لدينا شعور بالحقد على تلك المخلوقة التي داست على كل القيم ولم تتق الله في أطفالها وفي زوجها. ماذا أقول ؟ فهذه الأم باعت نفسها للشيطان وأسلمته قيادها واندفعت وراءه وهي مغمضة العينين. كانت تخون أبي باستمرار وهي لا تخجل ولا تخاف عندما تتحدث مع عشاقها بالهاتف أمامنا نحن أطفالها، ولا تتردد باستقبال أحدهم بعد منتصف الليل وهي معتقدة بأننا نيام. كنت أبلغ من العمر عشر سنوات عندما شاهدتها بعيني وهي تدخل رجل غريباً في غرفة نومها. بكيت كثيراً، ولم أستطع أن أفعل شيئا، إخوتي الأولاد أصغر مني، وقد كانوا يدركون بأن ما تقوم به أمي هو خطأ وعيب، ولكنهم كانوا مجرد أطفال لا حول لهم ولا قوة. كان والدي مضطر للغياب عن المنزل بسبب ظروف عمله، فهو يعمل في شركة بترول في الصحراء، حيث يضطره عمله للبقاء أسبوعاً كاملاً، ثم يعود أسبوعاً إلى البيت. كانت والدتي تتركنا أحياناً في غياب والدي لأيام فلا نراها لا ليلا ولا نهارا ونبقى في البيت تحت رعاية الجيران وإشرافهم، وقبل موعد عودة والدي تعود أمي وتبدأ بتحضير المشاكل والنكد لاستقباله، حتى تنغص عليه حياته فيضطر لتطليقها. أتذكر جيدا بأنني وإخوتي توسلنا إلى والدنا ليطلق أمنا ويتركها تذهب لحال سبيلها لكثرة ما كانت تفتعل المشاكل أثناء وجودها بيننا، وكنتيجة لإلحاحنا قام بتطليقها، ففرحت فرحاً شديداً وجمعت حوائجها بسعادة ثم انطلقت إلى غير رجعة، وكأنها تحررت من سجن بغيض كان يكتم على أنفاسها. بداية جديدة بعد أشهر قليلة تزوج والدي من فتاة طيبة اختارتها جدتي، فكانت هي النعمة التي عوضنا الله بها من حرماننا من أمنا. إنسانة تخاف ربها وتخشاه، ضمتنا إلى قلبها ورعتنا بمنتهى العطف والحنان، أشياء كنا نفتقدها في حياتنا. علمتنا الأخلاق، علمتنا السلوك الصحيح، علمتنا النظافة، علمتنا كيف نتواصل مع ربنا وكيف نجتمع في جلسات عائلية حميمة فيها الود والحب العائلي. لقد عوضنا الله بهذه المرأة عن كل ما كنا محرومين منه، حتى دروسنا التي كنا متخلفين فيها ولا ننجح إلا بصعوبة، اهتمت بتدريسنا، فأصبحنا من المتفوقين. علمتنا الصلاة والصوم وكل شؤون الدين، علمتنا كيف نحترم أبانا، وكيف نعامل جيراننا بالحسنى، وكيف نتواصل مع أهلنا ونسأل عنهم. علمتنا كل شيء كنا نفتقده في حياتنا مع أمنا الأخرى. مرت السنون سريعا ونحن في ظل حنان ورعاية أمنا الجديدة، وكنت قد نسيت بأن لي أماً أخرى حتى ظهرت من جديد في حياتنا. وصلت إلى السابعة عشرة من عمري وكنت سعيدة بحياتنا الأسرية الجديدة لولا تلك المفاجأة التي لم نكن نتوقعها أبداً، حيث عادت أمنا وهي تدعي بأنها نادمة على كل ما قامت به وهي ترغب في العودة للعيش معنا لأنها غريبة وليس لديها مكان آخر تأوي إليه. إخوتي قالوا لوالدي: أطردها من بيتنا نحن لا نريد أن نراها.. إنها ليست أمنا. أما بالنسبة لي فقد لجمتني المفاجأة، بقيت صامته لا أستطيع الكلام. الغريب بالأمر هو موقف أمنا الثانية، زوجة أبانا، فبدلا من أن تأخذ منها موقفاً يناسب أفعالها صارت تلح على والدي بإبقائها، وقالت لإخوتي: يا أولادي إنها أمكم، وهي تائبة إلى الله، والتائب كمن لا ذنب له، وهي لا تملك ملجأ آخر تأوي إليه. كان موقفها غريباً حيث ألحت على بقائها، وأقنعت والدي بفكرتها، فأعادها والدي إلى ذمته وسط غضب واعتراض إخوتي. الصدمة لا أدري ماذا اعتراني بعد عودة أمي إلى المنزل، لقد انهارت في داخلي كل القيم وأصبحت أكره نفسي وأكره زوجة أبي لأنها كانت السبب في عودة هذه الإنسانة وكأنها لم تفعل شيئاً. أصبحت أكره ضعف أبي وتسامحه مع المرأة التي مرغت سمعته بالوحل. بدأ الغضب ينمو بداخلي ويكبر، قاطعت أهلي كلهم حتى إخوتي الصغار أصبحت لا أتحدث معهم، قاطعت صديقاتي وتركت الدراسة وانعزلت في غرفتي، هجرت الطعام وصار جسمي ينحل وأعصابي تضطرب وأصرخ لأتفه الأسباب. أخذوني للطبيب وأجروا لي الفحوص والتحاليل وكانت النتائج هي ضعف عام بسبب قلة الطعام وانهيار عصبي. أخذوني للمطاوعة فقرؤوا على رأسي الرقي ولكني لم أتأثر وبقيت حالتي كما هي عليه من التراجع الصحي والعصبي حتى أحسست بأني سأصل إلى النهاية في وقت قريب جداً. لم أكن أرغب في التحدث مع أحد ولا أرغب في الاستماع لأحد، لكنني وأنا في هذا الحال من الضعف وقلة المقاومة، جاءت زوجة أبي وجلست إلى جانبي، أمسكت بيدي فشعرت بدموعها تنزلق على وجهي وهي تقبلني، وتمالكت نفسها. بدأت بالتحدث بهدوء بكلمات عميقة دخلت إلى نفسي وقلبي بسهولة، قالت: يعز علي يا صغيرتي أن تصلي إلى هذا الحال فأنت تعلمين أن الإنسان خاضع لمشيئة الله وقدرته وأنه لا يصنع حياته بنفسه وإنما هي اختباراتنا في الحياة الدنيا التي تجعلنا نعيش في مواقف مختلفة وظروف متباينة، سلسلة امتحانات نمر بها من أجل أن يتبين مدى إيماننا وصبرنا. إن ما تمرين به هو عدم الصبر وعدم الإيمان، فذلك يجلب اليأس وعدم القدرة على المواجهة ويؤدي إلى الهروب، إنه الهروب من الامتحان الذي قدره الله تعالى علينا. كنت أتمنى أن تكوني أقوى، فتتحلين بالصبر من أجل أن تدخلي الجنة عن جدارة واستحقاق. أعرف أنك تلومين أباك وتلومينني على موقفنا من أمك، ولكن لو تمعنت بآيات الله تعالى التي تحثنا على المسامحة والعفو، لما كان موقفك على هذا النحو. إن الله غفور رحيم وهو الذي يغفر الذنوب جميعاً، ووالدتك تستحق أن تعطى فرصة أخرى فربما كانت توبتها حقيقية، فلم نكون نحن سبباً في عدم تمسكها بالتوبة ورجوعها عما كانت عليه ؟ أرجوك فكري بكلامي، وحاولي أن تتمسكي بحبل الله فهو سينجيك مما انت فيه وسيعيدك إلينا مرة أخرى زهرة ندية تعطر أركان هذا المنزل. انظري إلى إخوتك كم هم متأذون لمرضك. لقد هجروا اللعب والمرح وتركوا المذاكرة كما تركتيها أنت. لقد كنت مثلهم الأعلى فلا تجعلي مثلهم الأعلى ينهار أمام أعينهم فيضيعوا جميعاً فتكونين أنت السبب في ضياعهم. قالت حديثها وتركتني وانصرفت فحملت نفسي على التسبيح والاستغفار وذرفت الدموع الساخنة التي هجرتني منذ مدة طويلة وتحجرت في عيوني، وشيئاً فشيئاً استطعت أن أسترد عافيتي وأقف على قدمي فحملت نفسي باتجاه الصالة حيث تجتمع عائلتي للغداء، وما أن شاهدوني وأنا واقفة أمامهم حتى قفز الجميع في فرح وهم يحتضنونني ويقبلونني. عانقت أبي وإخوتي وزوجة أبي، أمي الرائعة، أما أمي الأخرى فقد جلست بعيداً تنظر إلي بعينين دامعتين كسيرتين. كيف فاتني أن أنظر إلى وجهها الذي امتلأ بهذا القدر من التعاسة والألم؟ أين المساحيق التي كانت تصبغ وجهها؟ أين الألوان التي كانت تصبغ شعرها؟ أين الملابس البراقة والعطور التي كانت تفوح منها؟ إنها ليست المرأة نفسها، هذه المرأة حزينة كسيرة، إنها تثير الشفقة والألم لمن يراها. كيف لم أكلف نفسي مشقة النظر إلى وجهها بعد عودتها؟ تأسفت كثيراً لموقفي منها. سرت باتجاهها فانكمشت خائفة كأنها تتقي ما سأوجهه إليها من كلمات أو صفعات، ولكني مددت إليها يدي لاحتضانها فهبت واقفة غير مصدقة وأقبلت نحوي تحتضنني وتبكي وهي تردد: سامحيني يا ابنتي فأنا إنسانة أستحق ما جرى لي. بعدها تغيرت حياتنا نحو الأفضل بوجود أميّن متحابتين متفاهمتين وأب طيب رائع حتى صارت قصتنا حديث الناس.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©