الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ظرف بشار

ظرف بشار
20 أغسطس 2009 00:46
هناك شعرة دقيقة، تفصل بين السخرية التي تتفاوت استجابات الناس لها، من الاستحسان الجميل إلى التأذي الممرور، وبين ما يسمى بروح الفكاهة، وهي تتسم بالعذوبة الرائقة، وتقترب إلى درجة بعيدة من روح الشعر؛ إذ تعتمد على الدعابة والمرح، واللعب بالمواقف والكلمات. وقد لاحظ الأدباء منذ القدم أن هذا النوع من العبث الطريف يخفف جهامة الحياة ويضفي عليها رقة ونعومة. ولعل منبع المفارقات، بمختلف مستوياتها أن يكون الكنز الذي تمتح منه روح الدعابة، وشاعرنا بشار بن برد كتلة متوهجة من هذ المفارقات المركبة، إذ كان يجمع بين أقصى درجات القبح في المظهر والجمال في المخبر، بين قوة القلب وعرامة الروح مع هشاشة النفس وضعف وقلة الحيلة، بين الجد الذي تفرضه عليه عاهة العمى والهزل الذي يلقاه به الآخرون؛ خاصة السذج والصبيان والحمقى من شركاء العجز وإخوان التهميش وأخبار العبث والرفث في سيرة بشار لا تنفذ، وكلها تتضمن إشارات لهذه الروح الفكهة المداعبة، من ذلك ما يروى عنه من أنه كان في مجلس الخليفة المهدى؛ إذ دخل عليهم يزيد بن منصور الحميري، وهو خال المهدي، وبشار بين يديه ينشده إحدى قصائده في المدح «فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد، وكانت فيه غفلة، فقال له: يا شيخ .. ما صناعتك؟ فقال بشار: أثقب اللؤلؤ، فضحك المهدي ثم قال لبشار: اعزب (ابعد) ويحك، أتتنادر على خالي؟ فقال بشار وما أصنع به، يرى شيخا أعمى، ينشد الخليفة شعرا ويسأله عن صناعته!». اللافت في النادرة هو اختيار بشار العفوي والمجازي البليغ لأبعد صناعة يمكن أن يقول بها مثله، إذ تتطلب حدة شديدة في البصر، ووعيه الجاد بالموقف ومقتضياته، وإصابته الشديدة في الرد الساخر، وقد اضطر الخليفة لمعاتبة الشاعر إكراما لخاله، دون أن يتمالك نفسه من الضحك للمفارقة، وشرح بشار بكلمات وجيزة أسباب سخريته المقنعة، بحيث أضحت ضرورة لم يكن هناك مناص منها. وإذا كانت هذه الحادثة قد عرضته لخطر غضب الخليفة عليه، وخلصه بالضحك، فإن حادثة أخرى تعرض سيرته لغضب بعض القراء عليه كلما رويت، لأنه يسخر فيها من مبالغات بعض القصاصين في الشؤون الدينية الذين يشبهون خطباء المساجد اليوم، فقد مرّ بشار بقاص في البصرة، فسمعه يقول: من صام رجبا وشعبان ورمضان بنى الله له قصرا في الجنة؛ صحنه ألف فرسخ في مثلها، وعلوّه ألف فرسخ، وكل باب من أبواب بيوته ومقاصره عشرة فراسخ في مثلها. فلتفت بشار إلى قائده فقال: بئست والله الدار هذه في كانون الثاني». لم يستطع شاعرنا أن يتخيل نظاما للتدفئة في ذروة موسم برد الشتاء يمكن أن يغطي هذه الأبعاد المهولة ويغمرها بالدفء، فتمثل سكناه وقد أصبحت جحيماً بدلا من أن تكون في الفردوس، وهرب بهذه اللفتة الطريفة من مأزق التكذيب والتصديق، وكلاهما وعز في العقل والدين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©