السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المبيـِّض : غـدار يا زمـن!

المبيـِّض : غـدار يا زمـن!
28 يونيو 2008 21:08
هل صحيح أن مهنة المبيض انقرضت بعدما كانت مورد رزق لكثير من العائلات؟ هل ذهبت بسبب الحرب إلى النسيان؟ هل كانت ضحية الأحداث المتلاحقة التي عصفت بالوطن؟ ماذا يقول المبيّض، وكيف يعمل، وما هي نظرته إلى مستقبل حرفته السائرة بخطى سريعة نحو الزوال؟ المهن في بيروت القديمة كانت بسيطة جداً، لا تعقيد فيها ولا ''ديكورات''· ومع مرور الزمن، بدأت هذه المهن تتلاشى تدريجياً· ودهمت الشيخوخة أصحاب تلك المهن القديمة، فأقعدتهم في بيوتهم وقد صدئت أدواتهم وأصابتها الشيخوخة· ومع أن هناك منازل وعائلات ما زالت تؤمن بطيبة تلك المهن، إلاّ أن المبيّض ''تبخّر'' من شوارع بيروت، وتبعه الإسكافي الجوال، والمجلّخ وتاجر الزيت والصابون والقماش، وغيرهم من أصحاب المهن المنقرضة· عصر ''الستانلس''! حسن شهاب يعمل في مهنة التبييض منذ سنوات طويلة، وما زال ''يتسلى'' بها، بعدما أصبحت جزءاً من حياته، لا يستطيع التخلي عنها، خصوصاً في ظروفه الصعبة، كونها ''أوفى من الأبناء''، على حد تعبيره· وهو إذ لا يرى تغييراً قد طرأ على هذه المهنة، التي ''عاشت في ما مضى العز والازدهار''، يدرك أن ''الأوضاع الخاصة التي مرّ بها لبنان، لاسيما الأوضاع الأمنية، أدخلت هذه المهنة وأخواتها دهاليز النسيان''، إلاّ أنها، يستدرك شهاب، ''لم تُنس نهائياً، لأن أصالتها تفرض الجودة والإتقان''· يضيف: ''في العاصمة لا يتجاوز عدد أصحاب هذه المهنة عدد أصابع اليد، ويعود هذا الأمر إلى أن العائلات التي كانت تجدد طناجر مطبخها عند المبيض، منها من هاجر، ومنها من تشرد، ومنها من شاخ بالطبع· هذه الأمور كلها أثرت في المهنة· وما زاد الطين بلّة، أن الجيل الجديد يعيش عصر ''الستانلس''، ويريد كل شيء ''افرنجي''· وهكذا، تغيرت ملامح هذه الحرفة القديمة''· أين تنتشر هذه المهنة بكثرة؟ يجيب المبيض الصامد في وجه الزمن: ''في طرابلس، سوريا، وخصوصاً في مدينة حلب''· أسرار يكشف شهاب بعض أسرار مهنته: ''نأتي بأدوات المطبخ، (الطناجر) فنطليها بالقصدير منعاً للصدأ، الذي يشكل خطراً على الصحة العامة، أول ما نفعله هو تركيز حفرة صغيرة، نشعل فيها النار، فنضع الأسيد (ماء التوتياء)، ثم مادة ''نشادر''، فماء القصدير، وملقطاً صغيراً للتلحيم، وبعض الأدوات مثل ''الشاكوش'' و''الكماشة''· ثم نضع الوعاء المراد تبييضه فوق النار، ويوضع في داخله القليل من القصدير، ثم نمسحه بقطعة من القطن، فيعود لامعاً وبراقاً ونظيفاً كأنه خارج لتوه من المصنع· من خبرته، وفي ضوء ما جرى لمهنة التبييض، يتطرف شهاب في مدح زبائنه· فهم بالنسبة إليه ''يعرفون قيمة المبيض وعمله وهم أصيلون يريدون الحفاظ على حاجات المطبخ بعيداً من ''المودرن''، الذي يغزو المحال· هؤلاء مازالوا يقصدوننا باستمرار، وان كان الإقبال خفيفاً جداً بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية والضائقة المالية التي يعيشها المواطن''· ذكريات المستمع إلى هذا الكلام قد يعتقد أن ما يتقاضاه المبيض أجرَ عمله مرتفع جداً، لكن الحقيقة على العكس من ذلك، يقول شهاب: ''ما يرزقنا الله يرضينا، ونحن نتحسس ظروف الزبائن· لذلك لا نتقاضى سوى كلفة العمل مع زيادة بسيطة· فما يهمنا هو أن يخرج الزبون راضياً من عندنا واستمرار هذه المهنة''· وماذا عن الماضي، من كان زبائن المبيض؟ يتذكر شهاب: ''لا غرابة إذا قلت إن أغلبية زبائني كانت من الأغنياء، إلاّ أن الحرب والويلات التي جرت غيّرت عناوين الزبائن وبات صعباً علينا الوصول إليهم''· حرف جميلة ضاعت وذكريات حلوة تلاشت، ورحلات يومية توقفت، وأصوات مبحوحة كانت ترتفع في الأحياء وبين البيوت قد صمتت، والمدنية الحديثة تغزو الأسواق، وأصحاب هذه المهن ينادون: غدار يا زمن!
المصدر: بيروت
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©