الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تحية فينيقية من أم النار

تحية فينيقية من أم النار
19 مارس 2015 02:56
..ولكن ليس عدد الخميس الماضي من «الاتحاد الثقافي»، الذي قدم للوطن والتاريخ الحضاري الإماراتي العريق اكتشافا مثيراً للوجدان وللعشرات من الأسئلة بعنوان (شعراء أم النار) هو العدد الوحيد - وإن كان الأهم - الذي به «يستاهل الناموس»، بل كل الأعداد السابقة واللاحقة التي بها تفوقت صحيفتنا الرائدة «الاتحاد» ملتزمة بشعارها لأن تكون (المصدر الأول) وستبقى كذلك دائما. فتحية لرئيس التحرير وللزملاء في القسم الثقافي وكل العاملين في بلاط هذه الصحيفة الوطنية الغراء على تفانيهم المخلص والمضني في السبق الصحفي والاكتشافات المتواصلة على جميع الأصعدة خدمة للقارئ العربي في كل مكان.. ومع تحية الشاعر الفينيقي التاريخية القديمة لموطن آبائه وأجداده (أم النار) فإن التحية موصولة لزميلنا الأديب والصحفي المتألق دائما أستاذنا القدير أحمد فرحات، لكننا بكل مشاعر الفخر والاعتزاز نبارك من قبل ومن بعد لهذا الوطن العزيز المكان والإنسان والعراقة التاريخية التي تتزايد تأكيداً ودلالة وبراهين ومكتشفات ووثائق يوما تلو آخر في الوقت التي تنطلق فيه مشاريع المستقبل نحو المريخ. والحقيقة إننا كباحثين وقراء معنيين بتواضع شديد وغيرة وطنية كبيرة بالتراث الحضاري لدولتنا والمنطقة سنكون أول المنبهرين بمثل هذه الاكتشافات النوعية المتميزة، فكيف بنا صحفيين عشاقا للثقافة والرسالة الإعلامية الوطنية والسبق الصحفي. وبصدد موضوعنا فإنني أتخيل أن يكون كل من قرأ عن (الاكتشاف) قد سارع إلى الكتب والمراجع التاريخية وإلى المفتي (جوجل) ووثائقيات (اليوتيوب)، أو شد الرحال إلى متحف مدينة العين أو متحف الآثار في إمارة الشارقة بحثا عن إجابات تفصيلية لعلامات الاستفهام الكثيرة المنبعثة من «البشارة السارة»، كما في تقديم رئيس القسم الثقافي عبد العزيز جاسم لكتابة فرحات «فهي في تسليطها الضوء على تجارب ثلاثة شعراء فينيقيين، تعود أصولهم إلى حضارة أم النّار الظبيانية، في عصر التمدد الثقافي لحضارة فينيقيا الزاهرة التي تعد الجزيرة العربية موطنها الأصلي؛ تسدّ فجوة فاغرة من الغياب والنِّسيان المجهول في تاريخنا، وتبعث الكثير من الأسئلة الغائبة والحائرة والمنسية، وتفتح مسامات سجل التزاوج الحضاري لبلادنا مع الحضارات الأخرى، من جديد. أسئلة ولعل القارئ بعد أن يتأكد من أن (أم النار) في أناشيد الفينيقيين هو نفسه الموقع الآثاري الإماراتي الشهير على بعد 20 كيلومترا من مدينة أبوظبي لاغيره، خاصة أن عمر كنوزه الآثارية المكتشفة قدر بخمسة آلاف سنة من الآن، فإنه يتساءل أولا عن غياب مثل هذا الاكتشاف الذي انفردت به «الاتحاد» عن عشرات المراجع والمؤلفات التي تناولت (حضارة ماجان وثقافة أم النار)؟ لماذا عدم الاهتمام أو على الأقل كل هذا التأخير برغم مرور (57) سنة على بداية التنقيب في الموقع؟ ومن المسؤول على المستوى الرسمي والأكاديمي والبحثي عن مثل هذه المهام التاريخية الحضارية العريقة من حقوق الوطن وسكانه القدماء وأجيال الحاضر والمستقبل؟ وهل سيكون هذا الاكتشاف أول الغيث الذي سيغير مجرى الاهتمامات المعنية للالتفات إلى الجذور الثقافية والأدبية لحضارة المكان والإنسان عبر العصور على أرض الإمارات الحبيبة؟ وكيف سيكون مثل هذا التغيير البحثي النوعي الملح؟ ومتى؟ وتتدفق الأسئلة إلا أن (اكتشاف شعراء أم النار) يستوقفنا أولا مع مصدر اسم هذا الموقع التاريخي ولقد تعددت الكثير من الاجتهادات والروايات حول هذا الأمر، وهنا السؤال أو الوثيقة الأخرى أو الأولى تاريخيا والمعنية بالتسمية مجسدة في أبيات الشاعر الفينيقي تيفريكاتوس، زارع النار الأزلية في أعلى قمة من قمم جبال جزيرة كريت: «قمة بسيلوريتيس»، وذلك «تيمناً بالنار الأولى التي كان زرعها أجداده في أم النار الظبيانية» على حد تعبير البروفيسور «يوسي آرو»، أحد كبار المستعربين الفنلنديين، الذين اهتموا باللغات القديمة: «على قمة بسيلوريتيس أشعلت بنفسي النار الأزلية/ التي كان أهلي هناك في أرض فينيقيا/ أشعلوها من قبل/ باركوا لي علامتي الكبرى».. إذا هل سيتوقف مع هذا المصدر لتأكيد أو نفي أو توضيح مصدر تسمية (أم النار)؟ تحية وإذا ما كان أهل هذا الشاعر هناك في أرض فينيقيا مصدر النار الأولى فإن صدى التاريخ الفينيقي القديم يلقي علينا التحية «وما أوثقها وأدمغها من تحية» على صفحات الثقافة والأدب الإماراتية من أعماق تاريخية عمرها 5 آلاف سنة، موجهة من الشاعر الفينيقي/ الإغريقي/ العربي ملياغر إلى وطن أجداده وأهله الأصلي في أم النار: «أجدادي العظام جاؤوا من هناك/ من أم النار/ من أرض الورد الرملي النادر» إلى أن يقول: «أفهمتم من أي جذر أنتم؟!/ أحفاد من أنتم؟!/ وكيف هي نار أم النار مستمرة في أشعاركم؟/ ألا فلنمجّد أرواح أجدادنا، هناك كما هنا/ لا فرق/ فأرضنا واحدة/ وسماؤنا واحدة/ وأجدادنا هم.. هم.. مجد جزيرتنا/ ومجد أرواحنا الهائمة/ من أم النار إلى هنا/ ومن هنا إلى أم النار». ألا يسيل هذا الاكتشاف اللعاب للبحث عن تفاصيل التاريخ الفينيقي في موطن أجداد هذا الشاعر وآبائه، وعلى جهد الزميل القدير الأستاذ أحمد فرحات في التوضيحات التاريخية المختصرة حول الفينيقيين في المكان، إلا أن المؤرخين والآثاريين لم يحددوا حتى اللحظة مكان تواجدهم بدقة مثل ما نقرأه في تحية ملياغر إلى وطن أجداده وأهله الأصلي في أم النار؟ ألا يدفع هذا الاكتشاف القراء إلى التنقيب في المراجع والمصادر المتاحة عن الاستيطان القديم في أم النار وعموم الإمارات عبر العصور؟ ولكن قليلة هي تلك المراجع من ناحية وغير واثقة أو مكتملة بحثيا من ناحية أخرى. ولا يتسع المجال لاستعراض المتاح منها حول التواجد الفينيقي في المنطقة فما بالك بالاستقرار في الإمارات كما هي تلميحات هذه الأبيات الشعرية، ولعلها ستكون منطلقا للمؤرخين والباحثين المعنيين لإعادة النظر والمزيد من التنقيب والتوثيق والتوضيح. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى ما يؤكده الآثاريون، بصفة عامة، من أن المعلومات الصحيحة الموثوق بها من علماء الآثار هي أفضل المعلومات والوثائق التي يعتمد عليها المؤرخ لأنها نتائج اعتمدت في تقريرها على مواد مادية مكتشفة وكتابات ورسومات، وإذا كان المؤرخون يستسهلون الأمور فإن في الآثار دقة نتائج، فكل المعلومات دقيقة ومحللة. بعثات ومن منطلق المتابعة والعلم بأن الزمن الماضي من عمر العمل الآثاري في الدولة قد أعطانا تأشيرا واضحا للفترات الحضارية في كل الإمارات، كما أن هناك عددا كبيرا من البعثات الآثارية من مختلف دول العالم عملوا في مختلف المواقع وأصبحوا على اطلاع بهذه الحضارات من (بريطانيا، فرنسا، أستراليا، إسبانيا، أمريكا، اليابان، ألمانيا، سويسرا والدانمارك) لقد أصبحت هذه البعثات على معرفة بتاريخ وحضارة الإمارات والمنطقة أكثر من أبنائها، ومن يرد اليوم البحث عن تاريخ بلده فعليه أن يطلب ويتودد للحصول عليها من هذه الدول والأفراد، وللعلم فإن هذه المعلومات في معظمها ليست في الإمارات والمتاح منها قليل وضحل، إذ لابد للباحث من سفر إلى بلد البعثة والاطلاع على النتائج العلمية هناك، فمثلا جامعة ليون في فرنسا لديها معلومات كثيرة عن آثار أم القيوين والشارقة والمليحة والعين، وفي الدنمارك هناك معلومات كثيرة عن مواقع الآثار في أبوظبي والعين، وهكذا أمر اللغات المختلفة التي كتبت بها التقارير هناك، أيضاً آثاريون عرب على اطلاع بآثار المنطقة نتيجة عمل بعض البعثات والأفراد. إن التحليل العلمي للجانب الحضاري لآثارنا ليس في أيدينا محليا. هذا ما أخبرني به بعض الآثاريين قبل فترة. فهل تغير الوضع بأي شكل من الأشكال؟ خاصة وقد صدر بعد طول انتظار قانون الآثار الاتحادي مؤخراً. إن أسئلة القارئ متدفقة تماماً كما تساءل عبدالعزيز جاسم مثلاً بأنه: «هل من المعقول، وعبر كافة العصور القديمة تلك، وفي بلاد عربية تقبع في قلب الجزيرة العربية، حيث تتنفس شعوب هذه المنطقة قاطبة الشِّعر وتعتبره ديواناً لها؛ ألا يكون للشِّعر والشعراء في الإمارات أي وجود مطلقاً؟ فهل هي أزمة غياب شعري فعلاً، أم هي أزمة تأريخ كتابي ناقص ومملوء بالثقوب؟». إجابات بهذه الأسئلة يكون عبدالعزيز قد استحضر هنا روح أول من حمل شهادة الدكتوراه من بين آلاف المواطنين والمواطنات أبناء الإمارات اليوم، إنه الدكتور أحمد أمين المدني رحمه الله الذي كان قد عبر عن ألمه بهذا الخصوص أيضا في كتابه «الشعر الشعبي في الإمارات ـ نشأته وتطوره» (1967) بالقول: «لقد كانت هذه المنطقة مهد حضارات قديمة هي من أعرق الحضارات التي تولدت منها حضارة الآشوريين والأكديين والفينيقيين واستمرت منتشرة حتى احتوت شواطئ إفريقيا وغيرها»، لقد آلمني عميقا أن أجد الكثيرين من الذين يتحدثون عن هذا الجزء من العالم العربي يجهلون جهلاً تاماً دوره الأدبي ومعظم الذين كتبوا عنه وأكثرهم من الغربيين لم يروا فيه إلا قبائل متناحرة متناثرة على شواطئ الخليج، ولكن الله تبارك وتعالى أبر بعباده من هؤلاء الغربيين وأولئك المتجاهلين، فقد أراد أن يكون لهذه المنطقة دورها في الحياة البشرية كما كان لها دورها في العالم القديم. ويحاول الإجابة عن أسئلة عبدالعزيز عن الشعر والشعراء ولكن بخصوص مرحلة تاريخية متقدمة على عمر الاكتشاف الذي نحن بصدده فيفيد: بـ«أن تاريخ المنطقة الأدبي يمكن اعتباره حلقة في سلسلة تاريخ الأدب العربي بدأت في العصر الجاهلي الذي انبثقت فيه الحركة الأدبية وقد ساعد على إبرازها عوامل عديدة، منها الأسواق الأدبية التي كانت بمثابة اجتماعات موسمية، فقد كان هناك سوق عمان وسوق الجرعاء الشهير وسوق عمان وسوق الزارة». وللمدني كما لغيره من المؤرخين مزيد من التوضيحات في هذا الشأن حول رجال الفكر والأدب من رواد الحركة الأدبية في العصر الجاهلي والخطباء والمفكرين والقادة الذين أنجبتهم منطقة الخليج ومنها الإمارات. ويعتقد المدني أيضا أن الأدب الشعبي في الجزيرة العربية والإمارات العربية جزء منها، لا يختلف عن الأدب العربي الفصيح في موضوعاته ومعانيه وأساليبه وهو يشبه الأدب العربي القديم الذي كان ينشأ في العصر الجاهلي وفي القرون الأولى الأولى للتاريخ الإسلامي، وقد نبه إ لى ذلك الدكتور طه حسين في دراسة له بعنوان «الحياة الأدبية في جزيرة العرب». ولا يفوتنا ونحن بصدد مسؤوليات ومبادرات كشف الغموض حول الكثير من الكتابات التاريخية واختلاف النظريات والفرضيات والمفاهيم والتفسيرات في تاريخنا الحضاري المبكر خاصة، والعصور والحقب اللاحقة، أن نضيف ما أكدت عليه المؤرخة القديرة الدكتور فاطمة سهيل المهيري وهي تقدم لمحاولة استكشافية تاريخية مثيرة تعود لعصر أم النار في بحث عجيب للبرفيسور (فاروق ناصر الراوي) بعنوان «جزيرة دلما.. ديلمون القديمة» منشور في كتاب «أبوظبي واللؤلؤ»، والذي قدم له سمو الشيخ حامد بن زايد آل نهيان، حيث تقول: «إن مهمتنا كمؤرخين لا تقف عند اجترار ما كتبه الآخرون عن هذه المنطقة أو تلك، بل إن الواجب يفرض علينا مواصلة تقصي الحقيقة، لأن ذلك ما يفرضه التاريخ علينا. والملاحظ أن الدراسات التاريخية حول دلمون (مثلا) عكست انتماءات سياسية جغرافية لأولئك الذين أمطرونا بعشرات النظريات حول الموضوع، وإننا وإن كنا ندرك هويات أولئك المنظرين فإننا بهذه الدراسة ندعو الباحثين إلى مشاركتنا رحلة البحث عن الحقيقة وبخاصة أن كما هائلا من علامات الاستفهام قد تراكم حول هذا الموضوع، ونرجو أن نقدم إسهاماتنا بما يخدم أوطاننا ويمهد الطريق لمزيد من البحث والتمحيص لإعادة النظر فيما وقر في الأذهان سابقا من مفاهيم». شمساء وكثيرة هي الموضوعات والمكتشفات المثيرة للأسئلة والحيرة تماما مثل اكتشاف (شعراء أم النار) المفاجئ لعلماء الآثار والمؤرخين والمعنيين والقارئ العادي، وسنعود للموضوع والأسئلة المنبعثة من (الاكتشاف والسبق الصحفي التاريخي)، بعد هذا الفاصل المثير الذي يقدمه لنا الأديب والمؤرخ العماني الراحل عبدالله الطائي رحمه الله في كتابه «دراسات عن الخليج العربي». ومعه نغوص عميقاً في الوطن والعراقة التاريخية لعمر الإنسان وآثاره ومأثوراته الحضارية في ربوع المكان، وفي محاولة جديرة بالتوسع التوثيقي والبحثي، حيث إن حضور المرأة الفاعل في التاريخ السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي القديم لهذه المنطقة يعيدنا في سياق هذه المحاولة المركزة العاجلة إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، وذلك حين عرفت المنطقة حضارة ماجان وثقافة أم النار، وقد عرفت مملكة ماجان في بعض المصادر باسم جبل النحاس، عن تلك الفترة التاريخية السحيقة ثمة إشارة لشخصية نسائية يوثق عنها بإيجاز الراحل عبدالله الطائي رحمه الله فيقول: «كانت عمان من أشهر البلدان في استخراج النحاس، وكانت تحكمها ملكة تسمى «شمساء» وعندما وجدت أن الصراع قد بلغ ذروته على النحاس بين عمان ودولة أجنبية أرسلت إلى «سرجون الأكدي» رسالة تستغيث به وتقول: «إن القرية قريبة على مناجم النحاس في عمان وقد لا أستطيع أن أقاوم فمن الأفضل وأنت قومنا أن نوقع وإياكم اتفاقية لاستخراج هذا النحاس، وفعلا أقبل سرجون الأكدي بمندوب له إلى عمان ووقع الاتفاقية بينه وبين (شمساء) ملكة ماجان عمان، وبذلك حسم الصراع الاقتصادي بين عمان والدولة الأجنبية».. باستثناء هذه الإشارة الموجزة في كتاب الطائي فإن هذه الشخصية النسائية التاريخية السياسية تبقى مثار الاستفهام في هذا السياق التاريخي لبحثنا، إذ لم نعثر على ذكر للملكة (شمساء) ـ والتي يمكن نطق اسمها كما هو متداول محليا حتى اليوم وبكثرة (شمسة) ـ على الأقل في المراجع المتاحة لنا، خاصة تلك التي تناولت حضارة ماجان وصادراتها من النحاس، وهي المراجع التي تقول عن عمان في التقسيمات الجغرافية القديمة لشبه الجزيرة العربية هو «إقليم مهم يقع في الجهة الجنوبية الشرقية من شبه الجزيرة العربية، ويمتد من شبه جزيرة مسندم في الشمال إلى صحراء الربع الخالي في الجنوب، ومن حور في الشرق إلى الخليج العربي عند حدود قطر وخور العديد في الغرب»، ويرجح الدكتور حمد بن صراي في كتابه «تاريخ شبه الجزيرة العربية القديم» بأن ماجان كانت تضم شبه جزيرة عمان إضافة إلى جنوب شرق إيران ومكران، وهناك العديد من الأدلة التي تؤكد وتثبت أن ماجان تضم أيضا جزيرة عمان منها الأدلة اللغوية والجغرافية والتضاريسية والآثارية وأدلة وجود آثار النحاس والتشابه مع المناطق المجاورة، ولكن الملكة (شمساء) عربية من اسمها لذا فإن الإفادات التاريخية تتفق تقريباً على أن الكنعانيين والفينيقيين كانوا يقيمون على ساحل عمان والخليج ويترددون على سواحل كانت (أكدة) تستورد منها معدن النحاس الذي هو من الصادرات الرئيسية لماجان. ولما تولى حكم المملكة الأكدية الملك الطموح سرجون قرر أن يركب البحر ويتجه جنوبا نحو الخليج ويفتح الممالك ويوسع سلطانه، ولما وصل الملك سرجون الأكدي إلى أرض ماجان استولى عليها وأسر ملكها وأسماها (مانيوم) أو(مانودانو)، ووجد أن شعب ماجان يعبد إلها اسمه (نين تولا)، ويبدو أن عاصمة ماجان كانت تقع في جزيرة (أم النار) الحالية في أبوظبي. ومن أم النار (حسب د. فالح حنظل ـ المفصل في تاريخ الإمارات ج1). فتح سكان ماجان طرقا برية اتجهت مع الساحل إلى منطقة ملوخا أو مليحة في الشارقة، وطريقا أخرى اتجهت إلى هيلي والقطارة والى أطراف جبل حفيت في مدينة العين، فوجدت حضارة (بدع بنت سعود) ثم توزعت من هناك إلى حضارة منطقة القصيص في دبي ومنطقة (المدام) التابعة للشارقة حتى وصلت إلى «صور» و«صحار» في الساحل العربي من بحر عمان. ولما انتهى سرجون الأكدي من حملته على ماجان قويت العلاقات التجارية بين البلدين وقد وجدت كتابات عنها تعود إلى 2000 ق.م. والمعروف تاريخيا وآثاريا أن ثلاث حضارات عظيمة قامت على سواحل الخليج في الألف الثالث قبل الميلاد تمثلت إثنتان في دولتين، الأولى هي الدولة «الأكدية» في العراق والثانية هي دولة «ديلمون».. وقبل نحو 2500 سنة قبل الميلاد كانت مملكة «أكد» في العراق على علاقة تجارية جيدة مع مملكة «ماجان». إذا.. من هي الملكة «شمساء» التي وقعت اتفاقية لاستخراج النحاس مع مندوب سرجون الأكدي، وهل كان الطرف الثاني هو سرجون الأول أم الثاني؟ ما هي سيرتها وأخبارها في مثل تلك المصادر التي اطلع عليها عبدالله الطائي؟ وتتعدد الأسئلة عنها وعن الحقائق أو المعلومات الجغرافية والآثارية والديموغرافية والانتروبولوجية وغيرها من الجوانب على مستوى الإمارات وعمان خلال مرحلة حكم الملكة «شمساء».. كل هذه الأسئلة وغيرها نحيلها إلى المختصين. إرث كل ذلك يجعلنا نتأكد من الناحية الجغرافية بأن موقع دولة الإمارات العربية المتحدة كان له أثر كبير في حضارتها، حيث لعب هذا الموقع دورا كبيرا في التجارة ونقل خامات النحاس إلى وادي الرافدين منذ الألف الثالثة قبل الميلاد، كما أن وجود الواحات وتوفر المياه على امتداد السفح الغربي لسلسلة جبال عمان التي تمتد من رأس مسندم المشرف على مضيق هرمز وحتى رأس الحد جنوب شرق مدينة مسقط، ساعد على الاستيطان منذ آلاف السنين، وكان لاهتمام القائد المؤسس المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وحماسه لفهم كل ما يتعلق بهذه الأرض الطيبة وشعبها إيذانا ببداية الاهتمام والحرص على سبر غور هذا الماضي العريق وكشف النقاب عما طواه الزمن. وشهد العقد الماضي تواصل مسيرة البحث الثري بخطى ثابتة ومتسارعة مما أسفر عن العديد من الاكتشافات المهمة التي تضمها حالياً المتاحف الثرية في أنحاء الدولة. إن نتائج الكشوفات الأثرية من حصيلة قرابة (57) سنة من العمل أكدت امتلاك دولة الإمارات العربية المتحدة لإرث غني ومتنوع، يتضمن تاريخا ضاربا في القدم من المستوطنات البشرية، متنوعاً في البيئات الطبيعية والحياة البرية الحيوانية والنباتية، بالإضافة إلى تراث تقليدي بشري حيوي من الموسيقى والآداب والشعر والصناعات اليدوية. وبما أن الآثار ودراستها وخاصة في ظل توسعات العلوم الإنسانية وكشوفاتها قد أصبحت من الأولويات الوطنية الكبرى لكل أمة تطلعا لرقي شعبها واكتمال تجربتها الحضارية، فإن مطلب تكريس الوعي الآثاري والتاريخي ونشره بين فئات المجتمع الإماراتي قاطبة يعتبر من المهام الأساسية التي تدعو إلى فهم مكونات الهوية الوطنية والارتباط بها بصدق وبقوة وعلى أسس ثابتة. إذن ومن منطلق المصلحة الوطنية أولا ومن معرفتنا المسبقة بما تنطوي عليه هذه الأرض من كنوز وتركات حضارية هائلة لم يتم الكشف عنها إلا على نطاق ضيق جداً لا يتعدى حدود المختصين، الأمر الذي جعل البحث الأثري يعيش معزولاً وبعيداً عن اهتمامات الناس وطموحاتهم، لا بد من التوكيد على أهمية العمل بمفاهيم الثقافة الشمولية التي تنفتح على مكونات الشعب ولا تستبعدها أو تهملها. ومن شأن الوعي الآثاري المنشود المساعدة على الفهم وبالتالي إدراك أنفسنا بصورة أدق وأشمل والتعرف على مساراتنا طوال الحقب الحضارية المتعاقبة. ولما كان نشر الوعي الآثاري كذلك شأنه وضرورته وأهميته، فإننا نختصر الحديث إذا ما عدنا بالذاكرة إلى ديسمبر عام 1974، حيث لايزال صدى المؤتمر السابع للآثار والتراث الحضاري في الوطن العربي المنعقد في مدينة العين بإشراف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ترن في آفاق الحاضر بصخب، وهو المؤتمر الذي تميز بأن محوره كان موضوعاً واحداً متكاملاً وهو نشر الوعي الآثاري في البلاد العربية مجموعة ومنفردة. فحددت توصيات الجهات والأدوار ومنهج العمل للمعنيين بهذه المسؤولية الوطنية التاريخية الحضارية فكانت: (المؤسسات التربوية)، و(المؤسسات الثنائية ودورها في نشر الوعي الآثارية)، و(الأجهزة الإعلامية)، و(المؤسسات الشعبية)، وأجهزة الحكم المحلي ودور السياحة والتعاون بين البلاد العربية إلخ ... وإذا كانت الآثار سجلا للحضارة ودليلاً مادياً على تاريخ الأمة فهي أيضا عطاء للأجيال عن طريق الفنون، ونشر الوعي الآثاري يتطلب، فضلاً عن النظرة التاريخية للآثار نظرة فنية تستحضر قيم الجمال فيه وتعقد أوثق الصلات بينه وبين الوجدان. إن تعميق التذوق وإشاعة الوعي بالقيم الجمالية للآثار يستلزم مزيدا من العناية وتضافر الجهود كي يأخذ البعد الفني وضعه في قضية نشر الوعي الآثاري
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©