الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تعال لاحكي لك.. وتحكي لي

تعال لاحكي لك.. وتحكي لي
23 مارس 2011 19:45
من بداية تجربتي الأدبية في أواخر السبعينات من القرن الماضي، وأنا منخرط في جهد ثقافي يسمونه في الثقافة العربية بالحداثة، ورغم أن بداياتي كانت مشوبة بنزعات يسارية سياساوية إلا أنها سرعان ما انتظمت في أواخر الثمانينات في صف من يذهبون إلى القول إن الثقافي ككتابة شعر حديث، أو ممارسة فن تشكيلي حديث، أو ارتكاب عرض مسرحي جارح في هذا الفضاء التقليدي المتخلف، هو أهم من كل المقولات السياسية والثورجية الجافة. بقدر ما كان ينمو في داخلي مضادة نفسية عفوية للكولونيالية الأوروبية من البرتغال الذين أعملوا من العنف في قريتي التي أود دائماً أن أتخيلها وديعة: وهي خورفكان، وحتى البريطانيين الذين انقشعت سماؤهم عن بحر هذه المنطقة في أواخر السبعينات من القرن الماضي، بهذا القدر أو بما يوازيه كنت واقعا فعلاً تحت تأثير الثقافة الغربية الإبداعية المترجمة إلى العربية، خصوصاً من الفرنسية والألمانية، فلقد كانت ترجمات شعر هولدرلين وريلكه، وحتى هانريش بول تعمل عملها في روحي، تماماً كما كان رامبو وبودلير، ومن ثم لوتريامون، هذا ناهيكم عن الفلسفة من هيجل إلى نتيشه، ومن هايدجر إلى من.. لست هنا لأعدد مَن أثرَّت ترجماته على العرب من جيلي، وعلى الأخص رفاقي في الإمارات، حينما كانت تشتعل رؤوسنا بتلك القراءات في السنوات الأولى من الثمانينات، يرافقها ما كانت تحتفل به ذائقتنا من المخزون المجهول للثقافة العربية كنصوص ابن عربي وسواه. بالمقابل وبالنسبة لي أنا شخصياً، على الأقل، كانت تلك الثورجية التي يتحلى بها مفهوم الكتابة لدي، لا يمنعني من سماع تلك الأصوات الشفاهية السردية، سواء كانت حكائية أو شعرية، والتي تأسست عليها مخيلتي هناك في خورفكان، حيث قضيت طفولتي وأنا ألعب في حقول الأمواج، وكانت الأغاني والحكايات، حكايات النهار كما حكايات الليل، تمتلئ بها، ليس صدور البشر فحسب، وإنما تمشي وفق إيقاعها الكائنات الخفية، والكائنات غير الخفية، بل أكثر من ذلك، تكاد تمشي وفق إيقاعها وحبكتها حتى الجمادات، خاصة الجدران الطينية ونوافذها، والتي تكاد تسيل من أية دمعة قد تسيل من البطل الشعبي، أو على أثر كلام الطيور الثلاث التي تتحدث فوق رأسه، ومن الصعب بالطبع فهم لغة الطيور. ولعل هذين العاملين، أي عامل أن الكونيالية ورغم أنها انقشعت، إلا أنها وكالأفاعي غيّرت جلدها، والآن تستهدف إكمال ما لا تحققه من قبل، وهو مسح وإلغاء ومحو ذاكرة الشعوب، ثم العامل الآخر وهو أنني، ورغم اختياري الانتماء إلى حداثة أو تجديد مجهولين، عليهما أن يظهرا من تجربة مغامرة حقيقية في التفكير عندي، كما عند الآخرين، كل الآخرين، (فنحن حقيقة في هذه المنطقة نعيش التناقضات نفسها، وان اختلفت الحساسية من فرد إلى آخر، أو من مجموعة إلى أخرى). رغم اختياري ذلك، فإن الثقافة الشعبية كما تسمى، أو أفضل أن أسميها الشفاهية، والتي كانت هي السائدة، أو شبه السائدة حتى السبعينات من القرن العشرين، كانت ثقافة عاش عليها الناس هنا، أو أكثر من ذلك، لقد توارثوا وتحققوا في هذه الثقافة ولآلاف السنين. ولعل أكثر ما يزعجني في النظرة إلى الخلف في بلدنا، غير كونها نظرة إلى الخلف، هو تقديمنا لأنفسنا قبل الآخر على أن ثقافتنا: صيد صقور، أو سباق ابل، أو طريقة في تقديم القهوة أو طقوس البخور، أو حتى تذوق أنواع الرطب أو السمك الجيد في هذه البلاد. كل هذا يعبر فعلاً عن روح هذه المنطقة، ولكن جزئياً، وتزيد جزئيته حين يتحول إلى كليشيه، السياحة اقتصاد، وبإمكانها أن تقوم بدور العبور نحو الآخر، كما بإمكانها أن تكتفي بالتفرج عليه وكأنه حيوان في قفص. من هنا أحسب، بأن الأداء اللغوي السردي من شعري وحكائي، والمتجاهل تماماً في هذه المعادلة، هو المخزون التخييلي الأهم. الكل مستعجل فيما يسمى بحياتنا الحديثة، والكل ممزق اجتماعياً، وغير منسجم نفسياً، بينما الحكاية في هذا المجتمع، تفترض العكس، تفترض لحمة المجتمع، وهدوء الأنفاس، وقدرة الداخل على تلقي الدهشة، وعلى الشعور بإغلاق الأبواب في وجهه، كما الشعور بفتحها. ولظروف غير مخطط لها وجدت في حوزتي عند بداية القرن الحالي (2000) مجموعة من “النصوص” العامية لحكايات ترويها كبيرات السن، ولقد اجتمعت في أدراجي من مصادر عديدة، فعملت على تحرير تلك الحكايات وقدمتها في ثلاثة كتب هي: “حصاة الصبر” و”دردميس” (تعني هذه المفردة في العربية ـ تقريباً ـ قمة الهناء) و”.. إلا جمل حمدان في الظل بارك” (جميعها صدرت عن هيئة أبوظبي للثقافة) وأنا أعمل في تحرير تلك الكتب ترسخ في ذهني ثلاثة أمور: الأول: الطاقة التخييلية التي تنطوي عليها تلك الحكايات، ولعلي أدركت من شعوري بهذه الطاقة جزءاً أو نطاقاً من التأثير السحري التي تمارسه الحكاية، حين تروي بشكل جيد على المستمع. الثاني: ان الحكايات تنتقل في العالم بخفة، ولا أود أن أستعمل هنا مفردة “عولمة” بما تحمله من ميراث كونيالي قذر، ولكن الحكاية إنسانية وتخترق ثقافات الشعوب، ففي الأجزاء الثلاث التي أصدرتها عن الحكاية لا تروى فحسب حكايات “الساندريلا” و”أوديب” بصياغات مختلفة في قرى إماراتية غير متعلمة وإنما كذلك تختلط التصورات الحكائية حول الأحجار والأشجار بين ثقافات الشعوب، ورغم أنني هنا لست متأكد من التلميح إلى “نشوئية” ما في التحضر الإنساني، بقدر ما أنا على ثقة من قدرة السرديات (الأغاني، الأشعار، الحكايات) على التنقل المرح بين ضفاف العالم. الثالث: ثم عظم للحكاية، البينيويون الرؤوس، وعلى رأسهم فلاديمير بروب شرحوا ذلك العظم، ولكني، ومن عملي في تلك الأجزاء، اقتنعت بأنه، وبالرغم من أهمية تشريح العظم، فإن اللحم هو فائضها السردي. لقد قامت زميلة صحفية تعمل في إحدى مجلات الأطفال باختيار بعض الحكايات، وتقديمها مصورة برسوم من فنانين مختلفين، لقد حولت منى سعيد بعض تلك الحكايات إلى سيناريو، رسمه أشخاص ليسوا بقريبين جداً من تخيل “اللحم البيئي” الذي ذكرته قبل قليل، بينما ذهبت المحررة إلى أخذ بعض اللحم وبعض العظم وخلطهما معاً لتقديم سيناريو، أنا شخصياً أقدره كمحاولة، ولكن لديه بالمقابل مشاكل كبرى. سيناريو منى مع المصورات صدرت بعنوان “الجبل يشتري بقرة”، (صدر أيضاً عن هيئة أبوظبي للثقافة)، إنها محاولة ولكن كما بدا لي، وكما كتبت في تعريف الكتاب، فإن الرسامين كانوا يفتقدون إلى الحساسية المطلوبة في فهم “لحم البيئة”، كما أن زميلتي العزيزة كانت تسرع في تحويل كل حكاية إلي خلاصة أو موعظة، وتلك خطورة كبرى ليس نحو تضييق خيال الأطفال فحسب، وإنما في الحد من امتاع الحكاية وقدرتها احداث الدهشة، فالحكاية كما يعلمنا ملف الحكاية العظيم: ألف ليلة وليلة تقوم على التشويق، أي اللانهائية، وتقوم بالتالي على انعدام الأهداف والنتائج من رويها، ان قدرة الحكاية العظيمة سواء للأطفال أو لغيرهم (إذ كلنا بحاجة إلى روي) تكمن بالذات في الروي نفسه، في الحكي نفسه، في هذه المشاركة الوجودية والإلهية التي لا تقاربها في هذا المستوى، أية مشاركات أخرى، تعال، لتعرفني وأعرفك، سأحكي لك وستحكي لي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©