الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التعددية العرقية... والممارسة الديمقراطية

التعددية العرقية... والممارسة الديمقراطية
17 أغسطس 2009 01:31
يُعتبر التعدد العرقي واللغوي والديني والثقافي من الظواهر الإنسانية المعهودة التي تتقاسمها العديد من المجتمعات (وجود الأكراد في سوريا والعراق وتركيا، النُّوبة في السودان ومصر، الطوارق في مالي والنيجر، الباسك في إسبانيا، الكروات والسلوفينيين.. في يوغوسلافيا، السيخ والأساميين والتيبواس.. في الهند، والبربر في شمال أفريقيا وفي السودان وفي جزر الكناري وسردينيا وصقلية ومالطة والأندلس)، ففي القارة الأفريقية التي يزيد عدد الدول فيها عن الخمسين، تتعايش حوالي 2200 إثنية متميزة بلغاتها وثقافتها. وفي آسيا التي تحتضن أكثر من ثلاثة مليارات من البشر، يوجد أكثر من 2000 إثنية متباينة في اللغة والدين والعادات والتقاليد، وعلى المستوى العالمي هناك حوالي 8000 إثنية و6700 لغة.وقد أكدت التجارب والممارسات الميدانية أن درجة انصهار وتعايش مختلف هذه الأجناس داخل المجتمع الواحد، تظل في جانب مهم منها متوقفة على طبيعة التعامل الذي تسلكه السلطات السياسية والاجتماعية نحوها، فالنأي عن العدالة والحرية والديمقراطية يحرض مختلف المكونات الاجتماعية على الاختباء خلف الخصوصية، والميل نحو الانغلاق عن المحيط العام، والبحث عن مشاريع بديلة خاصة بها، مما يفضي إلى مظاهر من الصراع والاضطراب والتعصب والانقسام، فيما التشبث بهذه القيم والمبادئ يكرس الوحدة الوطنية ويدفع نحو التعايش والاندماج. الحيف والتهميش والإقصاء التي يمكن أن يطال أحد مكونات المجتمع، ستؤدي حتماً إلى تدهور التضامن الداخلي وتهديد وحدة المجتمع، وتتسبب في بروز أزمات اجتماعية وسياسية، وتستثمر أيضاً من قبل بعض القوى الخارجية المترصدة، في شكل مؤامرات قد تعصف بالاستقرار الداخلي للدول الضعيفة. وإذا كانت بعض الدول قد استطاعت أن توفق إلى حدٍ كبيرٍ في تدبير التعددية الثقافية واللغوية والدينية والعرقية داخل مجتمعاتها، مثلما هو الشأن بالنسبة لبلجيكا وفرنسا، فإن دولًا أخرى شهدت انفجارا للصراعات العرقية والدينية، بالشكل الذي عكس قصوراً واضحاً في تدبير هذا الملف (الاتحاد اليوغوسلافي السابق، رواندا، الصومال، والعراق)، فيما تحاول دول أخرى إيجاد حلول لهذه المسألة من خلال تدابير وإجراءات تتباين في مظاهرها وفعاليتها من منطقة إلى أخرى، خاصة في ظل التحولات المتسارعة التي شهدتها الساحة الدولية في العقود الأخيرة، وانتقال مجموعة من القضايا الداخلية إلى دائرة الاهتمام الدولي (الديمقراطية، حقوق الإنسان، تلوث البيئة، والهجرة). وتعتبر المنطقة العربية التي تختزن ضمن مكوناتها الاجتماعية أقليات عرقية وإثنية ودينية مختلفة (لبنان، دول المغرب العربي، العراق، والسودان) من ضمن أكثر الأقطار حاجة إلى استثمار هذا التعدد لتقوية كيان المجتمع والدولة عبر مقاربة أكثر عدالة وديمقراطية. هذه القضايا، وبعد أن ظلت لسنوات طويلة محكومة بطوق أمني صارم وخضعت في العديد من الأحيان لتدابير صارمة باعتبارها شأناً سيادياً داخلياً يرتبط بقضايا «حساسة»، استأثرت باهتمام دولي كبير في العقدين الأخيرين؛ نتيجة للتحولات الكبرى التي شهدها العالم (انهيار الاتحاد السوفييتي الذي فرض سياسة صارمة في مواجهة الأقليات والإثنيات)، وما تلاها من تدويل لقضايا حقوق الإنسان وحرياته، حيث أصبحت تحتل مكانة بارزة ضمن خطاب مختلف الفاعلين الدوليين من منظمات حكومية وغير حكومية ودول. وقد كان لهذه التحولات أثر ملحوظ في تزايد المطالب والنضالات الأمازيغية بشمال أفريقيا، كما أنها وإلى جانب الأحداث المتتالية التي شهدتها الجزائر في منطقة «القبائل»، وتزايد الاهتمام الحقوقي والإعلامي والثقافي بالمسألة، أثرت بشكل ملموس في تعاطي الدولة المغربية مع هذا الملف الحيوي بشكل متدرج. وهكذا، وضمن التفاعل مع هذه المتغيرات وما تفرضه من تحديات وخشية من تطور الأمور إلى أشكال من الانفلات وعدم التوقع، تبنت المغرب مجموعة من المبادرات والقرارات التي توخت من خلالها إيجاد مقاربات كفيلة بمعالجة التعدد اللغوي والثقافي الذي اعتراه نوع من الإهمال في السنوات الماضية، حيث بدأت محاولات رد الاعتبار للثقافة الأمازيغية داخل المشهد الإعلامي المغربي المسموع منه والمرئي والمقروء، وبدأ تدريس الأمازيغية في بعض الأقسام التعليمية الأساسية، ثم أنشئ المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2001، الذي حددت مهامه في: «صياغة وإعداد ومتابعة عملية إدماج الأمازيغية في نظام التعليم والقيام بمهام اقتراح السياسات الملائمة التي من شأنها تعزيز مكانة الأمازيغية في الفضاء الاجتماعي والثقافي والإعلامي الوطني وفي الشأن المحلي والجهوي»، حيث أصدر العديد من الكتب والمنشورات، وترجم أخرى إلى الأمازيغية. وقد رافق هذه المبادرات بروز مواقف متباينة داخل الأوساط الأمازيغية، بين من ثمن هذه الخطوات واعتبرها منطلقاً لتأهيل شامل للأمازيغية، وبين من رفض المقاربة الرسمية باعتبارها لم تكن تتويجاً لحوار وطني واسع، وأكد أن الاهتمام الحقيقي بالمسألة يبدأ بـ»دسترتها» (التأكيد عليها في الدستور) من خلال الإشارة لمسألة تعدد الهوية واعتبار اللغة الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، كسبيل وحيد يكفل ويضمن إدماجها بشكل حقيقي في حياة المجتمع ويحصنها قانونيا. التحولات السياسية التي شهدها المغرب في العقود الأخيرة، انعكست بشكل إيجابي وملموس على المسألة الأمازيغية، فالمجهودات الملحوظة التي بذلت خلال السنوات الأخيرة في سبيل رد الاعتبار للثقافة الأمازيغية وإدماجها، باعتبارها جزءاً من التراث المغربي ومكوناً أساسياً من ذاكرة المغاربة وثقافتهم، تعد عملاً إيجابياً على طريق تحصين البلاد ضد أي مظهر من مظاهر عدم الاستقرار، وتقوية الوحدة الوطنية وتعزيز الهوية. كما أن الحركة الأمازيغية التي استفادت من مختلف التحولات السياسية المحلية أو تلك التي أفرزها المحيط الدولي، راكمت تجربة مهمة وطورت عملها ووسعت من قاعدتها الشعبية، بالشكل الذي أسهم في تحقيق مجموعة من المطالب والإنجازات. د. إدريس لكريني أستاذ الحياة السياسية، كلية الحقوق بمراكش ينشر بترتيب مع مع «منبر الحرية»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©