الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يوسف شاهين·· فنان خارج النص

يوسف شاهين·· فنان خارج النص
25 يونيو 2008 21:21
ليس من المبالغة أو التهويل أن يوصف المخرج المصري العالمي يوسف شاهين بالثائر والمتمرد والخارج دائما على النص· ولم يكن خروجه على النص والسائد والسياق في أفلامه فقط· بل في أحاديثه العادية عبر البرامج وفي الندوات واللقاءات· لابد من عواصف هوجاء بعد كل كلمة يتفوه بها شاهين لأنه عاشق لغير المألوف· بل ورافض لكل مقبول ومخالف لكل ما هو متفق عليه· يطلق العنان للسانه أو لأفكاره على ألسنة أبطاله ويأتي دائما صادما ومدهشا· ولم يغمد شاهين سيفه لحظة واحدة للدفاع عما يعتقد أنه حق وإن قاده ذلك إلى الاندفاع والشطط في كثير من الاحيان· حتى عندما اعتل قلبه لم يستسلم وظل يعمل حتى هاجمه نزيف المخ ليرقد في شبه غيبوبة بأحد مستشفيات العاصمة الفرنسية باريس·· ورحلة شاهين أطول وأعمق من تناولها في هذه العجالة لكن الرجل يستحق أن نطل على حياته الفنية والشخصية ولو إطلالة سريعة· ابن الأكابر عاشق الفقراء ممثل خطفه الإخراج أدمن الاختلاف ستين عاماً ***** المخرج المصري العالمي يوسف شاهين فنان مثير للنقاش والجدل دائما ومع كل فيلم يقدمه ضجة، فهو حالة فنية نادرة في السينما المصرية خاصة والعربية عامة، يبحث دائما عن اسلوب جديد وصياغة مختلفة لأفكاره، اختلف مع الكثيرين ووجهت اليه الاتهامات وافلامه تعكس افكاره ووعيه السياسي والاجتماعي، وتختلف معه لكنه يعشق الاختلاف ويراه حقا لكل الناس، رحلته في عالم الاخراج بلغت 60 عاما، اثمرت 40 فيلما روائيا وثلاثة أفلام تسجيلية ومسرحية عكست موقفه من الحياة والوطن والبشر، واستطاع أن يحافظ على قدرته على التنفس الفني ليسبح خارج السياق حينا وبعيدا عن السياق في معظم الأحيان· ولد يوسف اديب جبريل شاهين في 26 يناير 1926 بمدينة الإسكندرية وكانت الاسكندرية وقتها مدينة شديدة التميز والاختلاف تجمع جنسيات وثقافات مختلفة فكانت تضم جاليات ايطالية ويونانية وارمينة وانجليزية، وكانت لها صالوناتها الثقافية وتموج بالافكار المختلفة واثرت في تكوينه منذ طفولته· ويوسف شاهين ولد لأسرة مسيحية تعود جذورها الى لبنان، وكان الاب اديب جبريل شاهين يعمل محاميا وكانت الأسرة شديدة الثراء وسعت لإلحاق ابنها بمدارس الأثرياء فتم إلحاقه بمدرسة ''فيكتوريا كولدج'' وتمكن شاهين من إتقان اللغتين الإنجليزية والفرنسية في سن مبكرة، مما ساعده على الاتصال بالثقافة الغربية، والاحتكاك بشكل شخصي بالثقافة الشعبية المصرية وأيضا الاتصال بالثقافة العربية والإسلامية وكل هذه الثقافات أثرت على وجدان شاهين وأفلامه· وبعد أن أنهى شاهين دراسته في ''فيكتوريا كولدج'' التحق بجامعة الإسكندرية، لكنه سرعان ما قطع عامه الدراسي الأول ليطير الى الولايات المتحدة لدراسة فن التمثيل والإخراج في ''لوس أنجلوس'' عام ،1946 وبعد أن درس التمثيل والإخراج لمدة عامين في دار ''بسادينا بلاي هاوس'' في مجال صناعة الأفلام والفنون الدرامية تلقى العديد من العروض للبقاء في الولايات المتحدة للتدريس في معاهدها وجامعاتها، لكنه قرر العودة للوطن عام ·1948 مشروع شاهين كان شاهين يخطط لأن يصبح ممثلا لا مخرجا وكان افتقاده لسمات نجوم ذلك العصر من ناحية الوسامة والتكوين الجسدي، سببا في تغيير مساره ليصبح واحدا من عظماء فن الإخراج في الوطن العربي· فبعد عودته ساعده ألفيز أورفانيللي في العمل بصناعة الأفلام حيث عرفه على المخرج محمد حسن حلمي ليعمل مساعدا له لمدة عام واحد فقط ثم فاجأ الوسط الفني عام 1950 وقدم نفسه مخرجا في فيلم ''بابا أمين'' الذي قامت ببطولته فاتن حمامة وحسين رياض واثار قيامها بالبطولة ردود افعال في الوسط الفني لان فاتن حمامة وقتها كانت نجمة كبيرة وكان حسين رياض ممثل ذا باع طويل في التمثيل فكيف يوافقان على العمل مع مخرج شاب يقدم نفسه لاول مرة· وبعد ''بابا أمين'' انطلق يوسف شاهين في رحلته الابداعية في عالم الاخراج ففي عام 1951 قدم ''ابن النيل'' الذي يروي فيه حكاية الفلاح الذي يهجر زوجته وعائلته وأرضه وقريته ويذهب الى المدينة بحثا عن المغامرات والمجهول· وعن هذا الفيلم قال يوسف شاهين: نبعت فكرة الفيلم من تذمري الشديد من الأحلام البرجوازية لعائلتي التي كانت ترى أن ابناء الطبقة البرجوازية الكبيرة هم خيرة الناس وحادث بسيط وعابر افهمني أن ابناء الطبقة البرجوازية هؤلاء ليسوا خير الناس وكنت وقتها في الثامنة من عمري حين ذهبنا في رحلة صيد مع بعض عائلات الطبقة البرجوازية وهيأنا أنفسنا واستيقظنا في الرابعة صباحا ووصلنا في الثامنة لمكان معين وقلت لأمي إني جائع، فأجابتني بأنني قليل الأدب لأنني جائع كيف أجوع وهم لم يحضروا بعد الفطور، فمشيت وابتعدت عن المكان وشممت رائحة خبز ورأيت بدوية تخبز فوقفت أمامها وكأنها فهمت وقرأت عيني وتركت الرغيف الذي كانت تخبزه وذهبت الى الخيمة وفتحت صندوقا لم تجد فيه شيئا فذهبت الى جارتها وأحضرت منها قطعة جبن ووضعتها في الرغيف وأعطتني إياه، ولن أنسى هذه الحادثة فهي التي فجرت ''ابن النيل'' كانوا يحتقرون الفلاح ويصفونه بأبشع الصفات واكتشفت إنسانية الفلاح· وواصل شاهين رحلة انطلاقه في عالم الاخراج فقدم افلام ''المهرج الكبير''، و''سيدة القطار''، و''نساء بلا رجال''، و''صراع في الوادي''، و''شياطين الصحراء''، و''صراع في النيل''، و''ودعت حبك''، و''انت حبيبي'' وظل حلم الممثل يلح عليه فخرج في ''باب الحديد'' ممثلا رائعا عام 1958 مع هند رستم في سيناريو لعبد الحي أديب، وحوار محمد أبو يوسف في شخصية ''قناوي'' المهووس ببائعة المرطبات ''هنومة'' والمجنون بها لدرجة الاستعداد للموت معها، ونال الإعجاب بأدائه التمثيلي في هذا الفيلم وطرح أول علامات الاستفهام، هل كان شاهين يمثل دور ''قناوي'' أم يمثل دوره هو شخصيا كفنان يغازله التمثيل بين الحين والآخر· أفلام ذاتية وبعد أفلام ''بابا أمين'' ،1950 و''ابن النيل'' ،51 و''سيدة القطار'' ،52 و''نساء بلا رجال'' 53 ثبت يوسف شاهين أقدامه في السينما بفيلمه ''صراع في الوادي'' عام 1954 و''باب الحديد'' عام 1958 والأخير يؤرخ له كواحد من أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، لكن القفزة الأولى الكبرى لشاهين جاءت عام 1963 بفيلم ''الناصر صلاح الدين'' الذي رشحه لإخراجه المخرج الراحل عز الدين ذو الفقار، وهو الفيلم الذي قال عنه ''كان فيلما قويا وكنت أمشي في الشوارع وأجد الأفيشات ''الناصر'' الناصر وبس ولا صلاح الدين ولا شاهين حتى كأنه فيلم عن جمال عبدالناصر· ويوغل شاهين في غابات أحلامه المتوحشة ليظهر كممثل ايضا في فيلم ''غدا فجر يوم جديد'' عام ،1964 الذي فشل فشلا ذريعا ودفع شاهين للهجرة الى بيروت لمدة عامين قدم خلالهما فيلمين هما ''بياع الخواتم'' الذي قامت ببطولته فيروز والإخوان رحباني و''رمال من ذهب'' أما لماذا سافر؟ فأجاب عن هذا السؤال قائلا: شعرت بالرعب مما يحدث حولي وداخلي ثم سافرت مضطرا· وفي نهاية عام 1966 التقى بالكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل الذي يقول له ''ارجع الرئيس يريدك'' ويعود شاهين الذي كان يمتلك سيارة ومنزلا في لبنان الى القاهرة ليبقى من دون منزل أو سيارة ولا يملك أحيانا سوى عشرة جنيهات· وما كاد شاهين يعود الى مصر حتى زلزلته صدمة هزيمة يونيو ،1967 وبدأ يتساءل عن الخلل وكيف ولماذا هذا الانهيار ومن انهزم؟ وحاول شاهين الحصول على إجابات عن هذه التساؤلات في أفلامه الجديدة فكانت أفلام ''الأرض'' 1969 و''الاختيار'' 1970 و''العصفور'' ·1973 وانطلقت ردود فعل شاهين تجاه الهزيمة من تأمل عميق للواقع الاجتماعي ومن تحليل هادئ للبنيان الذي قامت عليه الايديولوجيا السائدة ومن نظرة ثاقبة الى العوامل التي أدت الى انهيار البنيان وسقوط مؤسساته وإلى الهزيمة، انها هزيمة طبقة بكاملها وهزيمة للمشروع الحضاري لهذه الطبقة التي سمحت للفساد أن ينتشر وانفردت بالسلطة وفضلت مصالحها الضيقة على مصالح الشعب ومستقبله· وفي عام 1977 تعرض شاهين لخطر الموت واحتاج لجراحة سريعة ودقيقة في القلب، وقتها بدأ يواجه نفسه ويعيد اكتشافها· ومن هنا جاء فيلم ''إسكندرية ليه'' ،1978 ويواصل شاهين رحلة الحساب والاكتشاف معا لنفسه في فيلم ''حدوتة مصرية'' 1982 الذي أخذه شاهين عن فكرة للكاتب الراحل يوسف ادريس وكتب السيناريو بنفسه ليستعرض طفولته ويخضع لمحاكمة شاملة يقيمها الطفل الكامن في أعماقه وفي المحاكمة تكتشف والدته وزوجته وشقيقته أحلامه في غزو هوليوود والمهرجانات العالمية· وتتواصل رؤيته لذاته في ''إسكندرية ليه''، و''إسكندرية كمان وكمان''، و''المهاجر''، و''المصير''، و''الآخر''· وطوال مشوار يوسف شاهين السينمائي كان يبحث عن المعادلة الاقتصادية التي تحرره من أي قيود على إبداعه فجرب مع بداياته مطلع الخمسينات الإنتاج المصري الخالص في أفلام (صراع في الوادي وابن النيل وباب الحديد) ومع سيطرة الدولة على الإنتاج السينمائي تواجد بالخريطة السينمائية بأفلام مثل ''الأرض''، ثم أوقفت الدولة الإنتاج ليتجه هو في السبعينيات من القرن الماضي ويطير خارج السرب الى الدول العربية ليقدم إنتاجا مشتركا عربيا مثل ''العصفور'' مع الجزائر، ثم يضيق الحال بالرؤية السياسية العربية ليتطلع في الثمانينيات الى الغرب وتحديدا الى فرنسا فيقدم ''اليوم السادس'' وغيره ثم في نهاية التسعينيات يقدم مع وزارة الإعلام المصرية إنتاجا مشتركا معها هي وفرنسا من خلال شركته فتأتي أفلام ''الآخر'' ثم ''سكوت هنصور'' و''إسكندرية نيويورك''· وفي كل فيلم قضية وفي كل ندوة اتهام، هذا هو يوسف شاهين والاتهامات التي وجهت إليه جاءت حول علاقته بالغرب، حيث أنها علاقة موصومة بالتبعية أحيانا والعمالة أحيانا أخرى ويستند المتهمون الى العلاقة ''التمويلية'' بفرنسا ثم انتمائه الواضح الى الفرانكفونية التي تحول الى واحد من أبرز رموزها في العالم العربي· واتهم شاهين بالتطبيع في فيلم ''إسكندرية ليه'' عام 1978 حين قدم الفيلم الذي كتبه محسن زايد وقدم فيه فريد شوقي ونجلاء فتحي شخصيتين يهوديتين لأب وابنته، وفي فيلم ''الاختيار'' عام 1970 يقف ليقاتل من أجل أفكاره، انه البطل أو يوسف شاهين نفسه ويواجه الانفصام الحاد في شخصيته كمثقف يحمل بداخله الهزيمة والانكسار· ويوسف شاهين الذي تلقى حكم وقف عرض فيلمه ''المهاجر'' ومصادرة نسخه أثناء وضع اللمسات النهائية لفيلم ''المصير'' في 11 سبتمبر 1995 لم يندهش ولم يتوقف عن المعارضة حتى في لجان التحكيم التي دعي إليها في المهرجانات الدولية، حيث دعي كعضو لجنة تحكيم في أحد المهرجانات واكتشف أن معه في اللجنة الإسرائيلي ''مناحم جولان'' الذي يفخر بأنه ضرب مصر في العدوان الثلاثي عام 1956 فرفض شاهين الذهاب لأسباب قال انها مرضية لكنهم عرفوا السبب فاستبعدوا الإسرائيلي جولان الذي رفع قضية ضد هذا المهرجان فيما بعد وكسبها· وفاز يوسف شاهين بجائزة مبارك في مصر وكرمه الرئيسان الراحلان جمال عبد الناصر وأنور السادات، وكرمته مهرجانات العالم، لكن جائزة مهرجان ''كان'' التي منحت له بمناسبة مرور خمسين عاما على بدء المهرجان، كان لها مذاقها الخاص لديه، حيث لم يحصل عليها سوى ثلاثة مخرجين في العالم كله كان هو أحدهم·
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©