الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رواية الجريمة تدين.. الجريمة

رواية الجريمة تدين.. الجريمة
23 مارس 2011 19:44
لا يتكئ الجيل الأول من المبدعين الإماراتيين، في الشعر وفنون الكتابة عموماً، إلا على موهبته الطازجة الطالعة من عناصر التكوين الأولى للإنسان العربي في صحرائه المزدحمة بالرسالات والقيم، التي صاغت روحه وخياله. وحينما راح رموز من هذا الجيل يترجمون مواهبهم، بقصائد متوهجة ونصوص متمرسة، فإنهم لم يكونوا يعكفون على تشييد بنيانهم الإبداعي الخاص، بقدر ما كانوا يساهمون في صياغة صرح أدبي لوطن ناهض.. أصبح متكئاً لأجيال من المبدعين الإماراتيين، أتوا وسوف يأتون.. هنا إطلالة على سير ونصوص رموز من الجيل الإبداعي المؤسس. يستحق الكاتب الإماراتي عبدالله الناوري حلقة ثانية تسلط الضوء أكثر على تجربته الإبداعية، لأكثر من سبب لعل أهمها هو قلة المقاربات لهذه التجربة على ما أوضحنا في الحلقة السابقة. فالنقاد لم يعتنوا بتجربة الناوري من جهة، والناوري نفسه لم يحفز النقاد على متابعة تجربته التي يمكن وصفها إنها مبتورة. إذ من الواضح أن هذا المبدع الإماراتي يمتلك خيالا خصبة، وقدر على معالجة تعقيد الفكرة أو الحدث، في إطار قصصي مشوّق وهو ما تقتضيه الرواية البوليسية.. تلك الرواية التي يعتبر عبدالله الناوري مؤسسها في الإمارات. وقد حاول المؤلف عبدالله الناوري من خلال روايته «عنق يبحث عن عقد» إدانة الواقع الاجتماعي، وإدانة عالم العنف والجريمة، سواء جرائم الأفراد، أو الجريمة المنظمة التي تقوم عليها المافيا والعصابات، ولعلها رؤية استشرافية لنتائج استخدام القوة وفعل التسلط، حيث المزيد من القهر والجوع والاستلاب والقتل، لتتشكل في النهاية أزمة الإنسان المعاصر، أزمة الإنسان الذي يعيش في بيت تسكنه أفعى مختبئة، أفعى اسمها الجريمة. جيل جديد لعل فضل الناوري في مجال الرواية البوليسية ـ وهو أحد أبناء رواية جيل السبعينات، جيل الرواية الأكثر تعبيرا عن روح مجتمع التحول والبناء ـ هي تلك الحمولات التي قدمها بقدر من النظرة التفاؤلية للمستقبل، لعل ذلك يقودنا بالضرورة للحديث عن الندوة التي عقدها اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات في الشارقة بتاريخ 2/2 /2011 وجمعت كاتبين من الفائزين في مسابقة القصة البوليسية التي أطلقتها شرطة دبي قبل عدة سنوات، والقاصين هما: النقيب سعاد يوسف محمد سعيد، التي فازت بجائزة المركز الأول عن قصتها “جريمة في منتصف الليل”، والشرطي محمد أحمد جار الله الذي يعمل في مجال الأدلة الجنائية ورفع البصمات، الفائز بجائزة المسابقة عن قصته “القفاز” المستوحى مضمونها بالكامل من وحي الخيال. أدار الندوة الأديبة أسماء الزرعوني نائب رئيس مجلس إدارة الاتحاد، وأشارت في كلمتها: “إن الأدب الإماراتي يفتقد القصة والرواية البوليسية، إلا إذا استثنينا رواية “عنق يبحث عن عقد” لعبد الله الناوري”. من تحت عباءة الناوري، خرج أكثر من عشرين قاصا وقاصة، نجحت شرطة دبي في اكتشافهم من خلال مسابقتها، تم جمع قصصهم في كتاب ساهمت في طباعته وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، وقد استوحيت معظم مواضيع القصص مستلهمة من الواقع المعاش، معززة من الناحية التقنية بما يتطلبه فن كتابة القصة من سرد وحوار ووصف ورسم الشخصيات والإيقاع، والبناء الفني العام واللغة وغيرها من العناصر والمفردات، ونجتزئ مما جاء في مقدمة الكتاب: “قد يعتبر هذا الكتاب الأول من نوعه على مستوى العالم كأسلوب مبتكر وحديث في الشكل الأدبي، وذلك لتحقيق غاية هامة هي الاحتراس والحيطة من سقوط أفراد المجتمع كضحايا للجرائم، لو واجهوا نفس الظروف التي وقع فيها المجني عليهم”، على ذلك يمكن القول أن شرطة دبي من خلال مسابقتها قد حصدت ثمار جهود الناوري في وضع الأسس والقواعد والأرضية لهذا النوع من الكتابات التي تجمع بين تقنيات فن السرد، ومتطلبات توعية المجتمع، وبخاصة أن عالم الجريمة قد تطور بشكل مذهل على مستوى الجرائم الالكترونية والقرصنة وأمن الشبكات، وخطورة المواقع الاجتماعية التي أصبحت اليوم من أخطر الوسائل التي يستخدمها قطاع الشباب بشكل خاص. معركة ذكاء صدرت الطبعة الأولى من رواية “عنق يبحث عن عقد”، عن مطبعة رأس الخيمة عام 1978، أما الطبعة الثانية منها فقد صدرت في 160 صفحة من القطع المتوسط عن منشورات وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع بالتعاون مع اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات عام 2009، وقدم للرواية الشاعر عبد الله السبب رئيس لجنة التأليف والنشر في اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات ونجتزئ: “إن الكاتب عبدالله الناوري يأتي في المرتبة الثانية على مستوى دولة الإمارات العربية المتحدة من حيث الإصدار الروائي، وفي المرتبة الأولى على صعيد إمارة رأس الخيمة وهو أول عمل روائي بوليسي على المستوى العام في الدولة. ولأن أحداث الرواية تدور حول عقد الذهب الذي هو بمثابة حلم قديم لـ”سلوى” بطلة الرواية، ونقطة التقاء لقصة اكتشافها تم اكتشاف جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد، كل ذلك يؤكد ذكاء ونجاح الروائي في اختياره لعنوان الرواية التي أخذ يسرد أحداثها بنفس بوليسي يحسب له قياسا بالعصر الذي ولدت فيه، مقارنة بزميلاتها من الروايات العربية ذات الاتجاه المشترك ونزولا عند الحركة الأدبية لدولة الإمارات وهي في بداية عصرها”. حول سر اهتمامه بكتابة الروايات البوليسية قال الناوري: “لقد أغرمت بالجرائم الغامضة وكتب التحقيقات الجنائية، ولأن منظومة العمل الشرطي مجال خصب للإبداع، فمنذ الالتحاق بالسلك العسكري عام 1975، وصولا إلى العام 1977 والدورات العسكرية التي شكّلت فضاء رحبا لتغذية ملكة الكتابة الكامنة في الفكر الإنساني منذ ولادته، علاوة على ذلك فان وقت العمل غالبا ما يفيض بساعات تضطرني لملئها بقراءات مركزة في مختلف الفنون والآداب والمعارف، وعلى رأس تلك الروايات، رواية الكاتبة العالمية أجاثا كريستي التي تعدّ منجما غنيا بالحبكة الروائية البوليسية”. حديث الناوري هذا لا يكشف للقارئ عن منابع فكره للكتابة، وكيف يستمد فكره منها، ويقصد بذلك عمله في الشرطة، الذي قاده ضمنا لكتابة الرواية البوليسية، وما تتمتع به من أجواء التحقيقات والغموض، وجذب القارئ لفك لغز الجريمة، وما إلى ذلك من قضايا ذات صلة بالموضوع، إنما هو وبعد أن تنتهي من قراءة روايته “عنق يبحث عن عقد” يدخلك في دهاليز الأدب البوليسي وغالبا ما يتضمن حكاية أو قصة أو رواية، قوامها اكتشاف رجل من رجال البوليس أو التّحري جريمة تبدو للعيان وكأنها (كاملة)، وفي هذا النوع من الروايات يتقدم الكاتب نحو (الحل) بطريقة مشوّقة تثير فضول القارئ وتحبس أنفاسه وتستثير ملكة حل الألغاز عنده، ويعتبر الآن بو مؤسس القصة البوليسية، من خلال قصته الشهيرة “عمليات القتل في شارع مورغ” عام 1841، كما يعتبر كل من: آرثر كونان دويل، وأجاثا كريستي، وجورج سيمون، من أبرز أعلامها. في تقديري إن الروايات البوليسية ومنها رواية الناوري هي (معركة ذكاء) بين المجرم والمحقق، على اعتبار أن الروايات من هذا الواقع هي ذات نمط واحد، سواء كانت الحكاية رواية أو قصة طويلة، أو رواية قصيرة، أو حتى قصة قصيرة، وفيها جميعا يتتبع الشرطي السّري مفاتيح الألغاز وقد تقوده التحقيقات إلى اكتشاف جرائم أخرى، وتبلغ الرواية ذروتها عندما يكشف المحقق عن الفاعل الحقيقي، كما يخبرنا الكاتب في سير الأحداث كيف تم فكّ لغز الجريمة، ومن هذا النمط من الروايات تطورت تقاليد وقواعد معينة، إذ يتوقع من الكاتب أن يتعامل بعدالة مع القارئ المتلهف على الدوام الوصول إلى الحقيقة، وصولا إلى ما يعرف اصطلاحا بـ(التطهير)، أو في النهاية انتصار الخير على الشر. وبالعودة قليلا إلى رواية الناوري، نجد أن فيها ما في القصص البوليسية من تشويق ومفاجآت تحث القارئ على المضي في قراءتها حتى نهاية آخر كلمة فيها، ولموضوعها وطريقة عرض شخصياتها وتشابك أحداثها، ولغتها وحوارها الرصين الواضح، ستظل تشكل إلى وقت طويل (حالة خاصة) في سياق مسيرة الرواية الإماراتية، نظرا لخصوصية الطرح والتنوع في استخدام التقنيات، والجرأة في التناول، الذي يبدو من السطح وكأنه تمرين مهني أو ورشة تدريب لرجل ذكي من الشرطة على فكّ ألغاز الجرائم. أديب مستتر اعتبر القائمون على الشأن الثقافي في مرحلة السبعينات عام 1978، التاريخ الحقيقي لميلاد الرواية البوليسية في الإمارات، من خلال رواية “عنق يبحث عن عقد” التي كتبها الناوري بحكم امتلاكه لتقنيات هذه الكتابة، فضلا عن انتسابه إلى ميدان العمل الجنائي لسنوات طويلة. أما شخصياتها الرئيسية فهي: الزوج عادل، الزوجة سلوى، والدة الزوجة، الضابط يوسف، الضابط عبد الله، شخصيات ثانوية. تدور فكرة الرواية التي كتبها الناوري وهو في التاسعة عشرة من عمره واستمد موضوعها من وحي عمله في سلك الشرطة، حول اختفاء “سلوى” في ظروف غامضة، وذلك بعد إعلانها نبأ جنين يتنفس في أحشائها، وفرحة زوجها “عادل” بهذا النبأ العظيم بالنسبة لزوج على علاقة طيبة بزوجته، ثم تتوالى أحداث الرواية بأسلوب شائق ممتع حتى ينكشف القائل الحقيقي. من أجواء التحقيقات في الرواية التي اتكأ الكاتب فيها على عنصر السرد والحوار في إيقاع سريع شائق نجتزئ: “إننا الآن نستدعيك لننبهك لخطورة إخفائك للسيدة سلوى، إنا بلا شك نستبعد أن يكون شخص مثقف وواع مثلك يجسر على شيء أكثر من الإخفاء، ولكننا ننصحك الآن أن تعترف لنا بالمكان الذي أخفيت فيه السيدة سلوى، ونريدك أن تتذكر أن تتذكر أن لك ابنا منها، ولك أن تتصور الحال الذي يكون فيه ابنك وهو يفتقد أمه. لنفترض يا سيد جاسم بأنك أخفيتها وأوكلت شخصا لخدمتها في ذلك الوقت، ألم تضع في حسابك أن تمرض هذه السيدة وتحتاج حالتها لمقابلة الطبيب مثلا؟ ثم لا يجسر الشخص الذي أوكلته بإخفائها أن يعرضها للطبيب خوفا من افتضاح الأمر فتموت هذه السيدة ويتلوع بذلك ابنك، وبالطبع ستكون النتيجة بالنسبة لك جد خطيرة. إننا وكما ذكر لك السيد عبد الله لا نقيم وزنا للزمن هنا، وسنظل نحتفظ بك حتى تعترف، ولا بد مما ليس بد منه”. فيما يتكشّف لنا مع الوقت مهارة الناوري في توظيف شكل التحقيق والبحث الذي يقوم به المحقق، حيث تحضر عديد من المفردات المستعارة من حقل التّقصي البوليسي، ولنا أن نعلم أن النقد الأدبي حتى حدود الثمانينات، كان يستبعد تماما الرواية البوليسية من الحقل الأدبي واصفا إياها برواية الحوادث، حتى بدأت الأقلام النقدية الجادة في فترة لاحقة بتفهم حقيقية وواقع هذه الرواية، حتى أن بعض الأعمال الأدبية المجمع على رفعتها، قد ظلّت لصيقة بالبناء البوليسي، بل ان بعض الأدباء الكبار اليوم يبحث عن موضوعاته في أخبار الجرائم والقضايا الجنائية التي يسمع بها أو يقرأ عنها، بحيث أصبح للجريمة مجتمع خاص له خصوصيته وغموضه ورموزه أيضا. أهدى الناوري الطبعة الثانية من روايته إلى كل العيون الساهرة ممثلة في شخص المقدّم محمد عبد الرحمن أبو قصيدة، والى منتسبي “اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات” لما يبذلونه من عطاء وفكر أدبي في الساحتين المحلية والعربية. ونجتزئ من تقديم الرواية تحت عنوان: “عبد الله الناوري أديب مستتر تقديره هو !”: “هل يمكنني الاستدلال على الكاتب الروائي البوليسي عبد الله الناوري؟ على ضوء هذا السؤال المباغت مثل أزيز طائرة كاتمة للصوت، وائتلافا مع هدوء المثقف الواثق من ذاكرته ـ الحافلة برموز وأسماء وشواهد نزدان بها رأس الخيمة بكل شرايينها، وتقرّها الأوساط الثقافية في كافة الحوارات والحارات.. يأتي رد الشاعر احمد عيسى العسم ـ رئيس فرع اتحاد كتاب وأدباء الإمارات برأس الخيمة ـ بأن “نعم”! إلا أن علامة استفهام كبيرة كتلك لم أدع لها مجالا بالمرور هكذا دون امتطائها أو تقصّي أثرها.. إذ ساهمت تلك العلامة كثيرا في على التحريض على البحث الجاد عن إجابة شافية لها نفعها الخاص، ونأمل لها أن تميط اللثام عن قلم، نادرا ما نجده في ذاكرة الثقافة الأدبية الإماراتية! أجل عبد الله الناوري ليس بالاسم الغريب على ذاكرتنا المعطوبة، ففيما سؤال زميلنا أحمد محمد عبيد يحوم في الأفق كنسر جائع، أخذت أناملنا في المسير نحو صندوق مقفل يعجّ بأمانات الكتب الجاثمة في حوزتنا منذ سنين.. ثم ها هي تلتقط الإصدار الروائي الأول للناوري، لتبدأ الرأس بقراءة صامتة أشبه برنين مغناطيسي مفخخ بالمرايا. (الرواية ص 10). عودة ثانية إلى رواية “عنق يبحث عن عقد”.. في البدء ثمة غلاف لافت لها من تصميم الفنان علي الجالك هو عبارة عن رسم لوجه امرأة وعنق طويل، وعقد متمثلا بحلم يتطاير في الأفق. أما غلاف الطبعة الأولى فقد قام برسمه وتصميمه الفنان الراحل يوسف خاطر. ويقول الناوري حول ذلك: “نزولا عند الرؤيا الجغرافية لمصمم الغلاف عمدت إلى تسمية شخصيات العمل الروائي بأسماء لها القابلية القرائية لدى شريحة كبيرة من القراء في الوطن العربي قاطبة. وعلى ذلك بدأت أنسج خيوط روايتي الجديدة حتى وصلت إلى منتصفها، ثم توقفت عن الوصول بها إلى خط النهاية لظروف خارج الاحتمال ومعيقة للعمل الإبداعي، لقد توقفت منذ ذلك الحين، عن مجاراة صهيل الكتابة الذي ما زال يرنّ في ذاكرتي وفي روحي كجرس، مما يدعوني دائما وأبدا لعقد اتفاقية تعيدني إلى ركب الكتابة الإبداعية من جديد” (الرواية ص 13). رواية “عنق يبحث عن عقد” تنتهي بمحاولة الزوج عادل الانتحار، ومن ثم اعترافه بقتل زوجته سلوى أمام الضابطين يوسف وعبد الله، وربما يكون رسم مشهد الاعتراف من أجمل مشاهد الرواية، إذ صبّه الناوري في قالب درامي بديع، يبدأ بثنائية حوارية بين المحققين: طريقته في الحوار ألا تعتقد أنها تثير الشّك؟ كيف؟ إنه فعلا كان جادّا في انتحاره.. حتى لوكان جادّا لطعن موضع القلب أو قطع شريانا من شرايينه، إنه فقط فعل ذلك من أجل التمويه، هل سمعت بشخص انتحر لمجرد انه يجرح فخذه؟ إنها فعلا نقطة هامة ويجب ألا ندع هذه الفرصة دون أن ننتزع الاعتراف منه. (ويدخل الشرطي وأمامه عادل ليجلس في نفس المكان الذي كان يجلس عليه وقد بدل الضابطان خطتهما في الاستجواب) ـ يا عادل.. إننا ألان أمام قضية قد تبدو معقدة إلا أننا في نفس الوقت أمام شخص لا نخفي بأننا نشير له بأصابع الاتهام وهو شخص يمكنه الاعتراف بما ارتكب حفظا للعهد والحب الذي كان يمنحه لزوجته، انك يا عادل ستخسر كثيرا ان ظللت منكرا والأمور ستظل خفيفة بعد الاعتراف، فلماذا تعذب نفسك كل هذا العذاب؟ (وقد تفاجأ عادل بهذه اللهجة الرقيقة التي خاطبه بها الضابط يوسف، وبسرعة نهض واقفا ليقول): ـ سلوى، نعم، نعم، اكتبوا أنا الذي قتلت زوجتي، اكتبوا بسرعة، أنا الذي قتلت سلوى.. أكتبوا هذا الاعتراف قبل أن أغير رأيي” (الرواية ص 155 و156). نجد أن هذا المشهد الدرامي أو المقتطف السابق هو بناء فني ناجح بكل المقاييس، فالتحقيق الذي جاء متكئا على الحوار الوصفي حقق وظيفة التحقيق على مستوى المعرفة لاستجلاء لغز الجريمة، وعلى المستوى النفعي نيل الاعتراف بهدوء تام، أقيم على لغة المناقشة، ومنطق سردي يقوم على منطقية الإحداث. إن الحوار واللغة في هذه الرواية لعبت دورا مهما، وأشار وجودها بهذه الحرفية إلى مغزى عميق، فهي تبحث في المعاني الاشتقاقية الواردة في الرواية وتكشف عن بعض إيحاءاتها الدلالية: “المدينة لا تفتر عن الحديث حول اختفاء سلوى، والحديث يصبح ممتعا ان كان يدور حول شيء مبهم فيستبق الناس بآرائهم وتخيلاتهم، منهم من يؤكد شيئا لا علم به، ومنهم من يقول ربما، ومنهم من ينتقل من مجلس الى آخر، يبحث في نفس القضية، فيتبنى بذلك الآراء التي سمعها في مجلسه الاول، ولا يبخل في أن يزخرف الآراء التي سمعها بكلمة أو كلمتين، ويستمر الحال هكذا بينما تتلاشى الحقيقة شيئا فشيئا” (الرواية ص 72). في تقديري إن الناوري كتب الرواية البوليسية (الأصعب) والأكثر تفردا، لأنه ببساطة شديدة توجّه إلى شريحة قراء ذوي طبيعة خاصة، ونقصد جمهرة القراء الذين لم يتعودوا على مفهوم الرواية البوليسية في ذلك الوقت، ما يتطلب بناء حبكة درامية تقوم على منطقية الأحداث ومواصفات الشخصيات والصراع بينها، لكن الأهم من ذلك إن الناوري استطاع بمهارة عالية من صياغة (رواية الضد) أو المفارقة حينما صنع من قصة الحب بين زوجين، جريمة قتل، بمعنى الخلاص بالحب، على نحو ما توارد عبر المدارس الأدبية مثل: الخلاص بالإيمان، ومبدأ الخلاص بالأعمال، والخلاص بالموت، وغيرها من الاصطلاحات التي إذا ما تم استخدامها بمعادل موضوعي جيد، تفضي إلى عمل محكم، ونجتزئ من حالة الحب بين الزوجين سلوى وعادل قبل أن تقع جريمة القتل: “بدا الفرح ظاهرا على وجه عادل بينما جلس ليشرب كوب الشاي، وهو يتعمد أن يعانق رأس سلوى ويوجّه كلمات الرضا إلى عمّته، ويقبّل ابن سلوى، ويقول له ان أخا سيهل علينا قريبا ليشاركك هذا البيت الذي يصبح عامرا بكما.. وقد شرد عادل بفكره قليلا مما جعل عمّته تناديه وتقول له: إن الإنسان دائما يسرح بفكره في مثل هذه المواقف التي يصبح فيها أبا ويحمل مسؤولية مقدّسة جديدة، وأنا واثقة يا بني أن حياتكما ستزداد سعادة، وسيرفرف الخير على هذا البيت. وكان عادل يجيب بالتأكيد مبديا سعادته لهذا الحدث الذي سيهبط عما قريب على البيت” (الرواية ص 31). تجربة الكاتب قد لا نودّ الحديث كثيرا عن رواية “عنق يبحث عن عقد” بقدر ما نودّ قراءة ما في داخل الكاتب عبد الله الناوري الذي أفنى زهرة شبابه في العمل الجنائي والبحث والتقصي عن (العدالة) بين خفايا الحياة وغموض الشخصيات، نتحدث عن الضابط الإنسان الذي تحامل على نفسه رغم المرض لكي يقول في حوار معه: إنه لم يكن يسع كثيرا إلى دفع الجناة إلى الاعتراف بجرائمهم، بقدر حرصه على دراسة شخصياتهم وظروفهم الحياتية وهمومهم وآمالهم في الحياة، واتجاهاتهم ودوافعهم وإيقاعهم النفسي ومزاجهم المرتبط بالبعد السيكولوجي، وقد ساعدني ذلك على الاقتراب من فهم الشخصية وتقلباتها وانعكاس ذلك على سير الأحداث والصراع وبناء الحبكة، وطريقة رسمها ووضعها في المكان الصحيح بين شخصيات الرواية، وقد ساهم ذلك في تحقيق رؤية واضحة لعناصر فن المناقشة، وتقديم الشخصيات بروح من الديناميكية والطاقة، تقف في موقف النّدية مع بعض الروايات البوليسية العربية”. عن اختياره طريق الرواية البوليسية قال الناوري: “الناس يعشقون قصص الجرائم، والروايات البوليسية موجودة تقريبا أينما تذهب في أي مكان في أي عاصمة عربية أو عالمية تسافر إليها، وهذا النوع من الكتابات يجد هوى لدى قرّاء من مستويات ثقافية متباينة، ومن آليات هذه الروايات ما يتعلق بالكاتب نفسه، وتبعا للثقة التي يصنعها هذا الكاتب لدى قرائه فان البائع نفسه يتحمس بتوزيع كتابه أو روايته، فلا شك أن اسم أجاثا كريستي مثلا يشجع الناشر على إعادة طبع أي رواية، حتى لو صدرت قبل هذا عديد من المرّات، فهو مطمئن أن هناك جيلا جديدا يهوى هذه الروايات التي لم يسبق أن وصلت إليه. بالنسبة لي لقد بنيت علاقة طيبة مع القراء منذ الطبعة الأولى من الرواية، وقد ساعد ذلك على إعادة طباعتها مرة ثانية، وذلك يكفي للتأكيد أن الرواية تتمتع بمستوى جيد، ووجدت إقبالا مميزا، بالإضافة إلى أن إعادة طباعتها مع المزيد من التنقيح، قد ساهم في ظهور جيل جديد من الأقلام الشّابة في هذا المضمار، مما سيؤسس مع الوقت قاعدة واعية من الكتاب لرسالة هذا النوع من الكتابات الصعبة”. عندما تتحدث مع كاتب مثل عبد الله الناوري تأكد أنك ستغرق في بحر من المشاعر الرقيقة المنسابة كندى الربيع، وعليك أن تجتر سريعا معه المناخ الثقافي لمرحلة السبعينات، بكل كتّابها، ومزاجها، كذلك أولئك المؤسسين الذين مهدوا وبأقل الإمكانيات المتاحة الطريق أمام الجيل الجديد من كتّاب الإمارات، وبذلك لا تستطيع أن تنسى مثلا أن كاتبة مثل شيخة النّاخي قد أصدرت رواية اسمها “الرحيل”، فيما يصدر عبد الله صقر أول مجموعة قصصية بعنوان “الخشبة” عام 1974 في دبي، وقصة” ذكريات وأماني” لحاج مظفر عام 1971، وأيضا قصة “ضحية الطمع” لعلي عبيد علي عام 1972، وقصة “يوميات موظف صغير” لعبد العزيز خليل عام 1874، ومجموعة “الشقاء” لعلي عبد العزيز الشرهان، وغيرها كثير، وهذه ظاهرة فريدة ولافتة للانتباه وتصور نشاطا متفوقا على ما في البلدان العربية سواء من الناحية الإحصائية أو من ناحية عدد الأقلام المشتغلة في المجال الإبداعي، ومنهم عبد الله الناوري الذي يتحمل الآن وجعه وألمه وحدة مع قليل من الأصدقاء الذين يزورونه من فترة وأخرى، وقال: “إن عالم الجريمة تطور مذهلا بسبب سيطرة رعاة العولمة على الكثير من مناحي الحياة، فلم تعد جرائم القتل هي المصدر الوحيد لكتابة الرواية، هناك جرائم طفت على السطح ومنها على سبيل المثال لا الحصر، جرائم الاتجار بالبشر، والأخرى ذات الصلة بثورة المعلومات والانترنت، وعالم الجاسوسية، وغيرها مما يتيح مادة خصبة للكتابة، وأتمنى أن يكون لدي شيء يليق بالناس والقراء، ومن ثم أعمل على استثمار خبرتي وأدواتي للشروع في كتابة روايات بوليسية جديدة ترتقي إلى المستوى المطلوب”. يظل للناوري مكانته ومساحته على خريطة الإبداع الإماراتي، فهو من ذلك الجيل الذي عايش بدايات تجربة (الوحدة) الرائدة نحو الفكر الإنساني ودعم الثقافة الوطنية عبر جهود أبنائها، الذين وجدوا أنفسهم بشكل تلقائي يسهمون في رفعة هذا البناء الوطني الجديد، ومنذ ذلك الوقت بدأ المجتمع يتعرف إلى شريحة من الشعب حملت على عاتقها المسألة الثقافية محمل الجد، وفتحت قنواتها نحو ما يحقق موروث وهوية الوطن ، مستفيدة من التجارب العربية الإنسانية، فكان لوجود الأديب ضرورة قصوى تكمل وجه النهضة، والعمل على تطوير الحراك الثقافي الذي نلمس آثاره الممتدة حتى اليوم. ننتهي من حيث ما قاله عبد الله محمد السبب رئيس لجنة التأليف والنشر في اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات حول تجربة الناوري: “هو من الطراز المطرّز بالغموض الإبداعي، فهو أقرب ما يكون بروائي الأحلام الغامضة وأسلاكها، ولأنه ارتضى لقلمه السير في تلك الدروب البوليسية الملامح والصفات، وظيفة وإبداعا كتابيا، لا سيما وان لديه قصة بوليسية أخرى في طريقها للاكتمال، فلا بد للناوري من العودة السريعة إلى ركب الكتابة الجادة والمركزة والحذرة ، فالساحة الثقافية بحاجة إلى قلمه الذي ما زال على قيد المياه المتدفقة من شرايين الإبداع الإماراتي الذي اشتد عوده ونمت شجرته في حقل الإبداع العربي”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©