الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حب وحنين وحزن رومانسي على بحور الخليل

حب وحنين وحزن رومانسي على بحور الخليل
20 أغسطس 2009 00:48
هيهات هيهات للأيام تنسيني ذكرى زمانٍ تقضى في أبردينِ حيث المروج بساطٌ في مرابعها فما ترى في رباها العين من طينِ وحيث طالت بها الأشجار سامقةً تُجنُّ في وارفٍ خضر البساتينِ وحيث سالت بها الأنهار جاريةً بين الخمائل من «ديٍ» ومن «دونِ» حيث النسيم عليل في أصائلها معطرٌ بشذا عرف الرياحينِ بهذه الأبيات استهل د. عبد الحكيم الزبيدي قصيدته «أبردين» وهي آخر قصيدة في ديوانه «اعترافات متأخرة» الذي صدر مؤخراً عن مشروع «قلم» في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث في 71 صفحة في إخراج أنيق كما هو الحال في الكتب التي تنشرها الهيئة. والقصيدة عادت بي إلى مطلع الستينات عندما كنت شاباً في العشرين أدرس الهندسة الميكانيكية ثم الهندسة الكهربائية في جامعة أبردين (وكلية غردون أيضاً في نفس المدينة والتي أصبحت فيما بعد جامعة مستقلة) وفي كنجز كوليج (أي كلية الملك) في جامعة أبردين وهي ثالث أقدم جامعة ببريطانيا بعد أكسفورد وكامبردج فعمرها خمسة قرون. كتب الدكتور عبد الحكيم القصيدة عام 2006 أي بعد أكثر من أربعة عقود على مغادرتي لتلك المدينة التي تركت فيها أربع سنوات من ريعان الشباب. والحقيقة أن أبردين مدينة جميلة ولكنها كانت مدينة شديدة البرودة حتى أن والدي أطلق عليها لقب «أبو بردين». وهي تتميز عن مدن بريطانيا بلونها الفضي إذ إن الكثير من مبانيها من الجرانيت الفضي الصلد حتى أنها تسمى «المدينة الفضية». ولكن الزبيدي لا يذكر هذا الأمر البارز بل يركز على الطبيعة الخضراء والأنهار كما لا يذكر البحر التي تقع أبردين على شاطئه إلا في بيت واحد يقول فيه: وللمحيط هدير في شواطئها كأنه في الفضاء أنات محزون ولكنه لا ينسى أن يذكر فتيات أبردين في ثلاثة أبيات: نفسي الفداء لآرامٍ بها رتعت من كل شقراء في دلٍّ وفي لينِ ترى الجمال بها من كل فاكهةٍ من الكمثرى أو التفاح والتينِ قد كدت أصبو لها لولا عهود هوى قطعتهن لإلف حلَّ في «العينِ» والعين تورية لطيفة لأن حبيبته تسكن في مدينة العين. أما بقية القصيدة فتتحدث عن زملائه وأظنهم من الطلبة العرب والمسلمين في غالبيتهم ولا شك عندي في أنه كان يجتمع بهم في مركز طلابي صغير يجتمع فيه الطلبة المسلمون: وكم صحبتُ بها غراً غطارفةً حازوا المكارم في الدنيا وفي الدينِ قومٌ تلاقوا على ودٍّ يجمعهم شتى القبائل والبلدان واللونِ هل الليالي التي مرت بعائدةٍ فنستعيد بها ذكرى الأحايينِ؟ وعندما كنا طلبة في أبردين لم يكن هناك مركز خاص بالطلبة المسلمين الأجانب والعرب بل كان هناك مبنى يسمى «اتحاد الطلبة» وكان مختلطاً لكل الطلبة والطالبات بينما بقية اتحادات الطلبة في جامعات اسكتلاندا الأخرى مثل أدنبرة وجلاسجو وسنت أندروز كانت مباني اتحادات الطلبة فيها منفصلة عن مباني اتحادات الطالبات. وفاء وحنين والدكتور عبد الحكيم رجل شديد الوفاء لأصدقائه، فكما يحن إلى أصدقاء أبردين نراه يحن إلى أصدقائه الطلبة في أريزونا في قصيدته «إلى توسان» المؤرخة عام 1991، نسمعه يقول: وصاحبت أخياراً بأرضك كلهم مقيم على تقوى فتالٍ وراكعُ شباب هم الآمال في زمن الردى تبدوا ونور الحق في الوجه ساطعُ تلاقوا على دينٍ وأغضوا عن القذى تشير إليهم بالثناء الأصابعُ تتيه بهم «توسان» عن سائر القرى فإن دياراً ما حوتهم بلاقعُ تركت لهم قلباً وأعلم أنها وقلبي لديهم لن تضيع الودائعُ فهل لزمانٍ قد مضى فيك أوبةٌ وهل لشتات الشمل من بعد جامعُ وأيامنا من بعد «توسان» مرةٌ نجرعها كالسم والسم ناقعُ وهذا الديوان هو الديوان الأول للزبيدي ولكنه الكتاب الثاني له فقد أصدر قبله بقليل كتاباً بعنوان «اليهود في مسرح علي أحمد باكثير» وهذا الوفاء لعلي أحمد باكثير ليس جديداً – على الرغم من عدم وجود أي صلة لقرابة أو معرفة بباكثير، فالزبيدي قبل ذلك أنشأ موقعاً إلكترونياً ثرياً خاصاً بباكثير. ولعل الصلة الحقيقية بين الزبيدي وباكثير هو إعجاب الزبيدي بأدب باكثير وشعره وبنهجه وفكره. يقول إهداء الديوان: «إلى روح جدتي التي رحلت إلى جوار ربها قبل خمسة وعشرين عاماً، وما زالت عيني تتندى بالدمع كلما ذكرتها، أهدي هذا الديوان». وهذا الإهداء في حد ذاته يكشف عن طبيعة الزبيدي الوفية لمن أحسن إليه وعطف عليه في طفولته. وأذكر أنني قرأت في مخطوطة الديوان قصيدة رثاء كتبها الزبيدي في جدته ولكنه لم يدرجها في الديوان ربما لأنها كانت من قصائده الأولى التي لم تنضج فنياً بالدرجة الكافية للنشر في ديوان. الخروج من العمودي ديوان «اعترافات متأخرة» يحوي 18 قصيدة كلها من النمط البيتي العمودي ما عدا قصيدة واحدة تفعيلية الشكل بعنوان «بعد عام» وكأنها تجربة أو محاولة أولية للخروج عن صرامة الشكل في الشعر العمودي الخليلي. يقول: ها هو العام تولى مذ تلاقينا تعاتبنا عرفنا الحب غضا برقت في أفقنا المظلم أطياف البروق أحسن الدهر إلينا بعدما طال عقوق وتعود اليوم ذكرى ذلك العهد الجميل ذلك الحلم القصير إلى أن يقول: أيها القادم رفقا ففؤادي لم يزل بعد كليمْ لم يزل يخفق بالحب القديمْ وهكذا نرى أنها قصيدة تفعيلية ذات تركيب بسيط، فلعلها خطوة أولى. والشاعر يستهل ديوانه بمقطوعة من أربعة أبيات بعنوان: «أنا والشعر» يقول فيها: عمرٌ من اليأس والآمال أحمله تنوء منه الرواسي فهي تنصدعُ عمرٌ من الهم قد قاسيت منفرداً أمشي به في طريقٍ كله فزعُ أنيسي الشعر لا أبغي به بدلاً فهو المحدث أو حدثت يستمعُ وما جفاني وإن جافيته زمناً إذا دليت بدلوي جاء يندفعُ ولا أدري ما هو هذا اليأس الذي تنوء منه الرواسي والطريق الذي كله فزع وهو الشاب المؤمن الناجح في دراسته. وكيف يمكن لعمر من الآمال أن تنوء منه الرواسي! والشاعر يجد أن رفيقه الذي ليس له بدل هو الشعر. ولكن ربما لا يجوز لي أن آخذ على الشاعر كل تلك الهموم في مقتبل العمر فقد فعلت أنا الشيء نفسه عندما كنت في العشرين من العمر وكتبت قصيدة ألوذ فيها بالشعر. ويبدو أن كثيراً من الشعراء في مطلع شبابهم ومعاناتهم يشعرون بهمومهم مضخمة بسبب حساسيتهم ورومانسيتهم، ويشعرون في وحدتهم أن الصديق الموثوق به هو فقط الشعر، فالرفاق البشر قد يكونون أقل اهتماماً بالمثاليات والأحلام وأكثر اهتماماً بالواقع والحياة المادية. وطابع الحزن الرومانسي يظهر في أكثر من قصيدة عند الزبيدي مثل «الوتر الحزين، وهي قصيدة حب منها: يا من قضيت حياتي كلها أملاً في البحث عنها بتطوافٍ وتسيارِ مضت ثلاثون عاماً لست أدركها إلا بندبٍِ على خدي وآثارِ واليوم تأتين يا عمري على قدرٍ فتغفرين لدهري كل أوزارِ هلا أتيتِ إذ الأيام مقبلةٌ فقد أتيتِ وحالي رهن إدبارِ شعر الأسرة ولشعر الأسرة نصيب في الديوان، ففيه قصيدة كتبها لولده محمد الذي ولد في الإمارات والشاعر يدرس في أميركا، وكانت والدة الشاعر في المستشفى إثر حادث، فقال: أسميَّ خيرِ الأنبياءِ تحيةً مني على بُعد المسافة تصعدُ فلقد أتيتَ ونحن في قمم الأسى فمحوته فلنعم ذاك الموعدُ وفي الديوان ثلاث قصائد رثاء، واحدة بعنوان «ذبول وردة» عن فتاة ماتت في صباها، وأخرى بعنوان «فارس الكلمات» في رثاء جده الشاعر سالم بن عمر رحمه الله، والثالثة في رثاء الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله بعنوان (ستظل نبراساً) ومنها نقتطف هذه الأبيات: رجل السياسة والكياسة والندى صقر الصقور وقائد القوادِ كهف الأرامل واليتامى والأب الـ ـحاني وقبلة مقصد القصادِ تبكي إمارات الوفاء زعيمها من شاد دولتها بخير عمادِ تبكيه أقطار العروبة كلها من حضرموت إلى حمى بغدادِ أأبا خليفة والمآثر جمةٌ جلت عن الإحصاء والتعدادِ ما مات من غدت البلاد بفضله في وحدة تسمو على الأحقادِ ما مات من أرسى دعائم نهضةٍ تُهدى من الآباء للأحفادِ ما مات من أبقى خليفة بعده ومحمداً في فتية أمجادِ شعر روحاني وأخيراً نختم بالقصيدة الثانية في الديوان وهي بعنوان «ابتهال» وهي تمثل توجه الشاعر الروحاني الذي يظهر في كثير من قصائده. يقول الشاعر: بسطتُ إليك الكفَّ يا قابل الرجا ويا من إذا شاء العسير يهونُ فجد لي بعفوٍ يا مجيب الذي لجا ويا من كما شاء الأمور تكونُ وثبت فؤادي واشفِ قلبي من الشجا فتسهل في درب الحياة حُزونُ وغَفراً لنا بعد الممات إذا فجا وأودت بآمال الحياة منونُ
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©