الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محمد شكري.. عندما ترجف الروح وحدها في العزلة والفراغ

محمد شكري.. عندما ترجف الروح وحدها في العزلة والفراغ
20 أغسطس 2009 00:17
محمد شكري بما أنه أصبح بعيداً عنا بما فيه الكفاية، فإنه يجوز لنا نحن أصدقاءه المقربين أن نتحدث عنه وعن أعماله بموضوعية بعيداً عن العواطف والمحاباة والمجاملة. وأظن أنه من المفيد أن نقرأ سيرة الرجل الإبداعية على سبيل الإضاءة واستكناه الجوانب المهمة في كتابته، والإحاطة بأعماله الأدبية وتميزاتها وتفارقاتها في تلك السيرة الطويلة. تعرفت على محمد شكري في بداية الثمانينات من القرن الماضي. وقبل ذلك كنت قد قرأت سيرته المتمثلة في «الخبز الحافي» ومجموعته القصصية الأولى «مجنون الورد». وكان إعجابي بهما شديداً إذ أن صاحبهما بدا متقناً لفن القص، عارفاً بأصوله، ومتخيراً للغة ولأسلوب منسجمين مع المواضيع التي يتطرق إليها. وإن يكن هذا أمراً معهوداً من الأدب المغاربي المكتوب باللغة العربية. فقد كان كتّاب القصة والرواية، والفن الثاني كان نادراً، يصيغون أعمالهم بلغة ركيكة، أو بلاغية لا تتناسب مع المواضيع التي يطرحونها على قرائهم، ولا تحرض القارئ على المضي معهم حتى النهاية. وأما محمد شكري فقد استطاع في كتابيه المذكورين أن «يمسك» بالقارئ من البداية إلى النهاية، بل ولا يترك له الفرصة للانقطاع لبضع دقائق عن متابعته تماماً مثلما هو الحال بالنسبة للرواة الشعبيين. صورة مرعبة وانطلاقاً من «أناه» هو الفتى الذي فر مع عائلته من قرية صغيرة بمنطقة «الريف»، هرباً من المجاعات والجوائح القاتلة، تمكن محمد شكري من أن يرسم لنا صورة مرعبة وحيَّة عن المغرب في تلك الفترة السوداء من تاريخه، أعني بذلك فترة ما قبل الحرب الكونية الثانية وما بعدها، وأن يسمح لقرائه بالنفاذ إلى أعماق طنجة، المدينة التي كانت «كوزموبولوتية» في يوم من الأيام، والتي عشقها هو حتى النهاية، وكانت الفضاء الوحيد لمجمل ما كتب. وعندما التقيت شكري أول مرة، وكان الوقت بدايات شتاء، وجدته مصحوبا بامرأتين كانتا تدخنان وتشربان بنهم مثله تماما. وكان هو في حالة من الهيجان الجميل. وبين وقت وآخر كان يطلق ضحكات ماجنة وينظر من حوله من دون أن يبدي أي اهتمام بما كان يحدث. وبعد أن قدمت له نفسي، دعاني إلى الجلوس ثم قال لي «ليس هذا وقت الحديث في الأمور الجدية. لنؤجل هذا إلى صباح الغد!». صبيحة اليوم التالي جاءني محمد شكري رائق المزاج، صافي الذهن، تحدثنا طويلا حول الأدب وحول الثقافة في المغرب وفي العالم العربي وحول مواضيع أخرى كثيرة. وأول ما لفت انتباهي هو أن شكري كان عارفاً جيداً بآداب العالم، وبأعمال كبار كتاب القصة والرواية في أوروبا، وفي أميركا، وغيرهما. وكان يحفظ الكثير من الأشعار عن ظهر قلب. وكان يولي اهتماماً كبيراً بالموسيقى العربية والعالمية، ويحب أن يستمع إلى الأغاني والسمفونيات التي يعشقها في عزلته بالطابق الخامس بشارع تولستوي سابقاً. وقد حدثني بإطناب وإعجاب عن المغنية التونسية الشهيرة صليحة، وعن اليهودية التونسية حبيبة مسيكة التي أحرقها أحد عشاقها بسبب الغيرة، وعن علي الرياحي الذي مات وهو يغني على ركح «المسرح البلدي» بالعاصمة، وعن الهادي الجويني العاشق للفن الأندلسي، وعن محمد الجموسي الفنان الذي أمضى الشطر الأكبر من حياته في الغربة في باريس، وكان يغني أغاني الحنين الموجع والجارف إلى تونس البعيدة فيبكي العمال المهاجرون بحرقة وهم يستمعون إليه. والحقيقة أني لم أعرف كاتباً مغربياً آخر يمتلك الإلمام الذي يتميز به محمد شكري بخصوص الموسيقى التونسية، وصانعي مجدها القديم. انطلاقاً من أواسط الثمانينات من القرن الماضي، صرت أتردد على شمال المغرب كل صيف تقريباً. وخلال الفترة التي أمضيها هناك، متنقلاً بن أصيلة وطنجة، كانت لقاءاتي بمحمد شكري تكاد تكون يومية تقريباً. وكان الحديث عن الأدب والشعر والفن والموسيقى والسينما، يستغرق الجزء الأكبر من الوقت الذي نمضيه معاً، سواء في شقته الصغيرة، أو في المقاهي والمطاعم. ذورة فنية كان شكري يقول لي ولغيري بأن «الخبز الحافي» سحقه. ولعله كان يخشى أن لا يتمكن من تأليف كتاب آخر بنفس المستوى. لكن لما أصدر الجزء الثاني من سيرته والذي حمل عنوان «زمن الأخطاء» أو «الشطار»، استعاد محمد شكري ثقته بنفسه. فقد أشاد العديد من النقاد بهذا الكتاب. كما أن القراء وجدوا فيه نفس الانسياب الجنوني البديع الذي تميز به «الخبز الحافي». وشخصياً أستطيع أن أقول بأن محمد شكري بلغ الذروة من الناحية الفنية من الفصل الذي يصف فيه تلقيه خبر وفاة والدته، والفترة التي أمضاها بين المجانين في مستشفى تطوان. ثم ازدادت معنويات محمد شكري ارتفاعاً بعد أن أصدر كتابيه الصغيرين عن جان جينيه وتنيسي ويليامز اللذين تعرف عليهما عندما كان يتردد على طنجة. ويبدو أن هذين الكاتبين هما اللذان، شجعاه على تأليف كتاب آخر عن بول بوولز سماه «بول بوولز وعزلة طنجة». غير أن هذا الكتاب كان ضعيفاً على جميع المستويات تقريبا. فقد نسي محمد شكري المساعدات الأدبية والمعنوية التي قدمها له بوولز قبل أن يكتب «الخبز الحافي» وراح على مدى مائتي صفحة «يمزق أوصاله» تمزيقاً، مشوهاً صورته، متهماً إياه بالشح، بل وبالسرقة أحياناً، معرضاً عن الحديث عن رواياته وقصصه التي نالت إعجاب الملايين من القراء في جميع أنحاء العالم. تصفية حساب أعتقد أنه من حق الكاتب أن «يصفي حساباته، مع هذا الكاتب أو ذاك، سواء كان من الأموات أو من الأحياء إذا ما كان على حق. أما إذا لم يكن كذلك، فإنه لا يجني سوى الشوك. وقد استاء الكثيرون من النقاد والقراء من الكتاب المذكور ليس فقط بسبب لهجته الموغلة في التذمر والعدائية المجانية، وإنما لأنهم أحسوا أيضا أن صاحبه ليس نزيها كما كان حاله من قبل وهو يتحدث عن طفولته البائسة، وعن المهمشين، والضائعين في شوارع طنجة وأزقتها. أواسط التسعينات من القرن الماضي، أصدر محمد شكري كتاباً آخر حمل عنوان «غوايات الشحرور الأبيض». وقد جاء هذا الكتاب مخيبا للآمال هو أيضاً. فقد أراد شكري من خلاله أن يظهر ويؤكد معرفته بآداب العالم، متوقفاً عن الكتب التي أثّرت في تكوينه، وبقيت راسخة في ذاكرته. غير أنه لم يفلح في ذلك. فقد بدا مشتت الذهن، عاجزاً عن التركيز، وعن السيطرة على الموضوع الذي اختار الخوض فيه. بالإضافة إلى ذلك، جاءت لغته مصطنعة، لغة من يريد أن يلعب دوراً ليس دوره، وبالتالي ليس قادراً على أدائه بشكل لائق ومقبول. خاتمة المسيرة وكان الجزء الثالث من السيرة والذي حمل عنوان «وجوه» خاتمة المسيرة الإبداعية لمحمد شكري. وكان دون حجم الجزئين السابقين، ودون مستواهما أيضا، وفيه يبرز الكاتب وكأنه فقد القدرة على التركيز والتعمق في الموضوع، وبات وكأنه مجبر على الكتابة وليس راغباً فيها وهو متعب، ومثقل بالهموم، وخائف من الشيخوخة والموت، وفاقد تماماً لذلك الهم القديم للحياة، ولحبه الجنوني للفن والأدب. وكل هذا كان يعكس الأوضاع النفسية والحياتية لمحمد شكري في نهاية حياته فقد كان يعيش الشطر الأكبر من النهار والليل وهو شبه غائب عن الوعي بسبب الإدمان على الكحول. وكان يحتد غضباً عندما يسمع انتقاداً سلبياً لسلوكه وأعماله. وأما المديح فقد كان يروق له كثيراً حتى عندما يسمعه من أناس منافقين، لا دراية لهم بالأدب، ولا بكل ما يتصل به. ولعله كان مصيباً عندما وصف حالته لمحمد براد في رسالة بعث بها إليه يوم 8 / 12 1991-، وفيها يقول «استيقظت منذ قليل، أكتب لك بيد راعشة، مازلت في كأسي الأول، الصيف عفن لا أستطيع الاستقرار في الكتابة، الدوخة والغثيان هذا يكفي حتى عنوانك سأكتبه بعد أن تزول الرعشة». إن «أنا» محمد شكري التي كانت في البداية منفتحة على العالم، وعلى الناس كما هو الحال في «الخبز الحافي»، وفي «مجنون الورد»، وفي «الخيمة»، وفي «زمن الأخطاء»، وكانت تتميز بفضول معرفي خارق، وبعشق جنوني للحياة ولملذاتها، وبقدرة فائقة على رصد الأحداث الصغيرة والكبيرة، أصيبت في النهاية بالذبول والعقم وباتت «أنا» منغلقة على نفسها ترجف في العزلة والفراغ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©