الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الصامتون بلا حدود

الصامتون بلا حدود
17 مارس 2012
لو صدق المثل العربي الذي يقول إن الصمت من ذهب إذا كان الكلام من فضة، وهو تحديداً: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب»، لو صدق هذا المثل لكان الخرسان والإمعات هم مليارديرات العرب، لأنهم لا يتكلمون، ويوغلون في الصمت حتى الرمق الأخير. قد يكون الكلام في غير موضعه مؤذياً. وكما نمسك عن الكلام في غير موضعه، علينا أن نمسك عن الصمت في غير موضعه، لأنه قد يكون أكثر إيذاء من الكلام في غير موضعه. في الواقع قد «أقول قد» يكون الصمت من أعظم فنون الكلام، لكنه ـ في ذات الوقت - قد يكون أسوأ ما أنتجته البشرية من وسائل لتشجيع الظالم والحقود والكاذب، وتحفيز الظلم وتحويل العالم إلى مكرهة أخلاقية كبرى، لأننا نصمت عن الحق، ولا ندافع عن حقوقنا الإنسانية. يقول المرحوم جبران خليل جبران:»تعلمت الصمت من الثرثار، والطيبة من ذوي القلوب الغليظة، ولكن العجيب أنني لا أعترف لأحد منهم بالجميل»، ويقول ميخائيل نعيمة:»إنكم لا تستطيعون الترنم بالأناشيد، حتى تشربوا نهر الصمت»، ويقول فيلسوف آخر:»لا بد أحياناً من لزوم الصمت، ليسمعنا الآخرون». قرأت قبل زمن طويل قصة تتحدث حول الصمت، وقد أعجبتني لدرجة أنني حررتها بأسلوبي واستخدمتها في أحد مقالاتي الساخرة، تتحدث القصة عن طفل لم يكن شقياً فحسب، بل كان الأشقى والأكثر «عفرتة» بين أقرانه، ولم يكن يسلم من شره أحد، ولا شجرة ولا لوح زجاج.... وفي إحدى غزواته على بستان الجيران سقط من على غصن عالٍ «فانقلعت» واحدة من «أضراسه» الجانبية. لحد الآن فالحكاية عادية «وتصير في أحسن العائلات»، لكن غلامنا هذا استهوته لعبة تمرير لسانه في الفراغ الناجم عن انقلاع الضرس، وقد أوغل في هذه اللعبة، فلم يعد يلعب ولا يتكلم ولا يأكل إلا مُرغماً، بينما هو منهمك طوال الوقت في تمرير لسانه داخل فراغ الضرس. احتارت القرية بأمر الولد، الذي صمت فجأة وأصبح «أهدأ» طفل في العالم. بعض العجائز همسن في أذن أمه ينصحنها بأن تراجع طبيب القرية الوحيد، لعل مرضاً أو مساً من جنون قد أصاب الولد؟. راجعت الأم طبيب القرية العجوز الذي عاين الطفل سريرياً، فتصفح مريضه الوحيد، وقال للأم بكل ثقة: ابنك ليس مريضاً، ابنك عبقري! فأطلقت الأم زغرودة مطاطة، وذبحت دجاجتها الوحيدة، فداء للولد ودرءاً لحسد الحاسدين. كاندلاع النار في الهشيم، انتشرت قصة الولد العبقري، وصارت على كل شفة ولسان. لم يكن الولد يدرك ما حوله، إذ كان مشغولاً بلعبة اللسان والضرس المخلوع، لكن مجلس القرية اجتمع وعينه رئيساً للمجلس البلدي. لما وصل الخبر للمحافظة، اجتمع مجلس الأعيان الأوفياء وعينوه رئيساً للبلدية، ثم محافظاً، ولما كانت الانتخابات على الأبواب فقد رشحوه لتمثيل المحافظة في البرلمان، ففاز بأعلى الأصوات، كل هذا والغلام يلعب بلسانه مكان الضرس المخلوع. وفي البرلمان ...!! لكم أن تتخيلوا إلى أين أوصل الصمت هذا الفتى مخلوع الضرس، لكن عليكم أن تعودوا إلى الواقع، وأعود معكم لنتساءل: - هل نقبل على أنفسنا نحن أن يحكمنا ويتحكم بنا مثل هذا الطفل الصامت؟؟ يوسف غيشان ghishan@gmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©