الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مطر السيّاب يهطل فوق الجفاف

مطر السيّاب يهطل فوق الجفاف
12 مايو 2010 21:57
المدويّات: قصائد كان لها صدى ودوي في الذاكرة الشعرية المعاصرة، إما لموضوعاتها الجديدة، أو لبنائها الفني الحديث، واستحقت هذه الوقفات النقدية والقراءات الاستعادية التي تذكّر بها وتستجلي أصداءها. لن يُكتب لقصيدة حديثة أن تنال ما نالته “أنشودة المطر” لبدر شاكر السياب من ذيوع واهتمام لا بسبب موضوعها فحسب، بل لأنها عالجت مبكرا علاقة السياسي بالفني من خلال ترميز برنامج القصيدة الوطني وهدفها الإيديولوجي المعبر عن معتقدات السياب الثورية كشيوعي في ظل حكم ملكي يحكم العراق زمن كتابة القصيدة.. وصياغتها بشكل ترنيمة طقسية تبتهل عبر استذكار المطر لقيام غد جديد عادل وسعيد. المولِد المجهول في عدد مجلة “الآداب” اللبنانية الصادر في مثل هذا الشهر (مايو) عام 1954 ظهرت قصيدة بدر شاكر السياب “أنشودة المطر” مشفوعة بتعليق منه بأنها من وحي أيام الضياع في الكويت على الخليج العربي، مشيرا إلى الفترة القصيرة التي قضاها هناك هاربا من الاعتقال بسبب نشاطه في الحزب الشيوعي العراقي؛ فتوجهت القراءة مكانيا إلى الخليج الذي يرد في القصيدة، لكن الأنشودة رغم سياق الضياع والغربة أخذت مكانة فائقة الأهمية في نفسه وبين نصوصه الشعرية جعلته يضع عنوانها من بعد عنوانا لديوانه “أنشودة المطر” الذي صدر ببيروت 1960عام عن دار مجلة “شعر” فائزا بجائزتها السنوية، وعليه تنسيقا وترتيبا تبدو أصابع أدونيس صديقه الذي قدّمه من خلال جبرا إبراهيم جبرا لشعراء بيروت الحداثيين في الستينيات، وقد صرّح أدونيس ـ ليدل على علاقته بالسياب ـ في آخر مقابلاته بأنه شخصيا هو الذي اختار قصائد “أنشودة المطر” بتخويل مباشر من السياب نفسه. وتلك المكانة التي تحتلها القصيدة لا يفوقها إلا مكانتها في الشعر العربي الحديث حيث تمثل الأنشودة ذروة التجديد الشعري الذي يمتح من الأسطورة والرمز ويبقي على جماليات الغنائية الموسيقية، ويخفي المعنى الثوري المقصود في القصيدة بكونها قصيدة سياسية في المقام الأول، ويعد بالثورة في ختام القصيدة وبعد فراغ وانتظار تمثله المساحة البيضاء التي تركها بين المقطع الأخير وجملة الختام (ويهطل المطر). يسمي العروضيون العرب بحر الرجز: حمار الشعراء لسهولته واقتصاره على المنظومات التعليمية والمفاخرات وبأبيات معدودة، وقد سأل الأخفش الخليل بعد فراغه من عمل كتاب العروض عن سر تسمية الرجز رجزا؟ فقال الخليل: لاضطرابه كاضطراب قوائم الناقة عند القيام، وكانوا حين يعدون ما حفظ الشعراء من القصائد يفصلون محفوظات الشعر عن الأرجاز، كما وضع المعري شعراء الرجز في “رسالة الغفران” في جنة منعزلة أسماها جنة الرجاز. هذا البحر المهمل الذي لم تكتب به إلا قصائد معاصرة قليلة اختاره السياب ليكتب على تفعيلته واحدة من أكثر قصائد التجديد إثارة، وكذلك أكثرها حظوة بالاهتمام والتحليل النصي، فهي قصيدة محيرة تنطلق من رفض السياب للنظام الملكي واستئثار الأجانب بخيراته لكنها تبدأ غزلية وتنحرف رمزية مستثمرة دلالة المطر في الذاكرة ثم ينكشف الهجاء السياسي ومعاناة الفقراء الذين يصارعون الطبيعة والجوع ويكدحون خلف الرحى المتيبسة ليطحنوا القشور، بينما تشبع الغربان والجراد من حصاد الحقول ويغدو المطر نفسه وبالاً يغرق البشر والأمكنة.. ولعله بهذه الصورة يستعيد الفيضان العارم في بغداد عام 1954 أو يستلهم الرؤى التي سجلتها شاعرته المفضلة إيديث ستويل عن المطر بتكرارها كلمة مطر في إحدى قصائدها وذكرها للأنشودة، وتكرار السياب كلمة مطر بشكل عمودي كأنما ليوحي بالقطرات النازلة تباعا.. لكن التراسل الحسي خاص بالسياب فهو يسمع النخيل يشرب المطر، ويرى العينين تبسمان، والبروق تمسح السواحل بالنجوم والمحار. العيون: شرفات تتأرجح القصيدة بين المقدمة الغزلية (عيناك غابتا نخيل ساعة السحر/ أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر) والهدف السياسي للقصيدة (وكل عام حين يعشب الثرى نجوع/ ما مر عام والعراق ليس فيه جوع) ووعد الثورة القادمة بعد أربعة أعوام من كتابة الأنشودة: (أكاد أسمع العراق يذخر الرعود/ ويخزن البروق في السهول والجبال). ويذهب المحللون مذاهب شتى في تفسير الاستهلال الغزلي ـ الوصفي الذي لم يتجه إلى محبوبة بعينها، فصار تقليدا أو طقسا دعا إلى استحضار الابتهالات العراقية القديمة المقدمة لعشتار، بينما ربطتها بعض التحليلات بالتثبيت الجمالي للأرض التي سيرثي النص فقرها وجدبها؛ فهي كامرأة جميلة لكن الحزن يزيدها غضونا وذبولا، أو حزينة يزيدها الجمال شاعرية وعذوبة. وحين سئل السياب نفسه عن مغزى البدء بمقدمة غزلية في قصيدة سياسية كالأنشودة، أجاب: بأنه كان يقلد القصائد العربية القديمة التي تبدأ بالنسيب مهما كان غرضها التي كتبت من أجله، وتلك القصائد تمثل في وعي السياب الشعري ملاحم خالدة اجتمعت فيها المتانة البنائية القادمة من التقاليد الشعرية، وفخامة المعنى وعلوّه احتكاما إلى دور الشعر في الضمير الجمعي العربي. لكن محللين ينطلقون من الأدب المقارن وتأثير الشعر الأجنبي في التجارب الشعرية للرواد ـ والسياب خاصة المعروف بقراءته المتأملة للشعر الغربي بلغته الأصلية ـ يبحثون عن مؤثرات أخرى غير سيتويل التي كان السياب يسمع تسجيلات قصائدها بصوتها مع أصدقاء بغداديين كبلند الحيدري الذي يذكر أنه في خمسينيات القرن الماضي وعامي 53 و54 تحديدا كان قد اعتاد وأصدقاء كالسياب وقحطان المدفعي ونوري الراوي وخالد الرحال سماع تسجيلات صوتية لشعراء بالإنجليزية كإليوت وسيتويل وديلان توماس رغم أن سيتويل في نصها: still falls the rain تكرر المطر وتقرنه بالحزن الذي لا يراه المحللون كذلك في الذاكرة العراقية فهو إذن مطر سيتويل على قصيدة السياب. لكن عبدالواحد لؤلؤة المتعقب بدراية وإحاطة بشعر السياب وشكسبير يرى أن العينين الجميلتين الحزينتين هما عينا حبيبة السياب عند وداعها قبل هربه تحت جنح الظلام إلى الكويت، وأن المشهد الحزين مهرَّب من منظر الشرفة في مسرحية روميو وجوليت. آخرون يرون فيها أصداء من إليوت وأرضه اليباب التي نعى فيها حضارة الغرب ورجاله الجوف، وأيا ما تكن مديات التناص والاقتراب من المرجع فالأنشودة مصهر قذف إليه السياب بمعتقداته وأفكاره وقراءاته ومشاهداته لتذوب كلها تحت اسمها وهويتها وحدها. القرية والأسطورة شخصيا أقرأ المقدمة الغزلية على أنها استباق لما ستقوله الأنشودة عن بلد جميل جريح، وعن زارعين تنهب الغربان والجراد محصولاتهم ويظل لهم القشور، وعن مطر يشير للخير والنماء لكنه يغرق في طوفانه القرى التي تئن، فتتقابل قطرات المطر السماوي بقطرات دم العبيد، وفرح الطبيعة بالسحب والرعود والبروق بدموع المتعللين بالمطر خوف اللوم، وتمتزج النعمة بالجوع، كما ظل للطفل في القرية قبر أمه التي ينتظر قيامتها: (كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام/ بأن أمه التي ـ أفاق منذ عام/ فلم يجدها، ثم حين لج في السؤال/ قالوا له: بعد غد تعود/ لا بد أن تعود..). وما الطفل إلا السياب نفسه وقبر أمه التي دفنت في بقيع جيكور حيث مرمى بصره كل ساعة. والمطر والنخيل والقرى وسواها التقطها من مشاهداته وتذكّرها متداعية في أنشودته الطقسية كلحن ملحمي حزين: غاضب وجميل. أنشودة المطر * مطر مطر مطر سيعشب العراق بالمطر أصيح بالخليج: “يا خليج يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى..” فيرجع الصدى كأنه النشيج: “يا خليج يا واهب المحار والردى”. وينثر الخليج من هِباته الكثار على الرمال: رغوة الأجاج، والمحار وما تبقى من عظام بائس غريق من المهاجرين ظل يشرب الردى من لجة الخليج والقرار، وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق من زهرة يربُّها الفرات بالندى. وأسمع الصدى يرن في الخليج: مطر... مطر... مطر... في كل قطرة من المطر حمراء أو صفراء من أجنة الزهر. وكل دمعة من الجياع والعراة وكل قطرة تراق من دم العبيد فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد أو حلمة توردت على فم الوليد في عالم الغد الفتي واهب الحياة. ويهطل المطر.. مقاطع من القصيدة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©