السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفلسفة وتمجيد الأذن

الفلسفة وتمجيد الأذن
27 أغسطس 2009 01:55
«لكي تكون مبدعاً في أي مجال من مجالات المعرفة يجب أن تمتلك أذناً قادرة على الإصغاء والسماع. بقدر ما نصبح بارعين في الموسيقى نصبح مبدعين في الفلسفة... الحياة بلا موسيقى كانت ستكون غلطة فادحة...». عن هذه المسلمات صدر الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في مجمل كتاباته. كان نيتشه على يقين من أن الموسيقى هي حقيقة الوجود. وهي الطريق المؤدية إلى فهم جوهر الكائنات والموجودات. من يمتلك أذنا قادرة على الإصغاء إلى صخب الحياة وهديرها هو وحده الذي يقدر على التقاط الإيقاع الذي يدير الحياة نفسها. ووحدها الموسيقى هي التي تقدر على ترجمة عظمة الحياة وهشاشتها. وحدها الموسيقى تضعنا في حضرة رعب الوجود وبهائه. لهذا كله عمد نيتشه في كتابه الأول الذي اختار له عنوان «نشأة التراجيديا» الذي صدر سنة 1872 إلى الجزم بأن الأساطير ذات البعد التراجيدي والموسيقى لهما منبت مشترك. الموسيقى والتراجيديا تنحدران من الفضاء نفسه وتضعان الكائن في حضرة الضدين المرعبين: الوجود والعدم، بهاء الحياة وهشاشتها. قبل نيتشه كانت الفلسفة تعتمد على المراقبة والملاحظة والاستنتاج. كان الفيلسوف في حاجة إلى عيْنٍ تلتقط التفاصيل وتحيط بالتناقضات. لذلك كتب نيتشه مديناً قصور العين وممجّدا الأذن والإصغاء: «في الماضي كان الفيلسوف يسد أذنيه بكرات صغيرة من الصمغ، لأن الفيلسوف العظيم وقتها، ليس في حاجة إلى أُذْنٍ يصغي بها لصخب الحياة، لاسيما أن صخب الحياة ليس سوى إيقاعات موسيقية، كان الفيلسوف في الماضي يتعالى على موسيقى الحياة وصخبها.» عن هذه الإدانة سيصدر نيتشه في كل أعماله، سيستبدل العين بالأذن، يدين العين لقصورها وعماها، ويمجّد الأذن لأنها تلتقط موسيقى الحياة ووحيها. كان نيتشه يعتبر أن كل ما ألفه من كتب هو شكل من أشكال «الموسيقى الجديدة التي لن تروق إلا لمن لهم آذان جديدة للسمع.» فإذا قارنا بين العين والأذن كأننا نقارن بين العمى والبصيرة. العين عمياء تلتقط الظاهر والمرئي ولا ترى غير المتناهي. أما الأذن فتنفذ إلى اللامرئي وتحيط باللامتناهي لأنها تلتقط الإيقاع الكوني الشامل وتنفذ إلى الصخب العظيم، صخب الحياة لحظة تشكلها ولحظة تلاشيها وتفتتها. لذلك يبدو العالم مُشاهَداً بالعين أفرغ من الفراغ. أما العالم مصغيا إليه بالأذن فيتجلى مليئا بالحياة طافحا بهديرها العظيم. كان بإمكان الفيلسوف الألماني أن يصبح عازف بيانو من المشاهير. الموسيقى هي التي اقتادت خطاه على درب الفلسفة؛ والفلسفة هي التي اجتذبته إلى الطريق المؤدية إلى الجنون. فمن المدان؟ ثابت تاريخيا أن نيتشه قضى آخر أعوام عمره في مصحّ عقلي هو مصحّ فايمار. وثابت تاريخيا أيضا أنه كان يقضي ساعات طوالا أمام البيانو مستسلما للعزف مأخوذا بالإيقاع. كانت سنواته الأخيرة انتقالا دوريا منتظما من التحديق في الفراغ إلى العزف على آلة البيانو. بهذا شهدت كل من أمه وأخته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©