الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الخافي والظاهر... في «عام المتظاهر»؟

الخافي والظاهر... في «عام المتظاهر»؟
1 يناير 2012
لم ينتظر أحد حلول يوم أمس، 31 ديسمبر، حتى يحدد مدى أهمية عام 2011 وكونه عاماً فارقاً واستثنائيّاً. وكما بتنا نعرف الآن جميعاً فمنذ أول فصل الخريف بدأ الثناء ينهال على هذا العام المنقضي باعتباره عام "قوة الشعوب، والسخط، والانتفاض، والتمرد كما تبدى بشكل شديد الوضوح في الربيع العربي، وحركة احتلوا وول ستريت". وفي الشهر المنصرم أيضاً وضعت مجلة "التايم" الأميركية الشهيرة صورة متظاهر على غلافها واعتبرت العام الحالي "عام المتظاهر". لقد توافر شعور قوي لدى الجميع في مختلف أنحاء العالم، وبرز نوع من الرفض العنيد لأشكال الإفراط في استخدام السلطة، وساد إحساس بعدم المساواة، ومشاعر غضب على البنوك التي تم إنقاذها، ورغبة عارمة لدى الشباب في كل مكان في ضمان مستقبل آمن. وباختصار فقد توافر ما وصفه "كزيسلو ميلوسز" الشاعر البولندي، والأب الروحي لمنظمة "التضامن" بأنه "السر الأعمق للجماهير الكادحة الذي بات حيّاً، أكثر من أي وقت مضى"... بل إن هذا السر الأعمق قد وجد قوة غير متوقعة عام 2011 حتى لو لم يجد "لغة يعبر بها عن نفسه". والقصد أن لغة المتظاهر هذا العام كانت هي خطاب المطالبة بالمزيد من الكرامة للناس العاديين، وهي لغة انتشرت انتشار النار في الهشيم. وفي عام 1989 وصف قس ألماني في مدينة ليبزيج روح الاحتجاج بعبارة موجزة شديدة الدلالة عندما قال: "لقد كسرنا حاجز الخوف وتدفقنا إلى الشوارع". والحقيقة أن الخصائص المميزة لاحتجاجات 2011 تختلف من مكان إلى آخر، ولكن في كل مكان كانت تظهر فيه تلك الاحتجاجات، كانت تبرز بجلاء "قوة من لا قوة لهم" على حد تعبير المنشق، والكاتب المسرحي ورئيس الجمهورية التشيكي السابق "فاكلاف هافل" الذي رحل عن عالمنا منذ أسبوعين. فاكتشاف زيف النخب، والأتوقراط، وبعض السياسيين، وفضح سياسات المصالح الذاتية الأنانية، وجدت كلها صوتاً في أماكن متفرقة من العالم تختلف فيما بينها اختلاف تونس وأثينا، ومدريد، ونيودلهي، ونيويورك، وأوكلاند، وضواحي دمشق. وهذه المشاعر معروضة الآن في موسكو، حيث يتحدى الروس "الديمقراطية المقيدة" بشكل واضح. وفي أوروبا عكست الاحتجاجات مخاوف من المستقبل المظلم بسبب الديون الفادحة والإجراءات التقشفية الصارمة، وفقدان الثقة التامة في القادة السياسيين. وهذه الاحتجاجات اندلعت أولاً في اليونان ثم مرت بحوض المتوسط الأعلى عبر إيطاليا وإسبانيا. والجيل الذي قاد تلك الاحتجاجات هو أول جيل في أوروبا يكون لديه سقف توقعات بشأن مستقبله أدنى كثيراً مما كان لدى جيل آبائه، وأول جيل يشعر باللامبالاة تجاه مشروع أوروبا الموحدة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا الجيل من المحتجين الأوروبيين استمد إلهامه من ثورة الياسمين في تونس، ومن الحشود الهائلة في ميدان التحرير في القاهرة، كما استمد الإلهام أيضاً من كتابات ستيفان هيسل بطل المقاومة الفرنسية الذي حث الشباب الأوروبي على عدم التخلي عن "المثالية" وحذرهم من الخضوع للعبثية التي رآها تخيم على قارة أوروبا بأسرها كـ"سحابة ملوثة". وقد تعرضت معسكرات الاعتصام التي أقامها المحتجون في أثينا ومدريد للسخرية والتجاهل، ورآها البعض نوعاً من المواقف المظهرية المضادة في جوهرها للثقافة، والتي لا تقول شيئاً جديداً، وإن الذين نظموها هم "حمقى ينتمون للعصور الوسطى"، وأنهم مهما قالوا فلن يستطيعوا أن ينكروا أنه ليس هناك من بديل للنموذج الأوروبي القائم على الإجراءات التقشفية والاستقطاعات، والإمكانيات المتقلصة. تقول "جايل سايمون" وهي امرأة فرنسية جادة، انتقلت للعيش في مسقط رأسها بعد أن فقدت وظيفتها وشقتها في العاصمة السويسرية: "عندما رأيت صور المحتجين في ميدان «بويرتا دل سول» بمدريد اقشعر بدني... لقد شعرت بالاكتئاب، ولكن لما شاهدت ما حدث بعد ذلك في تونس ومصر فهمت ما الذي كان يقوم به الشباب الإسباني. لقد كانوا يفعلون ويطالبون بشيء لا يمكنه العمل في نظامنا، وكان لهم الحق فيما يطالبون به، ولكن لنا الحق أيضاً في عدم قبوله وإعلان أننا لسنا بحاجة إليه". و"سايمون" مثلها في ذلك مثل كثيرين هنا، تحدثت هي أيضاً عن" اليقظة" وعن" الطاقة الجديدة"! كما تحدث بعض الكتاب الكبار مثل "بول كروجمان" بشكل إيجابي عن المحتجين الذين عبرت احتجاجاتهم أوروبا ووصلت إلى "وول ستريت"، وقال إنه على رغم أنهم يبدون وكأنهم لا يعبرون عن برنامج محدد إلا أنهم على أقل تقدير يثيرون الأسئلة الصحيحة. لقد أثبتت التجربة أن كل هؤلاء الرجال البراقين الذين يرتدون بزّات أنيقة لا يحتكرون الحكمة كما كان كثير من الناس يظنون، وإنما يمتلكون قدراً ضئيلاً من الحكمة التي يستطيعون أن يقدموها للآخرين. وفي هذا المقام كتب كروجمان في مقالة له: "عندما تشن شبكة تلفزيونية مثل «سي إن بي سي» هجوماً مباشراً، على المحتجين، وتسخر منهم، وتصفهم بأنهم غير جادين، فإننا ينبغي أن نتذكر حينها كم من الرجال «الجادين» في نظر تلك الشبكة طمأنونا بأنه لا توجد هناك فقاعة عقارية، وأن آلان جريسبان كان حكيماً وعالماً لا يشق له غبار، وأن عجوزات الميزانية ستتسبب في ارتفاع معدلات الفائدة إلى عنان السماء". إن ما أفزع العديد من الشبان الأوروبيين هو تصوير وسائل الإعلام لهم بأنهم مجموعة من الكسالى قليلي الحيلة الذين يريدون أن يعيشوا عالة على الآخرين. وهناك العديد من الأسئلة التي يمكن طرحها في هذا السياق: هل من العدل أن ننظر إلى كل تلك الاحتجاجات المتفرقة والمتباعدة على أنها شيء واحد أو نماثل بينها؟ وهل يمكن المساواة مثلًا بين مجموعة من خريجي كلية الصيدلة ممن لم يجدوا عملاً بعد تخرجهم الذين تظاهروا في برشلونة، وبين المشاغبين في لندن الذين لم يكن هناك من هدف أو دافع محدد لما قاموا به من تخريب وسلب ونهب في أغسطس من العام الحالي؟ وهل يمكن المساواة أيضاً بينهم وبين المحتجين في سوريا الذين لقي الآلاف منهم مصرعهم في المصادمات مع قوات الأمن والجيش؟. كثيرون في الوقت الراهن ينتابهم القلق بشأن الاحتجاجات ويتساءلون متى تنتهي؟ وينطبق هذا بشكل خاص على الشرق الأوسط وعلى مصر وسوريا التي لا تزال الاحتجاجات فيها محتدمة. وهناك من يتساءل أيضاً: أليس هناك من وسيلة تجعل المحتجين يبقون داخل منظومة العقل الرشيد بدلاً من أن يتحولوا إلى كتلة من الغضب العارم ضد هذه المنظومة؟ ربما كانت هذه هي الشكوى الرئيسية بالذات للصفوة اللندنية من المستعمرين الأميركيين في عقد السبعينيات من القرن الثامن عشر... وربما كان هذا هو أيضاً ما قاله الناس في روما حول إصلاحات مارتن لوثر. وفي مثال أكثر صراحة ودلالة يقول البعض إن الحرس القديم في روسيا هو الذي حرض على انتفاضة البلاشفة، وهو ما أدى إلى انتصار الثورة الروسية وأدى إلى "جولاج" ستالين بعد ذلك. قد ينظر المتفائلون إلى هذه الدرجات المختلفة من الفوضى عام 2011 على أنها فترة انتقال ضرورية وأنه كان لابد منها. ومن المثير حقاً أن "ميلوسز" الشاعر الذي شارك في انتفاضة وارسو، وشاهد حركة التضامن وهي تهز كيان الدولة السوفيتية، رآها بالفعل على أنها كذلك. ففي المحاضرة التي ألقاها أمام هيئة جائزة نوبل عام 1980 كان من رأيه أن هناك حاجة ماسة لـ"القيم الحقيقية"، وأن "حرية التعبير بين الناس العاديين لا يمكن كبتها إلى الأبد" وكان مما قاله في هذه المحاضرة أيضاً: "إن هناك عملية تحول ضخمة جارية على قدم وساق... عملية تتحدى التنبؤات القصيرة الأجل.. عملية قادرة على رغم كافة المخاطر والشرور على إثبات أن زمننا الحالي سيتم النظر إليه والحكم عليه على أنه فترة عناء وكفاح ضرورية قبل أن يصعد الجنس البشري إلى مرحلة جديدة من الوعي". روبرت ماركاند - باريس ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©