الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دمية «الأوتو ـ كيو»

دمية «الأوتو ـ كيو»
12 مايو 2010 22:00
هل يمكننا الحديث عما يمكن أن نسميه “الحداثة” و”إبداع المرأة” في منطقة الخليج العربي، أياً يكن الحقل المعرفي الذي تنشط فيه المرأة من دون التوقف ملياً عند الظروف الصعبة والخاصة جداً التي ترسم قدر المرأة الاجتماعي وتؤطر شكل حضورها التاريخي؟ وفي ظل “التشييء” والاستهلاك الذي تتعرض له “رمزية” المرأة في شتى القنوات الفضائية العربية والتي لا تبقي غالباً، من كينونتها إلا تلك “الصورة الفاقعة” للجمال الأنثوي، ثرثرة، حركة شفاه، ولا يهم ما الكلمات، فالعين أبلغ من الأذن في التقاط الصور المثيرة للخيال الدفين... فتيات “الأوتو كيو”... حوريات عربيات حطم “الأوتو كيو” آخر ما تبقى من فرق بينهن وبين الرجل في القدرة على الكلام. فـ”الأوتو كيو”، هو الصفحة الضوئية التي تثبت أسفل الشاشة، ومنها يقرأ الجميع نساء ورجالاً، ويظن المشاهد المستلقي في أريكته وأوهامه، أن مذيعته ومذيعه يقول كل ما يقوله يخبر ويدلي برأي ويتفلسف من رأسه، لكن الحقيقة أن “الأوتو كيو” هو الذي يتكلم.. ما الشخص الذي ملأ الشاشة بعلمه ومعرفته ورخامة صوته سوى دمية تتكلم. إنها دمية “الأوتو كيو”، ناقلة كلمات المعد حرفياً بحرف.. بما في ذلك الأخطاء اللغوية. ومع أن “الأوتو كيو”، وهو مفردة حداثية بامتياز، وثمرة من ثمراتها، ليس حكراً على النساء المذيعات ونجمات البرامج الخفيفة والثقيلة وما بينهما، كما نلاحظ، إلا أنه صديق المرأة، أكثر، ومنصفها.. فلم يعد هناك أحد أحسن من أحد، أو أبلغ منه، فالجنسان بليغان في القول والتعبير، والجميع بليغ. حتى الركاكة في عامياتها المنتشرة على المحطات التلفزيونية المتكاثرة كفطر الغابة، بليغة. أسئلة تجيب قد يظهر من كلامي أنني ضد هذا الجنس الملون الذي يسمونه الجنس التلفزيوني اللطيف، والواقع أنني أدافع عن ظلاله وأعماقه وإنسانيته الدفينة وراء الصور. ولو تركت نفسي على سجيتها، فسيخطر لي أن أسال وأترك السؤال يجيب: هل حضور المرأة في التلفزيون مكافئ لوجودها ومكانتها في المجتمع العربي الجديد أم هو حضور مشوه، ويعكس خللاً أو تمييزاً ما؟ أطرح السؤال، وأتركه في رصيد من سألني في واحدة من المناسبات إن كان حضور المرأة في الشاشة التلفزيونية العربية يساوي حضور الرجل. والواقع أن مثل هذا السؤال يبدو لي نافلاً في ظل انعدام المساواة بين الجنسين، وهيمنة السياسة الذكورية على المجتمع. وهو ما يستدعي تقليب السؤال وإعادة طرحه على نحو مختلف، فعن أي حضور للمرأة نتحدث؟ وهل يمكن اعتبار تلك الميوعة في صورة مذيعة المنوعات وذلك الإفراط في حضورها الخفيف على مدار الساعة في برامج تافهة القيمة، حضوراً؟!. أنا أشتغل تلفزيونياً في حيز ثقافي، ومن خبرتي الشخصية مع التلفزيون، أعرف أن البرنامج الثقافي، ليس طموحاً أول لأي مذيعة عربية تنشد السلام لنفسها في مهنتها. مع ذلك ظلت فكرة البرنامج التلفزيوني الثقافي قضيتي الشخصية منذ نعومة أظفاري في هذه المهنية الصعبة والشائقة، والتي نضّيع مرات كثيرة الحدود التي ترسم علاقتنا بها كهواية، وكمهنة وكرسالة فكرية واجتماعية. ولكن من دون أن ننسى أبداً أن عالم الصورة هو مسرح طموح شخصي، فالتلفزيون ماكينة أكول، تطحن الصور والأخبار والأفكار والكلمات والرموز والعناوين والمواعيد، لتصنع لمشاهد في غرفة تلك الوجبة المنتظرة. ثقافة الترفيه العالم كله في خدمتك أيها المشاهد، ونحن أيضاً في خدمتك، ولكن بماذا نختلف نحن المذيعات والمذيعون حتى عندما نكون أصحاب برامج مرموقة عن مضيفي ومضيفات الطائرات في رحلة تقصر أو تطول؟ مرفهون ومرفهات في حالة ترفيه عن مرفه به. رحلة ترفيهية على هامش رحلة صعبة هي الحياة. لا أُريد أن أتورط في تحليل اجتماعي فكري لفكرة التلفزيون، فقد فعل ذلك من هم أكفأ مني، مثقفون ومفكرون عرب وأوروبيون، ربما كان من بين أبرعهم المفكر الفرنسي رولان بارت. ولا حاجة بنا لاستعراض الأسماء للإشارة إلى عمل الفكر في حقل تحليل سيميائيات الصورة، والصورة التلفزيونية. مؤخراً، رأيت للمرة الثالثة فيلماً رائعاً أُنتج قبل سنوات عن رحلة صورة تشي جيفارا كشخصية ورمز ودلالات تاريخية وجغرافية وسياسية وفكرية عالمية، وعن قدرة صورة واحدة على اختزان مضمونات وقيم عالمية وتفجيرها كطاقة معبرة عن الشعور ومولدة للشعور. صورة مارلين مونرو، صورة مايكل جاكسون، وقبلها صورة الفس بريسلي. صورة ابن لادن، وفي محيط إقليمي صورة محمد الدرة، أو صورة حسن نصر الله. صحيح أن الصور من صناعة الشارع أو الواقعية، لكن انتقال الصور وانتشارها، صناعة تلفزيونية بامتياز، فالتلفزيون هو الصورة. المرأة وصورتها هل يوجد رهان حقيقي على تصحيح الصورة، أو الصور، صورة المرأة في الإعلام المرئي العربي، وفي التلفزيون على وجه الخصوص... (وقد كسرت الإنترنت وحدانية الصورة التلفزيونية)، هل يمكن الرهان على شيء ما مختلف؟ ربما يكون الجواب رهين سؤال آخر، يتعلق بالقائمين على الأقنية الفضائية وأجنداتهم الخاصة ومواصفات السوق وشروط المعلن، وسلسلة من الشروط والاعتبارات التي تتحكم بالصورة التلفزيونية. بل وبالسؤال الفكري عما يعنيه التلفزيون للمجتمعات العربية الحالية؟ أطرح هذه الأسئلة، وأتركها معلقة في فضاء النقاش حول التلفزيون والمجتمع؛ لأن هناك بطبيعة الحال قوى وإرادات وتيارات سلطوية حديثة أكبر منا جميعاً هي التي تحدد وظيفة الشاشة التلفزيونية ومن خلالها شكل الصورة ووظيفتها. مرة خطر في بالي: ترى هل توجد عندنا محاورة سياسية في عمر باربرا والترز على مشارف الثمانين؟ الجواب على الأرجح لا؟ ولكننا نجد محاوراً صحافياً بهذا العمر كحمدي قنديل مثلاً. والسبب، بداهة، أن عمر انخراط المرأة في العمل الإعلامي جاء متأخراً، مع أن المرأة في شتى المجتمعات المدينية العربية غادرت بيتها وانخرطت في العمل العام منذ مطلع القرن العشرين، وربما قبل ذلك. لا بد لي من الإشارة إلى أن هذه الأفكار والملاحظات، إنما هي خلاصات أولى، وخواطر تتداعى إليّ على هامش تجربة مع البرامج الثقافية، استمرت حتى الآن نحو 15 سنة بدأتها مع برامج قدمتها في البحرين أولاً: “شظايا الإبداع”، ثم، في دبي: “صواري”، و”وجوه”. وأخيراً وليس آخراً بطبيعة الحال مع برنامج “نلتقي” على “فضائية دبي”. ثقافة الصورة قبل أن ندخل في لبّ المسألة، كما أراها وأفكّر فيها، دعني أُشِرْ إلى أنني، حتى لا أكرّر كلاماً قيل من قبل، لم أقف عند نظريّات الاتصال الجماهيري، أو أستعرض ما يسمّى بـ”ثقافة الصورة”، و”الثقافة التلفزيونية” جزء منها بطبيعة الحال، وقد درسها مثقّفون ومفكّرون أوروبيون كبار، من أمثال الفرنسيين دوبريه، وبوردو وبارت، وغيرهم، وأخذ عنهم مثقّفون عرب من أمثال عبد الله الغدامي في كتابه “الثقافة التلفزيونية.. سقوط النخبة وبروز الشعبي”، وكذلك فعل غيره، وقد تركت هذا الأمر إلى سواي يتعمّق فيه، فبحثي ليس “نظريّاً” ولا هو بمثابة “وصفة” حلول للمشكلات والقضايا التي يتطرّق إليها، ولكنه بمثابة شهادة شخصية تطرح أفكاراً وتأمّلات وأسئلة غير شخصية، لنتفكّر بها كشعراء ومثقّفين وإعلاميين، ولتكون في رصيد النقاش المطروح حول التلفزيون وعلاقته بالثقافة. والذي يبدو لي استناداً إلى التجربة الشخصية أن جانباً إضافياً من معضلة الثقافة في علاقتها بالتلفزيون يكمن في أن الأدباء والمثقّفين ينظرون إليه نظرة تحفظ، وأنا نفسي أعاني من ذلك فهم مثلاً ينظرون إليّ كإعلامية، وفي الوسط الإعلامي ينظرون إليّ كشاعرة ومثقّفة. وهذا الفصل التعسّـفي يجعلني غريبة مرتين. وعندي ليس من تناقض في أن أكون إعلامية وشاعرة وأكاديمية معاً، أو مثقّفة، في مصطلحات الوسط الثقافي. لكن هذه الحالة هي حالة إشكاليّة بامتياز، وتصلح أن تكون نموذجاً معبّراً عن الخلل في نظرتنا إلى الأشياء. المثقفون والتلفزيون وعندما نتحدّث عن التلفزيون وعلاقته بالثقافة، لا بدّ من أن نعرّج أولاً على علاقة المثقّفين به. المثقّفون الأوروبيون يعتبرون (وقد نقل عنهم العرب ذلك) التلفزيون “ثقافة واطئة”،Low Culture أو ثقافة شعبية. لكن هذه النظرة الأوروبية تبلورت في مجتمعات التلفزيون فيها ليس نافذة للدولة على الناس، كما هي حاله في العالم العربي، ولكنه منبر إعلامي حرّ، يملكه المجتمع، ويساهم فيه المواطن الأوروبي بقسط مالي سنوي ينتزع من ضرائبه. وبالتالي، فإن ثقافة رجل الشارع الأوروبي، وثقافة المجتمع بطبقاته المختلفة حاضرة وممثّلة في هذا التلفزيون.. ويستطيع المشاهد الأوروبي أن يؤثّر، فيقدّم لائحة بطلباته التلفزيونية ويحصل عليها. وعليه، فإن حق هذه الشريحة الاجتماعية أو تلك مكفول في أن تحدّد موقفها من التلفزيون ومن الثقافة التلفزيونية بشفافية، ومن دون عُقَد تذكر. فهو “ثقافة واطئة” رغم كل ما يعتدّ به من برامج ثقافيّة مرموقة في التلفزيون الأوروبي. فبأي مصطلح نصف “التلفزيون العربي” المغترب نهائياً عن حركة الثقافة، والذي يعتدّ أهله أنفسهم بضجرهم من شيء اسمه ثقافة. ولا يضيرهم بتاتاً وصف تلفزيونهم بالخِفّة، بل إن الخفّة عندهم إطراء ومنزع وأربٌ وأداء حسن؟ من ناحية أخرى، فإن التلفزيون في معظم المجتمعات العربية، كان حتى الأمس القريب، وربما لا يزال إلى اليوم، وإن بدرجات متفاوتة، أرضاً محرّمة. فهو مملوك من الدولة، ويعتبر بوقها ومنبرها وشرفتها المشرّعة على المجتمع والعالم، وأحياناً مدفعيتها الثقيلة ضد هذه الدولة أو تلك، أو ضد هذا وذاك من الخصوم الداخليين والمنافسين الخارجيين. هبّة فضائية يجب أن ننتبه إلى أن الهبّة الفضائية العربية التي حصلت في العالم العربي، (وهي في حد ذاتها ضرب من ضروب الاستجابة للغة الحداثة)، اقتضت معها البحث عن مادة لا تنتهي لساعات بثّ طويلة، بل على مدار الساعة، واقتضت توظيف جسم إعلامي عربي متزايد. في هذا المناخ من النموّ الفضائي المحموم، اتّسعت حصّـة “الثقافي” في التلفزيون، وبات الطلب على “فقرة” الثقافة أكبر، بل إن بعض الفضائيات العربية في الخليج خصوصاً، حاولت أن تسوّق نفسها قنوات شبه ثقافيّة، أو أقرب إلى الثقافة بالمعنى الواسع والشعبي للكلمة. ولم يكن ذلك متاحاً أو ممكناً في العالم العربي لولا حادثين كونيين كبيرين: الأول هو تفكّك الاتحاد السوفييتي ونهاية التجربة الشيوعية في شرق أوروبا، وبالتالي سقوط ما كان يسمّى بالثنائية القطبيّة، في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وما ولّده هذا الحادث الكبير من ثقافة جديدة في العالم هي ثقافة “الديمقراطية الغربية”، وانعكس رجّة ضخمة في العالم العربي وحيرة أيديولوجية وثقافيّة مفتوحة على شتى الاحتمالات. والحادث الثاني هو الواقعة التراجيدية التي حدثت في 11 سبتمبر سنة 2001 في نيويورك، فقد فتحت هذه الحادثة الباب في العالم كلّه لمناقشة الإسلام من وجهة إعلامية ثقافيّة، واعتبار الإسلام ثقافة عنيفة، وبالتالي تحوّل الرجّة العربية بفعل نهاية الثنائية القطبيّة إلى اضطراب سياسي ثقافي، بانتظار التغيير. فالعالم كلّه يتغيّر، ولكن كيف سيتغيّر العرب؟ هذا هو السؤال، وسرعان ما جاء الجواب.. سيتغيّرون تلفزيونياً فقط. وحتى على هذا الصعيد سيكون التغيير نسبيّاً. إذن ولدت ثقافة جديدة في العالم العربي هي ثقافة الكلام التلفزيوني. وعلى رغم الخلل في الكفّة ضد المسلمين والعرب في العالم، فقد تدفّقت على العالم العربي مصطلحات ومفردات ثقافيّة جديدة وسمعنا كلاماً، ورأينا برامج تلفزيونية ورحنا نتناول مصطلحات من قبيل “صراع الحضارات”، و”نهاية التاريخ”، وراجت في السوق الفضائية مفردات “الأنا” و”الآخر”، و”الشرق” و”الغرب”، و”نهاية الأيديولوجيا”، و”الإسلام والحداثة” و”الإرهاب” إلخ.... وصارت هذه المصطلحات مادة تعلكها وتبتلعها الفضائيات العربية ليل نهار على ألسنة متكلّمين سياسيين متلعثمين وآخرين فصحاء، وبرز جيل جديد من المعلّقين التلفزيونيين، في السياسة، والناحية العسكرية والاقتصاد، ولاحقاً في الفكر، يمتلك لغة أقرب إلى الثقافة الحديثة في مصطلحاته منه إلى الثقافة التقليدية، أو المحافظة، وشيئاً فشيئاً صار لدينا نحن العرب معلّقون ثقافويون أولاً في السياسة. ثم في كل شيء، من الصحّة العامة، إلى الجريمة والأزياء، وصولاً إلى أعقد القضايا والظواهر الاجتماعية والفكريّة وأخيراً الثقافيّة المحضة. وعلى رغم القيمة الثقيلة لهذا الانفجار التعبيري عبر التلفزيون، إلا أنه يمكن اعتباره تحولاً ثقافياً بالغ الأهمية، ولعله أن يكون مقدمة نحو مجتمعات ديمقراطية عربية تؤمن بحق الفرد وحق الجماعات في التعبير عن نفسها. مصادر الكلام ولقد سئلت مرة عن تقويمي الشخصي كإعلامية وأكاديمية لهذا الجيل الجديد من المعلّقين والمتكلّمين العرب في الفضائيات، بمن فيهم النساء اللواتي يطلب منهن الكلام كضيفات في البرامج الحوارية. وكان رأيي وما يزال أن هذا الجيل الجديد من المعلّقين جيل “الورم الثقافي” أكثر منه جيل “عضلات ثقافيّة” حقيقية.. وليس خافياً على أحد أنه جيل يغرف مفرداته من نهر “الإنترنت”، ويتكلّم بلا حساب، ولا حسيب.. ومن دون أن يكون هناك من يردّ الكلام إلى مصادره.. لقد صار الكلام مباحاً.. نعم، ولكنه صار بلا أهل. فكل الكلام لكل الناس، ومن دون تمييز. وهذا الخلط للأوراق، هو في العمق منه ضد الثقافة، قبل أن نحدد الهوية الفكرية والجمالية لهذه الثقافة، ومدى حداثتها أو رجعيتها. وقد مكْن هذا الوضع من حصول خلط كبير في القيم، خلط يساوي بين المهرّج والمفكّر، وبين مبتكر الكلمة ومستهلكها، وبين المثقّف الحقيقي والجاهل المقنّع بقناع المثقّف. وفي نظري أن التلفزيون أكفأ وسيلة لتزييف الثقافة، والترويج للزيف، ومن ثم تكريسه. وهو أيضاً أعظم وسيلة لنشر الثقافة، وهنا خطورة هذا الجهاز العصري. انفجار فضائي ما سلف يقودني إلى استعادة تعبير سبق لي أن استعملته وهو تعبير الانفجار، فبعد الحادي عشر من سبتمبر وقع انفجار فضائي عربي، وبدأ أن العالم العربي استجاب، وإن بطريقة غير منظّمة، ولعلّها فوضوية، لنداء الحداثة على الصعيد الإعلامي. والطريف أن ما كافح من أجل تكريسه جيل من المذيعين والمذيعات التلفزيونيين الخليجيين من أمثالي، في السبعينيات والثمانينيات وبعض التسعينيات على صعيد توطين “الثقافة” بمفهومها الأدبي في التلفزيون، في ظروف غاية في الصعوبة، بدت أشبه بمن يمشي في حقل من الشوك، من دون أن يتمكّن هذا الجيل من زحزحة إدارة التلفزيون عن موقفها المعادي لـ”الفقرة الثقافيّة” الجادة؛ الطريف أن هذه الإدارة نفسها، ظهرت عليها فجأة مع التطوّرات العالمية التي أشرت إليها سابقاً “عوارض ثقافيّة”، وباتت تتكلّم بمصطلحات الثقافة التلفزيونية الحديثة، بل إن بعضها سبق إلى الأمام وصار يتحدّث عن شيء اسمه “ثقافة التلفزيون” و”ثقافة الصورة”، وليس مجرّد علاقة التلفزيون بالثقافة، أو علاقة الفقرة الثقافيّة في التلفزيون. ومع إدارات من هذا النوع بتنا، نحن الإعلاميين الذين عشنا مراحل أساسية من الصراع بين الإعلامي المثقّف والإدارة التلفزيونية المحافظة، في خضمّ جديد من التطلّعات الإدارية التي اعتبرت التلفزيون نفسه “ثقافة” قائمة في ذاتها، وربطت نفسها شكليّاً بالثقافة كحقل منتج للمعرفة، وراحت تتعامل مع الحياة الثقافية انطلاقاً من حاجات “الثقافة التلفزيونية القائمة في ذاتها”، وهي في حقيقة الأمر، مستهلك رديء للمعارف. وليس منتجاً لها. ثقافة النجوم فهل مكن هذا الانفجار الحداثي في الفضائيات من نقل ثقافة عربية حديثة إلى الناس، والترويج للثقافة الحديثة. الواقع أن الذي حدث شيء آخر، فقد ظهرت الحاجة إلى “الشاعر النجم” وليس إلى الشاعر المبدع، وإلى الروائي ذائع الصيت وليس إلى الروائي الجيّد، وإلى الكاتبة المشهورة بسبب “تجرّؤ” كتابتها على القيم، وليس إلى الكاتبة الجريئة صاحبة الكتابة العالية، و”المفكّر المنتشر” وليس المفكّر العميق صاحب الأفكار المضيئة، و”الداعية السطحي” اللاعب بالكلام وليس الداعية الورع والنزيه، و”الموسيقي الاستعراضي المتثاقف” وليس الموسيقي الملهم والمبدع، فالتلفزيون يحب “النجوم”، “نجوم الأدب والثقافة والفكر”، ويختارهم مما يطفو على السطح، بحق وبغير حق، ليضاهي بهم (وليكونوا على قدم المساواة) مع المطربة الكبيرة “منفوخة الشفتين” المشهورة رغم محدوديّة صوتها، والمغنّي الكبير الذي راج اسمه بسبب أغنية يتيمة، والممثّل التلفزيوني المشهور، والممثّلة التلفزيونية المشهورة، وهكذا.. فالقياس هو الشهرة ومتطلّباتها و”مستوى” الناس واهتماماتهم. وهذان يحتاجان إلى بحث ودرس عميقين، فليس كل بسيط ويسير وتافه مما تقدّمه الفضائيات للناس باسم “مستوى” الناس و”اهتمامات” الناس، هو ما يريده الناس فعلاً. فمن تجاربنا كتلفزيونيين، نعرف أن هناك إداريين في محطّات الفضائيات يفرضون اليسير والبسيط والتافه على مشاهدي التلفزيون، بحجّة أن “الجمهور عايز كده” بينما هو، في واقع الأمر، ما يريدونه هم، بل ما يطابق تصوّرهم الشخصي للأشياء ليس إلا. ثقافة الشائع والآن ما الذي يحمله في الجوهر منه هذا السلوك في رؤية كل شيء “نجومي” و”نجمي”، استقبال النجوم وتوديع النجوم والانشغال بالنجوم، هذا السلوك التلفزيوني “المائع”؟ ببساطة هو يحمل في جوهره وعرضه معاً تكريساً لثقافة “الشائع” و”الشيوع” و”الشائعة”، للسطحي والمسطّح، للموجود ولا فضل لك بوجوده، بينما الثقافة طبقات فوق طبقات وليست مجرّد قشرة على السطح ننشغل بها ونعرض عن سواها، حارمين التلفزيون، هو وجمهوره، من الغنى الكبير الذي تذخر به الثقافة تحت طبقة السطح. هذا إذا بقي فينا شيء من الحكمة القائلة إن اللآلئ تطلب من الأعماق. على أنني أحبّذ هنا أن أكون موضوعيّة، وأفرّق بين التجربة الشخصية للإعلاميين الجادّين، في كفاحهم على أكثر من جبهة لتحقيق ولو جزء من تطلّعاتهم، وبين الواقع الموضوعي وما يسمح به. لقد ولّى الزمن الرومانسي في النظر إلى الأشياء.. بتنا أكثر براجماتية وأكثر واقعية في النظر إلى الأشياء. وانطلاقاً من الواقعية في التفكير، تقتضي الحال أن نطرح الأسئلة حول ما نريد وما لا نريد، انطلاقاً مما يمكن أن نحقّقه وما لا يمكن تحقيقه. أسئلة حارقة وأسأل، هنا، المعنيين بعلاقة التلفزيون بالثقافة، أسأل أسئلتي وأسئلة غيري: هل التلفزيون جهاز منشّـط للوعي ومحفّز للجمال، وملهم للخيال والفكر؟ أم هو جهاز مخدّر؟ وهل يمكن خلق توازن بين ما يسمّى “الثقافة التلفزيونية” و”الحياة الثقافيّة” و”ثقافة المجتمع”، بمعنى آخر هل يمكن الموازنة في برامج التلفزيون بين ما هو إمتاع ومؤانسة، وبين ما هو فكر وثقافة وقضايا توصف بأنها جادة؟ ولأكنْ أكثر تحديداً وأسأل، كيف يمكن إصلاح الخلل الفادح في “ثقافة التلفزيون”، التي تميل بصورة فاجعة لمصلحة “الطرب اليومي” و”حديث النجوم” المحشو بالسخف والخالي من كل طرافة، وهذا يدور بعد، أو قبل نشرة أخبار مبلولة بالدم، وفي ظلّ ظروف عربية أقلّ ما يقال فيها إنها فاجعة؟ وعند هذه النقطة يجعلني قلقي من الحال التلفزيونية العربية أسأل نفسي وكذلك محيطي من الإعلاميين: هل أتيحت لنا الفرصة، وجرّبنا وفشلنا في دورنا كإعلاميين في ربط الناس بالثقافة، وربط الثقافة بحياة الناس اليومية؟ وهل أتيح لنا، ولم نتمكّن من تقديم ثقافة إنسانية الطابع، منشغلة بالإنسان في حاجياته الروحية المختلفة وعالمية الفحوى، منفتحة على الآخر القريب والآخر البعيد في ظلّ محيط عالمي متموّج بالأفكار والأعمال والتطلّعات؟ مثل هذه الأسئلة التي طالما شغلتني تقودني في كل مرة إلى أسئلة أخرى محبطة للآمال، من قبيل: من يملك التلفزيون العربي اليوم.. الدول؟ الأحزاب والجماعات السياسية؟ أم الشركات الاقتصادية؟ أم غيرها..؟ وما علاقة أولويات هذه المرجعيات بالناس وثقافتهم؟ ولمن تشتغل لمصلحتها أم مصلحتهم؟ إن الجواب عن هذه الأسئلة الجوهرية، يحدد مضمون مجمل الأسئلة السابقة لها واللاحقة عليها. سأتظاهر بأنني متفائلة، وأطرح مزيداً من الأسئلة الشاغلة من قبيل: ترى، هل يمكن أن ينشأ نقاش منتج حول المادة الثقافيّة التلفزيونية وأولوياتها ومستواها الإبداعي جمالياً وفكريّاً، وهل يمكن أن تتحدّد جرعات المادة الثقافيّة ودرجتها وكثافتها وتوجّهاتها، استناداً إلى دراسة حقيقية لما تذخر به الحياة الثقافيّة العربية؟ ما هي حقيقة الأزمة في علاقة القنوات الفضائية بالمادة الثقافيّة: هل هي أزمة معلن وممول، أم أزمة مقدّمي برامج من ذوي الكفاءات العالية؟ أم هي أزمة سياسة وتوجّه أعلى من المشرفين على العمل التلفزيوني؟ هل يطّلع القائمون على العمل التلفزيوني العربي على البرامج الثقافيّة والمعرفية الجادّة جداً في المحطات العالمية: الفرنسية والإنجليزية والألمانية خصوصاً؟ هل هم على اطّلاع كيف يجري تمويل هذه البرامج مثلاً؟ هل تنتبه إدارات الفضائيات العربية إلى أن السياسة التي تنتهجها في اختيار الضيوف والموضوعات والقضايا، أدّت إلى غربة التلفزيون عن المبدعين والمثقّفين وهم جسم كبير جداً؟ هل يمكن خلخلة الصيغة القائمة بين التلفزيون وحركة الثقافة لمصلحة جدل وحوار حقيقيين، حول مختلف القضايا وفق أجندة جديدة وتعاقد جديد بين التلفزيون وأوسع فئات ممكنة من المبدعين والمفكّرين، بما يخدم الثقافة والمجتمع ويجعل من الفضائيات نوافذ حقيقية مشرّعة على كلّ الجهات؟ * شاعرة وإعلامية بحرينية، والنص هو ورقة قدمت إلى الدورة الـ15 لمهرجان المبدعات العربيات بسوسة في تونس
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©