الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أيقونة التلاقح الثقافي

أيقونة التلاقح الثقافي
9 مايو 2017 19:57
من يتتبع التراث العربي الخليجي، على اختلاف أنواعه وإرهاصاته، لا بد له من الوقوف على معلم تراثي مهم برع فيه العرب في الخليج العربي منذ حقب تاريخية قديمة، هذا المعلم هو حرفة صناعة السفن، التي ترتبط جذورها بالأصالة والتراث. ولو تساءل الفرد منا عن سبب الالتصاق الروحي والتراثي في الخليج العربي عموماً، والإمارات العربية المتحدة خصوصاً، لوجدنا أسباباً كثيرة لعل أبرزها إتقانهم فن الملاحة وخبرتهم في علم الفلك والأنواء، فضلاً عن الدور المهم الذي يلعبه موقع الخليج العربي الاستراتيجي على خريطة العالم، فهو يشكل محوراً ملاحياً مهماً ومحورياً، وهو الأمر الذي انعكس وبشكل واضح في ارتقاء وتطوّر الحركة التجارية والملاحية، وسبرِ الخليجيين عموماً، والإماراتيين خصوصاً، أرجاء الكرة الأرضية ووصولهم إلى مناطق جغرافية بعيدة وممتدة، منها: مناطق شرق آسيا، والمناطق الشمالية من وادي السند. ومن الجدير ذكره أن هذه الصناعة – صناعة السفن- إلى جانب كونها معلماً تراثياً مهماً يحمل في طياته نسائم الأصالة وعبق التاريخ، فهي وسيلة اقتصادية واجتماعية مهمة، ومن أهم الأدوار التي تلعبها، الدور الحضاري والتراثي العميق، فهي وسيلة تواصل بين الشعوب، ووسيلة تبادل ثقافي وتراثي مهم وغني. والمحامل تمتد جذورها في التاريخ إلى خمسة آلاف عام، منذ أن صنع سيدنا نوح عليه السلام سفينته، وصناعة السفن مستمرة ومتواصلة حاملة الانطباع التراثي في مضامينها، ولا تزال هذه الحرفة فاعلة ونشطة بعمق وبقوة ضمن المشهد الثقافي والحركة التراثية الخليجية عموماً، والإماراتية على وجه الخصوص. كانت سفن الخليج العربي تخاط بالليف، وقد ترك لنا الرحالة العرب والأجانب وصفاً لتلك السفن، ولعل مراجعة بسيطة لما كتبه ابن جبير في القرن الثاني عشر، وماركو بولو في القرن الثالث عشر، دليل واضح على ذلك، وقد تحدث المؤرخ ابن جبير عن صناعة السفن في الخليج العربي، فقدم وصفاً جميلاً للخيوط المستعملة في تثبيت الألواح، فهو يقول: إن هذه السفن مخيطة بأمراس من القنبار وهو قش جوز النارجيل يرسونه (أي صناع السفن) إلى أن يتخيط ويفتلون منه أمراساً يخيطون بها المراكب. ومهما يكن من أمر، فسفائن المحيط الهندي، والخليج العربي، والبحر الأحمر لا يستعمل فيها مسمار البتة، إنما هي مخيطة بأمراس من القنباري وهو قشر جوز النارجيل، ولعل الهدف من الابتعاد عن استخدام المسامير لدى أهل الخليج والمحيط، أنهم يرغبون في جعل مراكبهم بتلك الصورة، ليلين عودها ويرطب لكثرة الشعاب المعترضة في تلك البحار. الشراع المثلث وقد اختصت السفن الخليجية بالشراع المثلث، وهو شراع سائد حتى يومنا هذا. وكان للخليجيين دور مهم في نقل هذا الشراع إلى البحر المتوسط، ومما يؤكده الباحثون أنه لولا الشراع الخليجي المثلث لما قام الأوربيون برحلاتهم المحيطية التي استكشفوا فيها مناطق مجهولة من العالم، وينسج هذا الشراع من أوراق جوز الهند أو سعف النحيل. والسفينة الخليجية تحمل فوق ظهرها مراكب صغيرة للنجاة وهي على نوعين: القارب، والدونيج. وقد يحمل القارب (15) رجلاً، مقابل (4) في الدونيج. وللسفن صاري يسمى الدقل وهو من جذع النخيل، وقد يصل طوله إلى (76) قدماً. أما الانكر، أو المرساة فكان غليظاً لا دفة فيه، وهو في السفن الخليجية يصنع من الحجر وفي وسطه ثقب للحبال. ومن الطريف الإشارة إلى أن السفن العربية الخليجية، لقوتها ومتانتها، عرفت في الهند باسم (ماداراتا) وفي الواقع، فإن ماداراتا تعني (المدرعات) وثمة محاولات جادة تتم اليوم في بعض بلدان الخليج العربي، وخصوصاً في الإمارات العربية المتحدة، من أجل تأصيل وتجذير صناعة السفن التقليدية، والأهم من ذلك السعي باتجاه المحافظة على النجارين المهرة القلائل الذين برعوا في بناء السفن والمراكب، ولذلك يمكننا أن نعدّ الإمارات، من أهم مراكز صناعة السفن في الخليج العربي حتى أنها نالت شهرة ما زالت باقية، ولم تكن هذه الصناعة مقتصرة على الاستخدام، بل كانت معدة للتصدير إلى الأسواق المختلفة. وقد حمل عدد من الأهالي بجدارة لقب (قلاليف) وهي جمع قلاف، وهو صانع السفينة على امتداد سواحل الخليج العربي. كما تطورت أشكال وأحجام السفن الخشبية حسب تطور المهن البحرية وتنوعها عبر التاريخ، وأساتذة صناعة السفن في الإمارات سعداء بما يصنعون، حيث طبقت شهرتهم الآفاق حتى وصلت إلى الهند وباكستان والصين، فتعلموا منهم بعض أسرار مهنة صناعة السفن. دورها الثقافي ليست صناعة السفن وإتقانها مجرد حرفة للصيد والتجارة والتنقل عبر البحار والمحيطات، بل هي نبض روح وتراث وتاريخ. وقد اهتمت الدولة اهتماماً كبيراً بالتراث وقضاياه، وعملت على ربط الحاضر بالماضي والالتصاق بالجذور، وذلك من خلال إنشاء المراكز الثقافية، والتي بدأت تنتشر خصوصاً في السنوات القليلة الماضية، والتي تهدف إلى استعادة صورة التراث وبث الحياة فيه من خلال مشاهد صناعة السفن في الخليج العربي عموماً والإماراتي خصوصاً، خاصة أن هذه الصناعة، ارتبطت بالخليجيين كأناس كانوا يرتادون البحر ويمخرون عبابه. وقد تضمنت تلك المراكز صوراً ونماذج ومجسمات تظهر أنواع السفن وآلية صناعتها، ولعلنا نذكر منها: البانوش الذي ابتكر في الثلاثينيات من القرن الماضي، والذي حور لكي يعمل بالمحركات، وهو في الأصل سنبوك، وكذلك البوم، والبغلة وغيرها من الأنواع التي تستخدم في صيد الأسماك والغوص عن اللؤلؤ ونقل البضائع والركاب. وتحكي تلك المراكز عن آلية صناعة السفن، فتحدد الخطوات بأنها تبدأ في مكان مخصص، ويكون على شاطئ البحر، حيث يحدد القلاف حجمها من حيث الطول والعرض والارتفاع، بحسب نوعها، والغاية التي ستستخدم لها، ووفق قياسات متناهية في الدقة لكي تحفظ توازن السفينة عند إبحارها، وهو الأمر الذي يعكس مهارة القلاف الخليجي عموماً، والإماراتي خصوصاً. الأبعاد التراثية لعل من الأمور المهمة والتي تربط بين السفن وصناعتها والتراث، وجود مجموعة من العادات والتقاليد التي تواكب تلك الصناعة، وقد تحدثت السيدة لؤلؤة عن والدها النوخذة المعروف عبدالوهاب عيسى عبدالعزيز القطامي (1898 ـ1967) فقالت إن أحد التجار إذا قرر بناء سفينة، فإن عليه أولاً أن يبحث عن القبطان (النوخذة) الذي سيتولى قيادتها، فالنوخذة ليس هو ربان السفينة وحسب، بل هو المسؤول عن تجارتها وأموالها، وهو العالم بأسرار الرياح والأمواج، وهو الأب والأخ لكل بحار على ظهرها. وثمة ما يشير إلى أن القوانين السائدة في الخليج العربي والمتعلقة بالعمل البحري، كانت تلزم جميع البحارة بامتثال أوامر النوخذة، وخاصة في موسم الغوص براً وبحراً، وليس لهم الحق في مخالفة أوامره. ويسعى الخليجيون عموماً، والإماراتيون خصوصاً، إلى المحافظة على تقاليد صناعة السفن، والاحتفاظ بالحرفيين القلائل الذين يبرعون في هذه الصناعة العظيمة، التي تعكس كفاح الإنسان الخليجي، واستجابة لتحديات البيئة، والزمن، عبر العصور التاريخية المختلفة، ومما يجدر ذكره أن صناعة السفن في الخليج العربي ظلت مزدهرة، على الأقل، حتى مطلع القرن الماضي.. السفن أو المحامل لم تكن مجرد أدوات للصيد والارتحال والبحث عن اللؤلؤ، بل كانت وسيلة إنسانية مهمة للتلاقح الثقافي، والتواصل بين الشعوب، والدليل على ذلك أن هذه السفن رغم مرور سنوات طويلة على معرفة الإنسان الخليجي لها، وصناعتها، فإنها لم تتلاش ولم يطويها النسيان، بل بقيت في الذاكرة الجمعية للأبناء، وبقيت ماثلة وبقوة في المشهد الثقافي والتراثي الخليجي عموماً، والإماراتي خصوصاً، لتكون بحق أيقونة خالدة تمزج الماضي بالحاضر، وتسقط عبره وحقائقه السالفة على الواقع المعيش، من خلال قصص البحر الكثيرة، ومغامرات الارتحال التي يتناقلها الأبناء عن الآباء والأجداد، ليرثها من بعدهم الأحفاد، وهي التي تشكل في كلّيتها صفحات منيرة ومشرقة من تاريخنا العربي الخليجي عموماً، والإماراتي خصوصاً، فهذه السفن بحد ذاتها إيقاع التراث، سواء من خلال آلية صناعتها وأنواعها، وأسمائها، أو من خلال ملاكها ونواخذتها، وقد كان ذلك كله مادة غنية للشعر والنثر بأنواعه قصة كانت أو رواية، وهي بكل أطيافها أنموذج حي للعلاقة التراثية الحميمة التي تربط بين الإنسان الخليجي عموماً والإماراتي خصوصاً بالسفن وبعدها التراثي الإنساني. وصفوة القول: علينا الاهتمام بالتراث البحري الخليجي، وخصوصاً الإماراتي، وتوثيق أحداثه وشخوصه، وذلك من خلال إقامة (متحف) يضم أنواع السفن، وصورها، وأنواعها، وأشكالها، وكيفية بنائها، وسير أبرز البحارة، والتجار، والصناع، الذين مارسوا هذه المهنة العظيمة عبر التاريخ، ليكون معلماً تهتدي به الأجيال القادمة، ودليلاً على حيوية هذا الشعب المبدع الأصيل. نقطة تحول ثقافي تقول الشاعرة الكويتية العهود راشد: للتجارة البحرية في منطقة الخليج العربي المتمثلة في السفن التقليدية الخليجية «المحامل» أثر بالغ الأهمية على الصعد والمجالات كلها لأبناء الخليج، وشكلت نقطة تحول كبرى على المستوى الثقافي، فالتبادل التجاري صاحبه تبادل معرفي وفكري ثري، والاطلاع على الحضارات المختلفة كفيل بارتفاع الوعي بشكل أو بآخر، أفضى إلى تمازج جميل في الثقافة الشعبية لأبناء المنطقة، فتقاربت أكثر وأكثر الفنون الشعبية وتنوعت، واتسعت آفاق مبدعيها وروادها. ومن الجميل والمبهج ما نراه اليوم من اهتمام بهذا الإرث الثقافي الشعبي، فأصبحنا نرى المهرجانات التراثية تتنوع بكل أشكالها وأنواعها وتزدهر يوماً بعد يوم بكل زهو وفخر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©