الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خليفة الفقاعي دقّ قلبه للبحر

خليفة الفقاعي دقّ قلبه للبحر
9 مايو 2017 19:41
حينما يُذكر البحر يُستذكر خليفة الفقاعي «رحمه الله» وتُستذكر مآثره في صبره وعصاميّته، مثلما يتناقل الناس مآثره الجليلة في بناء المساجد وعمل الخير، وخصوصاً في دول كالهند، ليظلّ البحر يذرف كلّ صباحٍ ومساء دمعةً حرّى على ذلك الفتى الذي أحبّه، فاختبر صبره عنه، فعاد إليه، ليودع فيه بعد موته كلّ تلك الأسرار التي بقيت في صدريهما معاً بعد كلّ ذلك المشوار الذي طال بينهما ثمّ قَصُر فجأةً وكأنه يومٌ أو بعض يوم! أجريت معه هذا الحديث عام 2008 روى فيه مشاهد من الذاكرة توضح التحديات، والإنجازات، والذكريات المتعلقة بالبحر كبحر، كلجة، كحضارة، كسفن ونواخذة، كصراع ومواقف وأحداث وارتباط حياة. في الخامسة عشرة من عمره، كان الفتى قد تشبّع بقصص البحر ومغامراته، خصوصاً أنّ أخواله من «النواخذة» كانوا يتفننون في سرد طقوسهم وما تحمله عاتيات الأمواج وهُوج الرياح. طمحتْ نفسُ الفتى إلى حيث الفضاء، وتوقّدت بين جوانحه جذوة الترحال ليكتوي بنار البحر قبل أن يخوض أهواله. عام 1936، كان خليفة بن محمّد الفقاعي أحد أبرز فتيان رأس الخيمة، فتىً في شرخ صباه، مشدود الهمّةِ، مغرماً بالتفاصيل، رومانسيّ الطبع، لا يحبّ المكوث طويلاً، ولذلك قرر أن يفتضّ سرّ البحر كما فعل أخواله من قبل. ولأنّ الفتى، على حماسه الفائض، كان قليل التجربة غير خبيرٍ بالمفارقات وتصاريف «ركوب البحر»، فقد قُدّر له أن يخرج مع القوم مرافقاً في إحدى السفن: عينٌ تفتح بكامل اتساعها على عالمٍ لم يره إلا في أحلامه، وعينٌ تغمض بكلّ أحزانها على فراق والدته المريضة وما يهبّ عليه من شوقٍ إلى وجهها الصبوح. كانت السفينة للشيخ محمد سعيد بن غباش قاضي رأس الخيمة، يتوسّطها النوخذة عبدالله بن سالم، وتتهيّأ لتحمل الفقاعي إلى حيث قُدّر لها أن تحمله.. إلى «كراتشي» لتكون محطّةً أولى نحو «عدن»، وتلك فضاءاتٌ لا تنتهي عند حدٍّ لهذا الفتى المنذور لعالم السفر والترحال. يقول الفقاعي، بعد اثنين وسبعين عاماً على هذا اللقاء الأوّليِّ مع البحر، إنّه وهو في نشوة هيامه وشطحات تأملاته، اعترضتنا عاصفةً هوجاء «عيوفي»، ظلّت تزمجر من بعيد مثل سبعٍ شرسٍ خرج في غابةٍ على قومٍ آمنين، فكانت ذاكرتي تسجّل اللقاء الأوّل المؤلم على غدر الحبيب الذي استعذبتُه بالرغم مما سمعت عنه من أهوال، وهي أهوالٌ تبدّت لي واضحةً من دون وسيطٍ أو راوٍ. لم ينتبه الفتى الغضّ من سرحته، إلا على الرجال الذين اعتادوا ركوب مخاطر البحر، وهم يودعون «شحنات» الأرز والتمر في فم هذا الحبيب الواسع. كانت الشحنات تذوب على سطحه العريض الذي تفننت الريح الشديدة في اللعب عليه، وكانت ليلةً ليلاء، بل درساً قاسياً عرف خلاله الفقاعي كيف يواجه الرجال الصعاب، وكيف يتنادون لتزول الغمّة وتعود الأنفاس إلى الصدور. لم يكن الفتى آنذاك يتقاضى أجراً على مقاساة هذا الامتحان، بل كان متدرباً لا غير، وحسبه ما يعود به ليقصّه على من هم في مثل سنّه، ربّما ليزهو في أعينهم أو يدعوهم إلى مثل هذه التجربة. رحلةٌ، فأخرى، فثالثة، وإذا بالفقاعي يظمأ إن هو غاب لحظةً عن البحر.. ثم تبتسم فم البحر المطبقة للفقاعي لتتحقق الحلم الذي لطالما راوده في أن يستقلّ بسفينةٍ، إذ يسمع بأنّ «علي اللاغر» ينوي بيع «سنبوكهِ» الصغير، فيقرر ألا يكون لأحدٍ سواه، وأن يحوزه بعد أن جاءته الفرصة، لكنْ، مع كلّ محاولاته لا يستطيع الفقاعي تدبير كامل المبلغ، فيضطر إلى المشاركة بالنصف!. كان الفقاعي يكفكف دمعاً أخفقت عينه في إخفائه، وهو يتذكّر كيف رهنت والدته «مريتها» الذهبيّة بـ 400 درهم شارك بها صاحب السفينة، ليكون هو «النوخذة» منذ ذلك الحين، ويقود أوّل رحلةٍ بحريّة إلى «ميناو» و»بندر عباس»! لم تمرّ أربعة أشهرٍ إلا والفقاعي يسدد المبلغ فـ «يفكّ» الرهن ويستعيد «المرية» تسابقه خطاه إلى حيث والدته، التي امتدت بركة دعائها إلى بركاتٍ، فاشترى سنبوكاً آخر، ليزداد نشاطه في نقل البضائع والرّكاب، فيجود على مجالسيه بحكاياتٍ ومشاهداتٍ وأهوال لا تنتهي مع البحر في رحلاتٍ ألِفَتْه فيها موانئ أفريقيا والهند واليمن والعراق وغيرها. قبل رحيله بأيّام، فتح «أبو علي» قلبه لمزيدٍ من البوح والفضفضات، خصوصاً وأنّ الرجل مثلما قرر أن يصبح «نوخذة» منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، قرر فجأةً ودون سابق إنذار أن يترك أعمال البحر، ويشتري أرضاً من «الشيخ صقر» ليشجّرها بالنخيل ويزرعها بالخضراوات والتبغ! ثلاث سنواتٍ مرّت كصخرةٍ ثقيلة أطبقت على أنفاس الرجل الذي حصر نفسه في بستان مهما امتدّ يظلّ قاصراً عن اتساع البحر، ذلك الحبيب الأوّل، الذي علم أنّ الفقاعي لن يمكث طويلاً في البعد عنه، وفعلاً تحققت نبوءة البحر، فها هو «أبو علي» يقرر في ساعة اشتياقٍ شديد أن يعود إلى حيث معانقة البحر والوضوء بمائه والتعب اللذيذ في عناده وأسفاره. يكاد ينصهر دماغ «أبو علي» بكلّ تلك الذكريات البعيدة والمواقف الطريفة، التي اعتادها مسافراً وتاجراً وخبيراً في لوازم السّفن والأخشاب ومستلزماتها الفنيّة، وهي خبرة جاءته عن طيب خاطرٍ لأنّه كما يقول أخلص للبحر ودق قلبه إليه فكان أن مدّه بكلّ ذلك الخير الوفير وتلك الصحبة الطيّبة لرجالٍ أحبّوا البحر مثله، فأعطاهم ما أعطاه ومدّهم كما مدّه بصدورٍ رحبة ظلّ أصحابها «يرودون» المزيد من الآفاق لا يحملهم إلا الخشب والماء، والثقة بالله فوق كلّ شيء. يقول الفقاعي إنّ حركةً دؤوبةً في موانئ الإمارات قوامها 250 إلى 300 سفينة تخصصت في ارتياد الأسفار الطويلة، إلى جانب الأساطيل الأخرى الصغيرة التي كانت تروح وتجيء بين موانئ الخليج بأصحابها المواطنين، الذين عاصر منهم عدداً من الربابنة من الآباء والأجداد، من أمثال: عبدالله بن سالم وعلي بن يوسف البزي وسعيد بن علي الشامسي، وجميعهم، كما يقول، على داريةٍ تامّةٍ بالاتجاهات والمجاري ومعرفة تحرّكات النجوم، عدا معرفتهم الواسعة بالبراري ومواقع البحر وأعماقه والمناطق والموانئ والبلدان. ويستذكر الفقاعي من النواخذة وأصحاب السفن من منطقة المعيريض في رأس الخيمة محمد بن حميد بن دلموك، والأخوة إسماعيل وعلي وإبراهيم كه، وعبدالرحمن العري، وقاضي رأس الخيمة أحمد بن حجر، كما يستذكر من رأس الخيمة علي المفتول وأبناءه عيسى وعبيد، وإبراهيم سالم الكبت وعبدالله بن سالم بن رابوي وسواهم، ومن الشارقة شامس القريدي، وخلف القريدي، ومحمد بن سعيد، وراشد بن سعيد الجروان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©