الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هل هناك «عقل» عربي؟

هل هناك «عقل» عربي؟
11 مايو 2017 16:32
مفهوم العقل مفهوم واسع، فقد يعني طريقة التفكير، أي طريقة الاستدلال والاستنتاج والاستقراء.. أي الجانب المنطقي، ما يجعله أقرب ما يكون إلى عملية البرهنة والاستدلال أو ما نسميه عملية التفكير في وجهها المنطقي. وقد يعني العقل الذهنية أي الميول والعادات المهيمنة في طريقة التفكير بمعناها الواسع، أي طريقة الانطباع والإحساس والتلقي وترتيب ما نتقبله من العالم الخارجي من تأثيرات. إن الذهنية Mentalité هنا أقرب إلى كلمة Mind الإنجليزية التي هي أقرب إلى الذهن، أي إلى مستوى يتمازج فيه التفكير العقلي بالإدراك الحسي، بل أيضاً بالانطباع الوجداني (حتى لا نقول العاطفي). فعندما يتحدث كانط عن العقل فهو يعني به هذه القدرات المنغرزة في النفس، والتي تقوم أساساً بوظيفتين على الأقل: التركيب بين المعطيات الحسية، والحدوس العقلية في عملية الإدراك الحسي، ابتداء من مستوياتها الدنيا إلى مستوياتها العقلية الكبرى. وعندما يتحدث الجابري عن العقل العربي، فهو ينتقل من مستوى الحديث عن مكونات أو عمليات العقل المحض، بغض النظر عن لويناته اللغوية أو العرقية أو الثقافية كما عهدناها لدى كانط التي هي عمليات تشمل كل البشر، إلى مستوى العمليات العقلية وطرق التفكير، كما صرفتها النخب الثقافية العربية الإسلامية؛ أي من مستوى بشري عام إلى مستوى نخبة عالمة مخصوصة هي نخبة المشتغلين بالتفكير في النص أو النصوص الأساسية المجسدة للثقافة الإسلامية، مستقرئاً آليات التفكير لدى هذه النخبة التي تحكمها آلية القياس: قياس الحاضر على الغائب، بمعنى آخر أن الثقافة العربية الإسلامية يحكمها نص أساسي مؤسس ونماذج معرفية وسلوكية تأسيسية، يتعين القياس عليها لفهم وتفسير أية فكرة أو سلوك، أو بمعنى آخر أن الثقافة العربية الإسلامية هي ثقافة تكرارية احترارية تقيس الحاضر على الماضي والنسخة على الأصل... يتناغم في هذا المستوى الفكري الأعلى ما هو ديني وميتافيزيقي مع ما هو منطقي وعقلي، مع ما هو إيديولوجي ضمن بنية فكرية متماسكة تمارس مهام اللحم الاجتماعي والإسناد السياسي والشحن الأخلاقي، ضمن السيادة الملائمة للتصور الديني. الكاتب الأميركي المجري الأصل رفائيل باتاي(أرشيفية) باتاي.. والعرب من أشهر الدراسات المتداولة في هذا الباب دراسة (العقل العربي) للانثروبولوجي الأميركي ذي الأصل الهنغاري رافائيل باتاي (1996-1910) وهو رغم تحيزه الواضح ضد العرب، يتميز بتجميعه العديد من المعطيات التي تخدم فكرته الأساسية. من الزاوية المنهجية، تندرج دراسة باتاي ضمن السوسيولوجيا أو الانثروبولوجيا، وهو ما يجعل دراسته أبعد ما تكون عن الإبستمولوجيا، إذ من البيّن أن الترجمة ساهمت في إضفاء المزيد من الغموض على الكتاب الذي ترجم كلمة Mind الإنجليزية بالعقل، والحال أن المقصود في الكتاب هو «الذهنية» أو «المزاج» أو الشخصية، وهي المصطلحات التي يوردها المؤلف بتواتر بيّن، لذلك فإن الأمر يتعلق بالشخصية الأساسية عند العرب أو بالسمات العامة للشخصية العربية، أكثر ما يصب في تحليل العقل العربي بمدلوله الابستمولوجي. مبتغى الباحث هو السمات المشتركة بين العرب من حيث علاقتهم بالعالم وبالآخرين وبالقيم، وبالتالي أنماط السلوك وطرق الاستجابة، والسمات القرابية والعاطفية وغيرها. ومنذ البداية، يراكم باتاي الصفات السلبية المنسوبة للعرب كالبداوة والتوحش والعنف والانتقام والنهب والتدين السطحي والترحل والجبن والنسخ والنميمة، واستعراض عورات الآخرين بجانب النزعة الشهوية، مستقياً هذه الصفات من المثقفين العرب أنفسهم كابن خلدون والمقريزي (1442-1364) وطه حسين (1973-1889). غلاف كتاب «العقل العربي» لرفائيل باتاي نظرة سلبية إلى البداوة من السمات الأساسية للشخصية العربية في نظر الباحث، علاقتها بالبداوة على مستوى السلوك، وبقيم البداوة على مستوى الأخلاق. ترتبط البداوة بالبساطة والترابط الدموي أو القرابي العضوي، وبتمجيد الانتماء والذود عنه، وامتلاك الشجاعة والفخر بالدفاع عنه وبالثأر له، وبالكرم وحسن الضيافة، وبتمجيد الأصول والأسلاف، وكذا بنوع من الحنين الخفي الدائم إلى الماضي كنموذج. تتضمن البداوة صفات إيجابية كالصبر وحدة الانتباه، والتهيؤ للانفعال، والذود عن شرف الفرد والعائلة والقبيلة والعشيرة الأوسع. هذه الروابط المتينة والقيم الراسخة هي قيم قابلة للتكيف النسبي مع التغيرات، قيم تتراوح بين الصلابة والمرونة حسب معطيات تاريخية متعددة. فيما يخص الأخلاق الجنسية التي تحكم الشخصية العربية، يشير الكاتب إلى أن البنية القيمية أو الأخلاقية المهيمنة هي مماثلة إلى حد كبير لأخلاقيات المجتمعات الشرقية والديانات التوحيدية، خاصة التراث التوراتي والتلمودي من حيث إيلاء أهمية استثنائية للعلاقات الجنسية وضبطها وتسويرها ضمن العلاقة الزوجية التي هي الإطار الشرعي الوحيد للجنس. وهذه البنية الأخلاقية تعتبر الزنا كنشاط جنسي غير شرعي بمثابة خطيئة كبرى لا مجال للتسامح بصددها. ولعل أهمية الجنس في هذه الثقافات تعود إلى ارتباطه بالولادة والخلق أو النظر إليه من هذه الزاوية، وهو ما يشرع ويحلل مسألة ضبطه والتحكم فيه، ليصبح أداة لترويض الفرد وتدجينه. البنية الأخلاقية الأسطورية المبنية حول الجنس في جلّ طقوسها ومسلماتها ومآلاتها هي تقريباً البنية نفسها السائدة في عموم بلدان الشرق مع ترتيبات تكيفية في هذا الوضع أو ذاك، وهو وضع يستعمل المعطيات نفسها حول أهمية الجنس في البناء الاجتماعي وما يرتبط به من صورة المرأة، وعلاقة الزواج وقضايا الإرث، وعلاقات القرابة العائلية والدموية عمومياً يستعملها بإدماجها ضمن البنية الاجتماعية والثقافية ذكورة/& أنوثة، أبوة/ بنوة، خؤولة/عمومة، جيل أول/جيل ثانٍ، كبير/ صغير. وهي ثنائيات يخترقها قانون مقدس/ مدنس ومشتقاته كالحلال والحرام، المكروه والمستحب.. والشرف/ الابتذال، حيث يظل المرء متوتراً بين دوافع ورغبات لديها وسائل التعبير عن نفسها وبين آليات الضبط والتقنية الأخلاقية والدينية التي يتعين على الأفراد التكيف معها تطابقاً أو تحايلاً. العربي.. والدين من السمات الأساسية للشخصية العربية بعدها الديني. فالعربي مؤطر بنظرة دينية راسخة في تصور الوجود والزمن والأحداث، وفي التقييم الأخلاقي لكل ما يقع. يميز الباحث بين الإسلام الرسمي والإسلام الشعبي وإسلام النخب. فالإسلام الشعبي الذي قد يمتزج بالتراث الاجتماعي وبالعادات والتقاليد المحلية. الدين الإسلامي هو عقيدة دينية مؤطرة للمجتمعات العربية على المستويات كافة، فهو قوام تصور الكون وحدوث العالم، ومسارات المآل ومورد الأخلاق والمعنى، والمرجع الأخير في السياسة... صحيح أنه مع العصر الحديث ومع التلاقح الحضاري، بدأ الحقل الديني العربي الإسلامي يشهد انفتاحات ومقارنات ومحاولات نهوض واستعادة لمكانة ودور الإسلام التاريخي، لكن ليس من دون صراعات وخيبات، لكن اللحمة العقدية ازدادت رسوخاً وتوسعاً على مجالات الحياة كافة، فيما يشبه الاستجابة أو رد الفعل. المقومات الأساسية للشخصية العربية هي كونها شخصية تؤطرها الجماعة بشكل كبير، شخصية تمارس عليها اللغة سحراً قوياً، كما أنها شخصية مطبوعة بالكثير من عادات وسمات البداوة، بما تعنيه من ارتباط بالأرض وتمجيد للأسلاف وللماضي، ومن قوة المنظومة الأخلاقية القائمة على الشرف والجماعة والشجاعة والافتخار...، مثلما أنها شخصية تتمثل بشكل جيد المنظومة الأخلاقية حول الجنس كمحور للحياة الأخلاقية، وكذا رسوخ البعد الديني القائم على استحضار المتعالي في التصورات والأفعال كافة، إضافة إلى كون هذه الشخصية ذات ذائقة لفنون القول، خاصة للشعر الذي يعتبر الشكل الأمثل للتعبير عن الحياة مع ما يرتبط به من تخيلات وعواطف ومشاعر. إذا وضعنا بين قوسين الالتباس الأساسي في الكتاب الذي هو محاولة (انثروبولوجية) لاستجماع بعض ملامح الشخصية العربية أكثر مما هو تحليل للعقل العربي بمعناه الاصطلاحي، وبغض النظر عن خلفية التحيز المضاد التي هي بمثابة الأرضية الدفينة للكتاب، فإنه محاولة جيدة لاستجماع بعض ملامح الشخصية العربية وعلاقتها بالعالم والدين واللغة والخيال والواقع، ومكوناتها الوجدانية والإدراكية، وعلى الرغم من التقادم النسبي للمعطيات ومن التحولات العنيفة التي شهدها الواقع العربي، ومن انعكاساتها على بنية التلقي اللغوي والوجداني والعقلي، فإن مادة الكتاب وملاحظاته لم تمل إلى الصفر.. بل ربما لا تزال من بين المرجعيات المعتمدة في هذا الموضوع.  
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©