الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

بيوت الماء

بيوت الماء
11 مايو 2017 13:22
إذا كانت السفينةُ عنواناً للسفر أو الترحال عند المبدع، يبثّ شراعها همومه وأحزانه، فإنّ هذه السفينة بما تحمله من أحزانٍ وأشجانٍ، ثيمة تبرز بقوّةٍ في موروثنا الخليجيّ، باعتبارها وسيلةً مهمّةً في نقل كلّ هذه الدفقات الحارّة التي سافرت في صدور أصحابها وهم يمعنون النظر طويلاً في عرض البحر، أو يرفعون رؤوسهم إلى حيث سماء لا تنتهي وسرابٍ لا يقوى عليه كلّ هذا الماء الذي يحمل «محامل» القوم إلى حيث الرزق. وإذا كان قُدّر لهذا الخليج أن يفرض إيقاعه على محبيه الذين اتخذوا من السفن خيولاً يمتطون صهواتها في عرض هذا البحر، فإنّ مهارةً في امتطاء صهوات هذه الخيول وسياستها ومعرفة أخطار الرحلة على ظهورها، توافّرت لدى الخليجيّ الذي عرف كيف يبثّ جواره وأصدقاءه ومشاركيه في الجغرافيا الإنسانيّة ثقافته وموروثه وأسلوبه في الحياة والتفكير والعيش. وإذا كان العربُ قد عرفوا سفينةً تجوب عرض الصحراء فقد عرفوا أيضاً، سفينةً تمخر عباب البحر، وتتوافر على ثقافةٍ تنفتح على الآخر. إنها «المحامل» التي شكلت وسيطاً قوياً ومثالياً للمشاركة التجارية والتبادل الإنساني والثقافي بين من يعانقون شواطئ هذا الخليج، هذه التشاركيّة الحميمة التي قام بها الإنسان الخليجيّ بامتيازٍ، وهو يعتني بسفينته/&rlm&rlm راحلته التي ترافقه في هذا الطريق الطويل ليعود محمّلاً بالبضائع والسلع، وبثقافاتٍ جديدة يأخذ منها وينشرها، بعد أن يكون قد ناب عن كثيرين في نشر الثقافة العربيّة ليزداد التلاحم والترابط بين الناس وتتسع دائرة الاتفاق على الهدف الإنسانيّ في إعمار الأرض. هذا التلاقح الثقافي والإنساني يدعونا إلى تتبع خيوطه الغنائيّة، وأهازيج البحر، والأناشيد التلقائيّة المصاحبة لهذه الحركة الدائمة في صناعة السفن وتجهيزها، وفي لحظات الوداع، وكلّها التقاطات تراثيّة لها أسبابها وموجبات دراستها، وتتبع المنشأ في ردّ المفردة إلى بيئاتها في الخليج وفي غيرها من المناطق المحيطة بالخليج، وهو الأثر التراثي الثقافي الذي يمكن للمهتمّ أن يبحث عنه ويتقصّاه. إنّ مفرداتٍ مثيرةً تلفتنا وتدعونا بقوّة إلى أن ننتبه إليها، وربّما ألّف فيها المهتمون كتباً وقرأوا ألوانها الموسيقيّة ومقاطعها وطريقة الغناء بها، كمفردة «النّهام» على سبيل المثال، وفضلاً عن ذلك، فإنّ كلّ مفردات البحر هي موحية بطبيعتها ومستفزّة لنقرأ ظلالها الثقافيّ، فما بالنا بـ»السفينة»، تلك التي كانت في فترةٍ ما، على بساطتها أو تعقيدها أو تقليديّتها أو تقنياتها العالية في ما بعد، تجمع أخشابها أعظم القصص والحكايات وأشهر الرحلات، فعلاوةً على ما يتلألأ فوق ظهورها من حبّات الحصابي وأنواع اللؤلؤ أو أكوام الأسماك، تضم السفينة تراثاً خليجيّاً هائلاً، سواء كان تراثاً ماديّاً في المروي من أغاني البحر وأهازيجه وقصائده وأناشيده أم غير مادّيٍّ. وفي أجزاء السفينة ومصاحباتها ما يمكن المبدع من رسم لوحاتٍ غنيّةً، وربّما تكون السفينة حاضناً قويّاً لحكايات دراميّة، يمكن أن تتفوّق على «تايتنك»، وتلك من مهمّة الدول في أن تنتبه لهذه الجزئيّات فتصنع منها عالماً يمتزج فيه الواقع بالرؤية بالمتخيّل من الطموح. إنّ جزئيّةً واحدةً مما سبق يمكن أن تؤلّف فيها المؤلفات وتتأسس عليها الدراسات والأعمال المسرحيّة والسينمائيّة عدا الفنون الأخرى، وإذا كان الحديث عن هذه الجزئيّات يطول ويحتاج وقفات متأنّية، فإنّ السؤال الأهم هو: كيف نستلهم هذا التراث، فنحفظه، وندرس ما يتضمّنه من منطلقات وطقوس، كما في أثر آخر النّهامين في الإمارات، أعني جمعة فيروز بو سماح الذي نقرأ من خلال مقطوعاته الحماسيّة والعاطفيّة بعداً دينيّاً وثقافيّاً، وهو يستنهض همّة الرجال، بما يشدّ من أزرهم في البحث عن اللؤلؤ واستخراجه، والشواهد في ذلك تطول، وليس هنا مجال عرضها فهي كثيرة، كما في عتاب البحّارة البحر وتخويفه بالله، وفي ذلك حياة ذات حراك وجداني يمكن تتبعه والوقوف عليه، فهو تراثٌ هائلٌ ما تزال تحتفظ به الأذهان ونحتاج إلى أن نقرأه على الأبناء لكي تظلّ تردده الأجيال. وإذا كنّا نتحدث عن تراثنا الغنائيّ البحري وطقوسه، فلا بدّ أنّ هذا التراث تأثّر هو الآخر بحكم الجوار الإنسانيّ في اقتسام الماء، ولعلّ الباحث يجد في أغاني البحر على سبيل المثال ما يشير إلى ألفاظٍ لو تتبعها لوجدها أجنبيّةً وجرت على لسان النهّام أو الصيادين، فهي حقيقة تكشفها المقاربات اللهجيّة والدراسات اللغويّة وجذور الأفعال، وربّما وجدنا في لهجات جوارنا غير العربيّ ألفاظاً ومفرداتٍ هي الأخرى من صنعنا، فهي الحضارات تتلاقى والبعد الإنسانيّ يتجلّى من خلال هذه الأبعاد. وما الأغنية سوى مثال فهناك الأزياء وأساليب العيش والتقاليد وغيرها مما يجري تبادله عبر البحر. وإذا كانت السياسة هي بنت الثقافة أو كانت الثقافة هي حصان السياسة، فإنّ نقطةً مهمّةً يمكن أن تتأسس على التشارك الحضاريّ الثقافي الإنسانيّ بين الخليج والشعوب المجاورة التي تأثّرت وأثّرت، إذ يمكن أن نؤسس على هذه الأرضيّة احتراماً لسيادة الدول وقوتها في إطار من الاحترام المتبادل. إنّ السفينة يمكن أن تدخل بقوّةٍ في المعترك التشكيلي وأعمال النحت والخزف، لكي يشعر أبناء هذا الجيل بأنّهم ما يزالون على صلةٍ بماضيهم المهمّ وتراثهم الحقيقيّ، كأن تعمد الجاليريهات والمهرجانات إلى تمثُّل السفينة أو المركب في أعمالها، فالسفينة ملمحٌ شعري مهم، وثيمة إبداعية عالية المزاج، استفاد منها الشعراء في الحنين والتعبير عن آهاتهم وأمنياتهم وأحلامهم البعيدة، وهي تستحقّ منّا ألا نعدد مزاياها فقط في التجارة والبحث عن الرزق، بل إن نردّ إليها كثيراً من فضل نقل الثقافة وتبادل طرق الحياة وأساليب العيش بين الشعوب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©