الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نجيب محفوظ.. إبداع متفرد وهموم كونيَّة

نجيب محفوظ.. إبداع متفرد وهموم كونيَّة
20 أغسطس 2009 00:19
يعدَ الأديب والروائي المصري «نجيب محفوظ» الذي رحل عن ساحة الإبداع في 30 أغسطس 2006، أشهر روائي عربي، حيث امتدت رحلته مع الكتابة وعالم الكلمة نحو 70 عاماً، أثمرت أكثر من 50 رواية ومجموعة قصصية، وعدد من المسرحيات، ساهمت جميعها في حصوله على جائزة نوبل للأدب العام 1988. وكان ذلك بمثابة حدث ثقافي تاريخي، نقل موقع الأدب العربي إلى صدارة المشهد الأدبي العالمي، وفتح الأبواب المغلقة أمام الأعمال الروائية العربية إلى لغات العالم الحيَة. ومحفوظ علم من أعلام الفكر والثقافة، وروائي فذّ مستنير وصاحب قلم ذهبي مبدع، خرج بالثقافة العربية وآدابها إلى العالمية. هو نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم باشا المولود في القاهرة العام 1911، قد لا يعرف الكثيرون أنه اهتم بالمسرح من خلال مستقبل الرواية. وفي حوار معه نشر في مجلة «الكاتب» عام 1964 قال صاحب أكثر الروايات العربية جدلاً وهي «أولاد حارتنا» الصادرة عام 1959: «قد يقال فيما يختص بمستقبل الرواية أن الطابع الجديد للعصر هو طرح الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها، وأن الجدل العقلي هو الصفة الغالبة للتفكير المعاصر، وبالتالي فإن الشكل الأدبي المناسب لازمة العصر هو فن المسرح، باعتباره الشكل الفني الذي يرتكز أساساً على الجدل والحوار وصراع الأفكار وفنون الفرجة». وهو بذلك يرى الخط المنطقي لتطور الرواية كما يكتبها وقد انتهى حتماً إلى المسرح، فهو لم يكتب للمسرح لمجرد الرغبة في التجديد، بل لأن هذا الشكل الفني في تقديره خير وسيلة لمعالجة ما عنده من أفكار. لقد دخل أدب محفوظ بعد ثلاثيته الشهيرة (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية)، والشخصية الرئيسية في القصص الثلاث هي شخصية السيد أحمد عبد الجواد في مرحلة جديدة تمتاز بمزيد من العمق وقليل من التفاصيل. وقد شبَه نفسه وغيره من الكتَاب بمن ارتفع فوق المدينة في طائرة فأضحى لا يميز التفاصيل الدقيقة، ولكنه يرى رؤيا أوسع وأشمل، وهذا ما فعله في «أولاد حارتنا» حيث سجل مفهومه عن الإنسان في صراعه وأحلامه وفشله ونجاحه وطمعه وخبثه وفي علاقته بالكون منذ الخليقة حتى مشارف العصر الحديث. ومحفوظ الذي دخل عالم الرواية عام 1932 بترجمته كتاب «مصر القديمة» للبريطاني «جيمس بيلي» متوجهاً إلى كتابة الرواية التاريخية في نهاية الثلاثينات من خلال ثلاث روايات استلهمت جوانب من مصر الفرعونية هي: «عبث الأقدار «رادوبيس» و «كفاح طيبة» طرح أسلوبه القديم جانباً، ولم يعد إلى كتابة الرواية المفصلة التي تدرس الشخصية في إطار اجتماعي محدد المعالم والتفاصيل. وقد وجد نفسه حسب ما ذكر في «مجلة الفكر المعاصر» العام 1968: «وجدت نفسي في عالم سريع التغير، وتطلب ذلك أن ألجأ إلى الأعمال المركزة القصيرة التي تناسب الرحالة، لا الرجل المستقر». وفي هذا السياق نجد أنه مثل «تشيخوف» كتب رواية قصيرة من نوع جديد، نرى فيها الإنسان وجهاً لوجه أمام مصيره، متأثراً في حواره بالإيقاع المسرحي المكثف. وهو لا يناقش هنا علاقته بالمجتمع فحسب، بل علاقته بالكون والمجتمع والحياة، وبالحقيقة الأولى أو الموضوع الذي يحتل المكان الأول في كل ما كتب. ترميز الموت لقد عالج محفوظ موضوع الموت بطريقة رمزية، حيث علاقة الإنسان به هي الوجه الآخر لعلاقته بالحياة، وهو موضوع الأدب العظيم في كل اللغات وكل العصور ويقول: «أما حين تتحول الحياة إلى مشكلة، لا يصبح الإنسان شخصاً معيناً، بل مجرد إنسان ليس هو شخص بالذات يتميز عن جميع الناس بتفاصيله الخاصة وذاتيته، ولهذا تختفي التفاصيل ويختفي السرد وتتصدر المناقشة كل العناصر الأخرى». لقد اختفت التفاصيل، ومعها السرد تدريجياً، حتى أضحت الرواية تروى من خلال وعي الشخصيات في (ميرامار) وحتى وصلنا إلى خمس مسرحيات لا تحمل شخصياتها أسماء تميزها، إنما يقتصر الكاتب على تسمية الشخصية بـ : الرجل أو المرأة أو الطبيب أو الممثل أو رجل الشرطة... وهكذا، ما يشير إلى أن الشخصية قد فقدت ضمنياً كل صفاتها الذاتية بما في ذلك الاسم، وتصدرت المناقشة (كما هو موجود في مسرح برنارد شو وهنريك ابسن) كل العناصر الأخرى. وكما هو موجود أيضا في مسرح العبث عند صموئيل بكيت ويونسكو. نجيب محفوظ الذي جعل من (الحارة المصرية) تكثيفاً مصغراً للكون بأسراره الفيزيقية والميتافيزيقية من خلال المدرسة الواقعية في الكتابة ، أنجز خمس مسرحيات وست قصص قصيرة في مجموعة واحدة تحت اسم القصة الأولى تحت المظلة. والقصة جديرة بأن تعطى المجموعة اسمها لأنها في الواقع تلخص رؤياه في المسرحيات. إن عالم (تحت المظلة) عجيب ولا معقول، يسوده العنف وعدم الفهم، فلا تكاد تفرق فيه بين الحقيقة والتمثيل (التشخيص) وأمام خلفية من المطاردة والخطابة وصوت الرصاص، تجد (الحب) بكل تفاصيله. وفي المشهد المسرحي نرى : الدماء تسيل، والرصاص ينهمر، والشرطي لا يحرك ساكناً تجاه ما يحدث، وبالمقابل يصرخ به المتفرجون الواقفون تحت المظلة، لكنه يصرعهم في النهاية برصاص بندقيته. الرؤيا نفسها التي تلخصها لنا المرأة في مسرحية (النجاة): الرجل: ترى ماذا يحدث في الخارج المرأة: كما يحدث في الداخل الرجل: ماذا تعنين ؟ المرأة: جرائم ترتكب باهتمام وحياة تمارس بلا اهتمام. تختلف المسرحيات التي كتبها محفوظ في درجة إفصاحها عن معناها، ولكنها في الغالب تقدم لنا الرجل والمرأة كمحور للمضمون العام، ونراهما على الدوام في موقف عصيب ويقومان بالدور التاريخي الذي لعبه كل منهما على مرَ العصور: فهي تفكر في الحب والحياة، وهو يبحث عن مجد الأسلاف ويفكر في الكرامة والحرية والمغامرة في إطار تتحقق من خلاله جدلية العلاقة بينهما (إن الأدب يسمى فنياً عندما يصور الحياة كما هي في الواقع) . الكرامة قبل الحب المسرحية الأولى في مجموعة محفوظ تكاد تكون الأقرب إلى التعبير عن أزمة العصر، فمسرح الحوادث لا يميزه عن المعالم إلا نخلة مغروسة وساقية صامتة، والأسلاف الراقدون في الظلام في الجزء الخلفي من المسرح، وأصوات المعركة هي أول ما يسمعه الجمهور. أما أبطال المسرحية فهما فتى وفتاة لا يميزهما شيء بالذات، فهي تمثل بنات جنسها جميعاً، وهو يمثل الرجال، وهي تتألم لصوت المعركة الدائرة وتصمَ أذنيها، وتودَ لو يقتنع الفتى بحبها وحنانها كملاذ له من متاعب الحياة. وهو يحنَ إلى توهج مصباح الحياة على حافة هاوية الخطر الدَاهم. ويشخص الطبيب مرض الفتى، ويكتشف أنه مصاب بوباء قلق العصر: الأرق والمغامرة وجنون العظمة واللهاث وراء المجهول والبحث عن المجد والكرامة وما إلى ذلك مما يورد الشباب من أمثاله إلى موارد التهلكة. ونلتقي في نهاية المسرحية بشخصية (الشحاذ) الذي هرب من الملجأ بسبب خشونة مديره وقسوته. بينما يظهر على المسرح عملاق يفرض مساعدته على الفتى (العملاق شخصية رمزية تسقط على هيمنة الدول الكبرى وقوى التسلط والقمع في العالم). أما المشكلة التي تطرحها المسرحية فتكمن في الفتى الذي يستلهم منطق وسلوك الأسلاف، في بطولاتهم ومعاركهم وانتصاراتهم وحضارتهم، رافضاً بذلك الهزيمة وعكس ذلك موقف الفتاة التي تجد في المواجهة والقتال مجرد أحلام زائفة. وهي هنا تمثل جانب الاستسلام ومسايرة الأمر الواقع، باستثناء الموت، فسلاحها الوحيد هو الحب، وهو يرى أن إيمانها بالحب هو أنانية، والكرامة عنده أهم من الحياة نفسها. وفي النهاية يقف الفتى في مقدمة خشبة المسرح مستنهضاً الأسلاف ليسيروا خلفه صفوفاً إلى ساحة المعركة. في هذه المسرحية وهي بعنوان (مشروع للمناقشة) ينقل محفوظ المشكلة نفسها والأدوار نفسها إلى مستوى جديد هو مستوى التمثيل، والتشبيه بين المسرح والحياة تشبيه قديم (الدنيا مسرح كبير) وما يجري على خشبة المسرح محاكاة لما يجري في الواقع باعتبار أن المسرحية هي قطعة مكثفة من الحياة. وهنا نرى مجموعة الشخصيات: المؤلف والممثل والمخرج والناقد والممثلة، يناقشونه موضوع مسرحيتهم الجديدة، وهم في الواقع يناقشون شكل الحياة الجديد وما وصلت إليه الإنسانية في نهاية المطاف، رجل وامرأة في غابة يلوذان بكهف ثم يدركهما الموت في النهاية. الحوار بين الشخصيات الخمس ممتع وجذَاب وتلقائي يفصح لنا عن ماهية الصراع بين الواقع والمتخيل. إنه حوار حول طبيعة الفن وقيمته وأهدافه. إن محفوظ بلغته القوية وأسلوبه في التعبير يقدم لنا من خلال عنصر المناقشة تضمينات تضعنا أمام مرآة كبيرة اسمها الحياة بكل متناقضاتها وصراعاتها. وهذا موضوع أثير عالمياً، فقد ظل الصراع بين المظهر والواقع أو بين الفن والطبيعة موضوعاً تقليدياً في الأدب الغربي منذ بداياته، فقد كان الكتَاب الأنجلوسكسونيون بصفة عامة يؤيدون الواقع، والكتاب اللاتينيون بصفة عامة يؤيدون المظاهر. المأزق الوجودي المسرحية الأخيرة في المجموعة حملت عنوان (المهمة) وهي الأقرب إلى المسرحية الأخلاقية MORALTY PLAY وهي نوع من المسرح الشعري البسيط تطور في القرون الوسطى الأوروبية وخاصة في أواخر القرن الرابع عشر، إلا أنه ظل قائماً حتى القرن السادس عشر كشكل درامي تعليمي يعالج النواحي الأخلاقية، غير أن موضوعاته في هذا القرن شملت نواحي سياسية وأخرى دينية. والمسرحية الأخلاقية عادة تعرض الصراع بين الخير والشر متمثلاً في شخصيات تجريدية تحاكي قيماً معنوية مطلقة مثل: الأعمال الطيبة، البخل، الرذيلة، الفضيلة، العار، الحقيقة، الرحمة والقتل، وغير ذلك من مظاهر تعالج رحلة الإنسان في الحياة وموقفه إزاء الموت، وتصور القوى الرئيسية في حياته في شكل شخصيات مجسمة، وقد تناهى إلينا من هذا النوع نماذج قليلة من القرن الرابع عشر ومن أشهرها مسرحية بعنوان (عبد الله) وتصور البطل عبد الله وقد جاءه الموت يدعوه ليمثل بين يدي الخالق ليحاسب على أعماله، ويجزع عبد الله، ويدعو شخصيات المسرحية ممثلة في المال والبنين والصداقة والأهل وغيرهم كي يصحبوه في رحلة الموت، فيتخلى عنه الجميع إلا أعماله الطيبة، وكانت في مبدأ ألأمر ضعيفة هزيلة، ولكن اعتراف عبد الله وطلبه الغفران وصلواته نفخت الحياة في تلك الشخصيات، فأضحت قادرة على مصاحبته وتقوية عزيمته في طقوس الرحلة المحتومة. في تقديري إن نجيب محفوظ بمسرحيته (المهمة) لم يقصد المساهمة في هذا التيار الفني الجديد، بقدر ما أراد معالجة رحلة الإنسان في هذه الدنيا ودور الموت كنهاية لهذه الرحلة، فيساهم - عمداً أو عن غير قصد - في نوع مسرحي شعبي قديم وجد فيه الكتَاب المعاصرون إمكانات جديدة لمعالجة مشكلة الإنسان في كل زمان ومكان. عبد الله في (المهمة) هو الشاب في أناقته وزهوه بشبابه وصحته، وقد يكون الرجل صورة أخرى له في مرحلة أخرى من العمر، لعله الإنسان وقد تقدم به السَن وفقد الصحة والشباب والغرور وأضحى يطلب صحبة الشباب، الذي يرفض مثل هذه العلاقة غير المتكافئة من وجهة نظره. لقد اكتست الشخصيات في هذه المسرحية كما اكتسى الحوار بثوب الواقعية الظاهرية، فالمكان وراء هضبة، ويمكن أن يكون مسرحاً لأي نوع من الحوادث، والشاب فتى أنيق بدرجة ملحوظة، أما الرجل فهو عادي في الخمسين، مهمل الهندام، والفتاة عادية تأتي إلى موعد غرام، وحاملا المشعل يرتديان ملابس حمراء، والرجلان اللذان يوجهان الأسئلة للشباب يرتديان ملابس سوداء، ويحمل كل منهما سوطاً وحبلاً معقوداً، والحوار يتطرق إلى ذكر أماكن حقيقية في مدينة القاهرة. ولكن تحت عباءة كل هذه المظاهر نلحظ شمولية محفوظ في تصويره لرحلة الإنسان منذ الأزل. التركة كان نشر مسرحية (التركة) لنجيب محفوظ في جريدة الأهرام، مناسبة مهمة لكي يدرك القراء أنه في معالجته لأحداث المسرحية وتناوله لفكرتها يعيد الأذهان إلى أجواء روايته (أولاد حارتنا). فالمنظر حجرة في بيت عتيق، وصاحب البيت ولي الله غائب أو مختفٍ، ورسوله غلام صغير، ولعل صورة صاحب البيت هنا هي صورة أخرى من صور (الجبلاوي) وقد دعا ابنه الفاسد الذي هرب من بيته منذ سنوات طويلة، دعاه ليتسلم التركة ويحمل تبعتها، ويحضر الفتى بصحبة عشيقته ، وهو يذكرنا بـ (صابر) بطل رواية (الطريق) في بحثه عن أبيه ليرد له الكرامة والجاه، ولكن الفتى هنا يعرف مكان أبيه وهو لا يعود إلا طمعاً في التركة. ومحفوظ هنا يلعب بمهارة في خانة عنصر التضاد الفني الذي يصنع صوراً غنية بالمعالم والدلالات. وحين يتسلم الفتى مفتاح خزنة أبيه، يكتشف أنه ترك له تركة روحية وهي ثروة من الكتب، وتركة أخرى هي عبارة عن رزم من الأوراق المالية، ومعهما وصية تقول: (لا تنفق من الثروة شيئاً قبل أن تستوعب ما في هذه الكتب). لكن الفتى وشريكته يتجاهلان هذا الشرط ويدوسان على الكتب وهي الإرث الروحي ولا يحفلان إلا بالمال. وفي إطار فلسفي تكشف الأحداث عن أحلام الفتاة في الثروة وما ستحققه لها من استقرار ورغد العيش، في حين يحلم الفتى بامتلاك (ملهى ليلي) وأن يصبح (قواداً عالمياً) هكذا بكل جنون الحياة المعاصرة تكشف الشخصية عن زيف أحلامها، حتى يدهمهما بعض الغرباء، وتتم سرقة التركة، لتضيع الأحلام في مهب الريح. والمسرحية على المستوى الواقعي العادي تصور حدثاً ممكن الوقوع في ظروف عادية ممكنة، والحدث يصور انقلاب حال الشخصية مثله مثل الحدث الدرامي في أي مسرحية تتضمن تأزم الموقف ثم انفراجه ولكن في طريق لم يتوقعه أحد من الشخصيات المشتركة فيه، ولم يتوقعه الجمهور المشاهد، ولكنه طريق حتمي ومنطقي وذو مغزى بالنسبة لمعنى المسرحية وبنائها. والملم بعالم نجيب محفوظ وأسرار كتابته لا بد أن يكتشف سريعاً أن أحداث المسرحية تحتمل تأويلات كثيرة في عالم رحب تتخذ فيه أحلام الشخصيات على الدوام شكل الصراع، الذي يظل على مدى تطور الأحداث هو لبَ المسرحية، ومحفوظ هنا حريص على تصوير شخصياته وهي ترتدي أدواراً تهرب خلالها من ضغط الحياة. ويتكرر مثل هذه الموقف في مسرحيته بعنوان (النجاة) وأحداثها تدور في شقة عصرية، وأبطالها رجل وامرأة محاصران فيها، وهما عاجزان تماماً عن فكَ حصارهما الذي يشتد مع سير الأحداث. وبطلة المسرحية امرأة مجهولة، تدخل شقة رجل مجهول لاجئة من مطاردة الشرطة لها، ولا نعرف نوع جريمتها، فهي لا تهتم بتوضيحه وإنما تسميه بقولها: (محض فعل مألوف في التاريخ ولكن الشرطة تصفه بأنه جريمة نكراء). ويتضح لنا من تأزم الموقف أن الرجل مذنب أيضاً، إنه يخفي في شقته أشياء لا نعرف كنهها، ولكنها كفيلة إذا تعرض إلى تحقيق أن تدينه، فوجود المرأة في بيته غير مرغوب فيه، ولكنه لا يستطيع التخلص منها لأنها تهدده بالانتحار. تتوالى الأحداث ونسمع أصوات الشرطة وهم يحاصرون المكان وهما يتناقشان ويتصارعان، ويتبادلان الحب، إنهما يمثلان كل الأدوار التقليدية في الحياة حينما يجتمع رجل وامرأة. تنتهي المسرحية باقتحام الشرطة للشقة، ونسمع طلقات الرصاص مدوية في أنحاء الشقة، فتصيب واحدة منها المرأة في مقتل، بينما يخرج الرجل مستسلماً للشرطة وهو يحمل جثة المرأة. لقد بلغ حوار نجيب محفوظ في هذه المسرحية حداً عالياً من التركيز البليغ، مجسداً من خلالها أفكاره في تشبيه مسرحي رائع، إنه خصب وثري بالصراعات والأحلام والأوهام والتأملات في مصائر البشر، مما يضع المسرحية وبحسب بعض النقاد في صف واحد مع مسرحية جان بول سارتر (الجلسة السرية) من حيث دلالتها بالنسبة لإنسان العصر الحديث. فقد أثبت نجيب محفوظ أنه يستطيع التعبير عما يريد أن يقوله للناس بالحوار الفصيح، كل ما يمكن أن يعبر عنه بالحوار العامي. لقد نجح في أن يجد (اللغة الثالثة) في صياغة الحوار الدرامي، لقد وجد اللغة البسيطة الفصيحة في الوقت نفسه، بما تحمله من ثراء وحيوية الحوار العامي مع ضبط اللغة الفصحى، ضمن أسرار الصنعة اللغوية ضمن إشكاليات الكتابة لفن المسرح. نستذكر محفوظ اليوم في ذكرى رحيله الثالثة وقد أصبحت الرواية بفضله (شعرية الدنيا الحديثة) التي تتنوع أشكالها إلى ما لا نهاية ولا تترك شيئاً إلا وتناوشه الذي يبدأ بأن يضع الذات في مواجهة نفسها والكون في مواجهة الأسئلة التي تسعى إلى فتح مغالقه. فقد نجح الرجل عبر خمسين عاماً ومن خلال أعماله من بثَ قيم التسامح والفكر الإنساني النبيل في إطار أعمال سجلت غوصاً حقيقياً في حياة المجتمع المصري والبشرية، معبراً عن القيم المشتركة للإنسانية. وفي المجال المسرحي وإنْ لم يعط النقاد كثير اهتمام إلى هذا الجانب في مسيرته الإبداعية ، يبقى محفوظ صاحب رؤية نقدية مهمة في تصوير علاقة الفرد بحياته وعلاقته بدورة الحياة ما بين الولادة والموت لكي يؤدي أدواراً تتجلى فيها غريزته العمياء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©