الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في كتابه «أحلام من أبي : قصة عرق وإرث»

في كتابه «أحلام من أبي : قصة عرق وإرث»
21 أغسطس 2009 23:08
في الطبعة العربية الأولى من كتابه «أحلام من أبي : قصة عرق وإرث» الذي أصدره مشروع الكلمة التابع لهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، يأخذنا «باري» أو باراك أوباما الرئيس الأميركي «الرابع والأربعون» في رحلة طويلة داخل ذاته، محاولاً سبر أغوارها، واكتشاف معنى حقيقي لحياته كأميركي أسود، في مجتمع لم يكن يلقي بالاً بغير البيض حتى عقود قليلة منصرمة. خليط بائس في هذه السيرة الذاتية تحدث باري، عن تحدّره من والدين ينتميان إلى عرقين مختلفين، فأبوه رجل أسود ذو أصول أفريقية، وأمه أميركية بيضاء، التقاها والده أثناء ابتعاثه للدراسة في هارفارد. وهذا «الخليط البائس» كما اسماه باري، أوقعه أسيراً بين عالمين وخلق لديه اضطراباً في الدم والروح، ما جعله يتوقف وهو في الثانية عشرة من عمره عن إعلان عرق أمه، خشية أن يُظن هذا تودداً للبيض وتملقاً لهم، في وقت كانت العنصرية ترتع بوحشية في أنحاء الأسد الأميركي. وتبدأ أحداث الكتاب في مدينة نيويورك، حيث تلقي باري خبر وفاة والده، في حادث سيارة في كينيا، والده الذي كان في عينيه أسطورة، أكثر من كونه إنساناً عادياً، هذا الموت المفاجئ، أشعل بداخله فتيل رحلة عاطفية أخذته إلى سنوات طفولته المبكرة، في هاواي، حيث رُبي هناك مع جديه ووالدته، ولم يكن يعرف عن والده سوى حكايات تروى من جده ووالدته، بعد انفصاله عنها وعودته إلى القارة الأم. فنجد باري يستعرض مواقف مختلفة لحياته المبكرة في هاواي، ومداعبات جده، لافتاً إلى تميز هذه الجزيرة، باستعداد الأجناس فيها للعمل معاً من أجل تحقيق أهداف مشتركة، وهو سلوك وجد المواطنين البيض في أماكن أخرى غير مستعدين للقيام به في معظم الأحيان. مفردات الحياة ثم دلف بعد ذلك، إلى حياته في اندونيسيا، التي انتقل إليها بعد زواج والدته للمرة الثانية من «لولو» ذلك الإندونيسي الأسمر ذو الشعر الكثيف والقدر من الوسامة، كما يصفه باري. مستعرضاً علاقته بـ»لولو» الذي كان يعمل موظفاً تنفيذياً بإحدى شركات النفط، وقبلها كان يدرس في جامعة هاواي، حيث التقى والدة باري وتعرف عليها، واصطحبها وابنها، إلى العاصمة الاندونيسية جاكارتا، ليعيشوا فيها سنوات عدة، كانت خلاله علاقته بـ «باري» مثالية إلى حد كبير، سيما أن لولو على قدر كبير من الذكاء وعلى إدراك ووعي بأبعاد هذه العلاقة، فكان يتصرف مع باري وكأنه والد له، وحاول تعليمه كثيرا من المبادئ التي يؤمن بها، ولكن باري كان دائماً تواقاً إلى مبادئ والده، والصورة الأسطورية التي رُسمت في ذهنه عنه، أكثر من ميله لـ «لولو»وطريقته العملية في التعاطي مع مفردات الحياة. خاصة أن والدة باري، كان لها من القيم والمبادئ ما يتعارض بشكل كبير مع المنحى الذي أخذ لولو انتهاجه، إلا أنها وحرصاً على مستقبل ابنها عمدت إلى إرساله مرة أخرى، إلى هاواي، كي ينشأ مواطناً أميركياً خالصاً منخرطاً في المجتمع الأميركي، بدلاً من بقائه في إندونيسيا، وخضوعه لموازين القوة التي فرضتها الظروف آنذاك، والتي كانت لا تعترف سوى بقوة الرعوية «الجنسية»، فكلما انتميت إلى دولة قوية مثل أميركا كان مستقبله أقرب إلى الأمان. ثم حدثنا بعد ذلك، عن عودته تلك إلى هاواي، وشعوره بالأمان في حضن الثقافة الاستهلاكية الأميركية الناعم، كما يصفه. وكذا عن رؤيته مرة أخرى لأبيه، بعد انقطاع سنوات طويلة واصفاً ذلك بقوله، « رأيت رجلا أسود يعرج قليلاً وهو يسير، وجثم على ركبتيه وطوقني بذراعيه وتركت أنا ذراعيّ تنخفضان إلى جانبي، وخلفه كانت أمي تقف يرتجف ذقنها كالعادة». هذا اللقاء الذي استمر شهراً اقترب فيه باري، من والده وعرف عن هذه الشخصية التي سمع عنها كثيراً، ولم تفارق مخيلته يوماً. وبالانتقال إلى فترة المرحلة الثانوية، والجامعية، يستعرض باري المظاهر المختلفة لحياة الشباب والمراهقة، التي عاشها ومر فيها بصراع داخلي لا يهدأ، ومع ذلك كان يعرف ما يريده جيداً، وهو إعداد نفسه كي يكون رجلاً أسود ناجحاً في مجتمع لا يعترف بغير البيض. وهذا المصطلح «البيض» لم يكن يعجب باري، الذي هاجم مدرب كرة السلة ذا التفكير العنصري ذات مرة قبل أن يخرج من أرض الملعب « هناك أشخاص بيض، وهناك حقراء مثلك». قاعدة شعبية وذكر باراك، أنه كان يصارع هذا التفكير السائد، بالكثير من القراءة متخذاً إياها وسيلة للتغلب على تلك المشاعر التي تعتريه دوماً حول الاضطهاد، وكذلك لجوؤه أحيانا إلى نشوة المخدرات وتدخين الماريجوانا، للهروب من أسئلة كثيرة تتعلق بهويته، ومع ذلك كان يتعامل مع هذا الأمر بحكمة، متجنباً مشاكل يفتعلها أو يقابلها من ينحو هذا الطريق، متبعاً حكمة استخلصها مفادها، «الناس تشعر بالرضا مادمت لطيفاً معهم، وتبتسم، ولا تقوم بتصرفات مفاجأة»، مشيراً إلى أن المحيطين كانوا يشعرون بشيء أكثر من الارتياح لأنهم يجدون شاباً أسود حسن الخلق، ولا يبدو غاضباً طوال الوقت. ثم ينتقل بنا أوباما بعد ذلك إلى كل من نيويورك ولوس انجلوس وشيكاغو، حيث بدأ يغوص بشكل أعمق في مشاكل مجتمع السود، وسعيه وراء أفكاره المثالية، وهو ما حدا به فيما بعد، إلى اتخاذه قراراً بأن يصبح له دور مميز بينهم، وبالفعل بدأت محاولاته ليصبح منظماً للمجتمع الأهلي، ساعياً إلى تنظيم السود على مستوى القاعدة الشعبية لإجراء التغيير يقضي في النهاية إلى ما يصبو إليه من مساواة بين الجميع، كما هو شائع عن الحلم الأميركي، المخالف تماماً لما وجده على أرض الواقع. عوالم كثيرة وبالإبحار عبر صفحات الكتاب مع باراك أوباما، في مراحل حياته المختلفة وصولاً إلى زيارته إلى كينيا، «مسقط رأس والده»، والتقائه بعمته واكتشافه كم المعاناة التي لاقاها هذا الوالد العظيم، سواء في إثبات ذاته، أو بعد ذلك مع بني وطنه باعتباره أول من حصل على شهادة جامعية من الغرب، ومن ثم كان الجميع يتوقعون الكثير منه، وبدوره كان ذا قلب كبير يتسع للجميع بلا استثناء. وفي كينيا، اكتشف باري صعوبة أمله بتوحيد العوالم الكثيرة التي يعيشها في عالم منسجم، بل اتضح أن الانقسامات تضاعفت أضعافاً مضاعفة على إثر هذه الرحلة. خاصة في رؤيته انقسامات قبائل الدولة الأربعين فيما بينهم، وهو ما فتح عينيه على حقيقة من حقائق التاريخ المأسوية، ألا وهي «وجود الانقسام في كل مكان»، ومع ذلك لم يخبُ لديه الأمل، في إمكانية تحقيق نوع من التعايش بين هذه التباينات في الرؤى والمصالح، وهو ما يتم استخلاصه من قراءة ومتابعة باقي صفحات الكتاب. هذا الشاب الذي يجلس الآن على عرش أكبر دولة في العالم لم يصل لهذا المنصب من فراغ. بل لأن هناك شيئا داخله يدفعه ويدافع عنه يقوده ويساعده في قيادة الآخرين. وهذا الشيء لن يعرفه إلا من يقرأ صفحات هذا الكتاب. قصة أوباما ليست مجرد قصة رئيس، بل قصة الفرار من هوة الإحباط إلى العلا ومن الشك إلى اليقين. وهو في هذا الكتاب يقدم بارقة أمل لكل من يشعر بالقهر مؤكداً حقيقة أن المقهور إذا أصر على نيل حقوقه فسينتصر في النهاية. الدكتور علي بن تميم مدير مشروع «كلمة»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©