الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجزيرة التي في أسفل البحر

الجزيرة التي في أسفل البحر
12 مايو 2010 22:09
إنني في الأربعين، وكان لي أنا، زاريتي سيديلا حظاً أفضل من العبيد الآخرين. عشت لوقت طويل وسوف يكون عمري زمن طمأنينة، لأن نجمي ـ ميز إتويل ـ تشع حتى عندما يكون الليل غائما أيضا. عرفت سعادة العيش مع رجل اختاره قلبي. أيقظت يداه الكبيرتان الحياة فيّ. لي أربعة أبناء وحفيد، يعيشون أحرارا. ذاكرة سعادتي الأولى ترقى إلى عندما كنت فتاة نحيلة بشعر أجعد قصير وأنف يرشح وتوقظ صوت الطبول، وذلك هو أيضا أغلب سعادتي الراهنة، لأنني كنت في الليلة الفائتة أرقص وأرقص في بليس كونغو من دون فكرة في رأسي، واليوم جسدي دافئ ومتعب. الموسيقى هي التي طيّرت السنوات بعيدا وكذلك الذكريات والمخاوف تلك الحيوان الرابض الذي أحمله في جسدي. تتلاشى زاريتي مع الطبول كل يوم، وأصير ثانية الصغيرة التي رقصت عندما عرفت، بصراحة، كيف تمشي. أضرب الأرض بأخمصي قدميّ فتستيقظ الحياة في ساقيّ، وتنتشر في عظامي، وتستولي عليّ، وتذهب بمحنتي بعيدا وتجعل ذاكرتي أحلى، والعالمَ يرتجف. ولد الإيقاع على الجزيرة التي في أسفل البحر؛ إنه يرجِّف الأرض، يخترقني مثل امّحاء خاطف حاملا معه أحزاني تلك التي كثيرا ما كان بوسع بابا بوندي أن يسحقها؛ أن يبتلعها، ويتركني نظيفة وسعيدة. الطبول تنتزع الخوف. الطبول إرث أمي، قوة غوينيا التي في دمي. ما من أحد بوسعه أن يسيء لي عندما أكون مع الطبول، أصير لا أقاوم بقدر ما هي إيرزولي، الملأى حبا، والأكثر رشاقة من سوط مجدول. قشور على رسغيّ وكاحلي يضربان الزمن، وتسأل الأرض أسئلتها، فترد طبول الجمب بصوت الغابة، وخبيز اللحم والخضراوات الذي في نبرات أصواتهم يردّ أيضا. قرع الطبول.. دْجِنْ دْجِنْ.. يعرف كيف تُعلَن الدعوة، والطبل تصيح بأعلى صوتها عندما يقرعونها كي يستدعوا إلاهات الحب. الطبول مقدسة، وعبرها تنطق الآلهة. في البيت حيث قضيت سنوات عمري المبكرة، كانت الطبول صامتة في الغرفة التي تقاسمناها مع هونوري، العبد الآخر، لكنها أُخرجت في الكثير من المرات. السيدة دلفن، سيدتي آنذاك، لم تشأ أن تسمع صخب السود؛ فقط عويل كآبة آلتها البيانو. كانت أيام الاثنين والثلاثاء تدرّس الفتيات الملونات، ولبقية الأسبوع تدرَس في قصر البلانك المهيبين، حيث للآنسات الفرنسيات آلاتهن الموسيقية لأنهن لا يستطعن استخدام أي واحدة من ما مسّته الفتيات الخلاسيات. تعلمت تنظيف المفاتيح بعصير الليمون، لكن لم أستطع تلّم الموسيقى. لأن السيدة حظرت علينا الاقتراب من آلتها الموسيقية. لم نحتج إليها. استطاع هونوري رسم الموسيقى من كتاب طبخ؛ أي شيء بين يديه يصير لحنا؛ يصير مموسقا وإيقاعا وصوتا. حمل الأصوات داخل جسده. كانت دميتي يقطينة مجوفة كي تخشخش؛ ومؤخرا علّمني هونوري أن أعانق طبوله، شيئا فشيئا. ومن البداية، عندما كان يحملني يأخذني إلى الرقص وطقسه السحري، حيث وسَمَ الإيقاعَ بالطبلِ؛ الطبل الفنان كي يتبعه الآخرون. هذا ما أتذكر كيف حدث. بدا هونوري عجوزا، لأن عظامه المتصلبة متجلدةٌ، حتى على الرغم من أنه في ذلك الوقت لم يكن أكبر مني الآن. شرب التافتاكي يحتمل ألمَ، بل أكثر من ذلك الشراب المسكر القاسي، كانت الموسيقى أنجع من الدواء. مع صوت الطبول، صارت أنّاته ضحكا. بصراحة، استطاع هونوري أن يقشّر بطاطا ناعمة لوجبة السيدة، كانت يداه قد تشوهتا كثيرا، لكن العزف على الطبل لم يُتْعبه أبدا. وعندما يأتي إلى الرقص، ما من أحد كان بوسعه أن يرتقي أعلى؛ أو يهزّ رأسه بقوة أكبر؛ أو يهزّ مؤخرته بقوة أكبر. بعد أن تعلمت المشي جعلني أرقص جالسة، وعندما صار بوسعي أن أحفظ توازني على قدميّ الاثنتين دعاني إلى أن أضيِّع نفسي في الموسيقى، بالطريقة ذاتها التي نضيع بها في الحلم. أرقصي، أرقصي، زاريتي، العبد، ذلك الذي يرقص، هو حرّ.. أخبرني بذلك فيما يرقص. ولطالما رقصت. * نشر الموقع الإلكتروني للروائية إيزابيل الليندي الفصل الأول من روايتها الجديدة بالإنجليزية، والتي تحمل عنوان “الجزيرة التي في أسفل البحر”، وهي عن الزلزال المروع الذي ضرب جزيرة هاييتي. رواية الليندي صدرت مؤخرا في غير بلد ناطق بالإسبانية في العالم مثلما صدرت عن منشورات هاربر كولينز الأميركية بالإنجليزية بالتزامن بين هذه الطبعات العديدة. في هذه الرواية لا تذهب صاحبة “بيت الأرواح” نحو التاريخ الاجتماعي الحديث لبلدها، أو إلى حكايا الحب أو حتى السيرة الذاتية عندما تختلط بالسيرة الروائية كما في “أفروديت” أو “باولا”، بل تذهب إلى هاييتي القرن الثامن عشر لتروي عذاباتها وعذابات النساء والرجال من عبيدها المجلوبين كرهاً على أيدي الكولونيالية الفرنسية المعروفة آنذاك بأنها الكولونيالية الأكثر للقهر تجاه إفريقيا من بين أعضاء نادي الكولونيال الأوروبي كله، تحديدا في ما يتصل بإفريقيا. تبدو هاييتي في الرواية، فعلا، تلك “الجزيرة التي في أسفل البحر”، تحررت من الرق للتو بفضل ثورة العبيد التي انتصروا فيها مطلع سبعينات القرن الثامن عشر وأسسوا فيها حكومة ودولة مؤسسات تقريباً، أو بمعايير ذلك الزمن الكولونيالي حيث تبقى الأرض المستعمرة من قبل دولة كولونيالية أوروبية تحت وطأة الكولونيال حتى لو خرجت جيوشه. لكن هاييتي، هنا، في الرواية هي امرأة سوداء تقول ذاكرتها السوداء منذ جلب أهلها بالسفن الفرنسية مطلع القرن الثامن عشر وحتى حدوث اول ثورة للعبيد في العالم الجديد، فندخل معها في تفاصيل تلك الواقعية السحرية العذبة وكأن المرء يعيش عوالم تنتمي إلى تلك الأحلام التي لا يود لها أن تنتهي على الرغم من أنها قاسية وضاغطة على المشاعر الإنسانية. في هذه الرواية نقرأ ألم هاييتي مثلما نقرأ ألم إفريقيا عبر تلك القطيعة افنسانية التي تحدث للإنسان عندما يجري اقتلاعه من بيئته الجغرافية الثقافية ويتم زرعه في مناخ آخر تماماً يجعله الأعزل تماماً من المعرفة من بين جميع الآخرين. إيزابيل الليندي ترجمة: جهاد هديب
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©