الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

باخوس الحارات المنسية يسعى لمصالحة بعلبك مع نفسها

باخوس الحارات المنسية يسعى لمصالحة بعلبك مع نفسها
27 أغسطس 2009 01:44
في جلسات التأمل الطفولية الطويلة التي كان يرصد فيها من «عليّة» منزل أهله قلعة بعلبك والحارات المحيطة بها، كان الرسام اللبناني مازن الرفاعي يستمع إلى الفلاحين المنتشرين على تخوم القلعة، وهم يقصّرون نهاراتهم ويخفّفون أوجاعهم بالعتابا والميجانا، كما كان يراقب ذلك الحجيج السياحي الدائم والمتواصل إلى تلك الحجارة المؤبّدة، وهو يدخل ويخرج دون أن يعير انتباهاً للحياة التعبة التي تدب في محيطها. أثناء تجواله الدائم في رحاب حارات المدينة، خَبِر مازن كيف يصيخ السمع إلى أنين المقهورين الذين تحولوا إلى ملحقين بحجارة القلعة بعد أن ابتنوا لهم مساكن في جنباتها، ثم لحظ التحولات الهائلة التي طالت حيوات هؤلاء «المنبوذين» فيما هم يقصون الروح الأثرية لمدينتهم عن جداول اهتماماتهم اليومية. ذلك كله نبّه «الرفاعي» باكراً إلى البون الشاسع بين بعلبك القلعة «الأسطورة»، وبين رديفتها القائمة فوق حارات «مرذولة» من أهلها قبل الوافدين إليها، فأطلق لريشته العنان كي يُلبس المدينةَ الصورةَ التي قادته إليها رهافته، والتي رأى أنه يجدر بها أن تكونها كي تغادر هذا الكثير من الانفصام الذي تعيشه. مضى الفنان يفعل ذلك مرمّماً في نفسه القطع الناقصة لـ «بازل» المدينة الناتج عن تناقض صورها أمامه من جهة، ومستردّاً القلعة من أسر التاريخ ليطلقها في فضاء العيش، بحيث يغدو المحيط في حيواته السابقة واللاحقة مفتاحاً أساساً لسبر أغوارها الحقيقية من جهة أخرى، بكلمة حاسمة: أخذ الرسام على ريشته عهدا أن تنحو في سعي دؤوب لمصالحة المدينة مع نفسها. أنسنة الحجر عبر ثلاثة عقود من الغوص في رحاب الذاكرة، رسم مازن الرفاعي الحارات والقلعة وما بينهما، لم يعر انتباها لشموخ الحجارة بقدر ما سعى إلى أنسنتها عبر محاولته تلمّس غور العلاقة الجدلية القائمة بينها وبين محيطها من حورٍ وقرميدٍ. لم ينحز إلى، أو يتكئ على، الطين والبيوت القديمة الموشاة بحنين الزخارف - وهو صاحب الاختصاص بذلك - بل عمل على كشف بقايا الروح التي انتشرت في الحارات متغلغلة بين الطين والإسمنت، ونفذت عبرهما إلى الهياكل كي تساعدها على تحمّل قساوة العيش مع الإنسان، فجاءت رسوماته أقرب إلى انطباعات لونية عرف كيف يخرجها من رتابة التفاصيل ليسكنها حركيّة التجريد، ساعياً من خلالها إلى استحضار الأطياف المقيمة أبداً في الزوايا المنسية بأفراحها وأحزانها، هكذا لم تعد اللوحة عنده مساحة بيضاء يسعى إلى تلوينها، بل أصبحت خلفيّة سوداء عمل على تعزيزها بالضوء، على الرغم من حزنٍ لافتٍ كثيفٍ وشفيفٍ تسلل إلى بياض روحه عبر تربّصه بأوقات الناس المحلّقة أبدا فوق تخوم الخيبة، هو فعل ذلك كله عبر ريشة خافتة ونظيفة ومتواضعة ومتمكّنة، عرف مازن كيف يجعلها مرآة لروحه الشفّافة الحنونة المستترة المتأمّلة والصابرة، فكان، كما أسلوبه، «مائيا» بامتياز. الوحشة القاتلة منذ ثلاثين من الأعوام وريشة مازن الرفاعي تصرخ احتجاجا، ولوحة إثر أخرى يشحذ هذا البعلبكي الأصيل فرشاته لِيُعْلي الصوت أكثر: إنني أختنق بحبّ هذه المدينة، وهذه الوحشة والغربة ستقتلنا لا محالة. وهو بذلك يدقّ أكثر من ناقوس للخطر حول ما يصيب روح المدينة من تحولات، بحيث لا تبدو هذه الفوضى المعمارية التي تعصف بها إلا الأعراض الخارجية البسيطة للداء «الخبيث» الذي يتغلغل في هذه الروح من الداخل. ربما يعرف الرفاعي أن صراخه اللوني قد لا يجد وادياً يُرْجعه إليه، لكنه يدرك تماما أنه خط دفاعه الأخير تجاه ما يستشري في بعلبك ومدن كثير غيرها من غربة عن الذات، ولعلّ ثنائية الأسود والأبيض التي هيمنت على نتاجه في مرحلة من المراحل، شكلت رديف صراخه المتواصل، بحثا عن مظهر حالم يعيد للمدينة صورتها الأصيلة. حتى تكفّ العلاقة بين هذين اللونين عن أن تكون علاقة تضاد، لتصير صلة قائمة على الاكتمال والتجانس. لطالما آنست حجارة القلعة الرومانية في بعلبك إلى حارسها الإغريقي باخوس وهو يدفع عنها غائلة الزمن، أما مازن الرفاعي فهو باخوس الحارات المنسية التي تعين عليها أن تدفع ضريبة الماضي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©