الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بريد بغداد

بريد بغداد
27 أغسطس 2009 01:56
مرت سنوات عجاف وبريد بغداد لا يحمل إلا الموت وأخباره المصبوغة بلون الدم القاني، والسواد الذي تعرضه جدران بيوتها ولافتات الغياب التي تشكل فضاء لشوارعها. دم وسواد يذكران بما قاله المؤرخون بعد الهجمة المغولية عن نهر دجلة الذي يجري ماؤه آناً بلون أسود هو مداد الكتب الملقاة فيه، وآناً بلون أحمر هو دم الضحايا في أعماقه. حتى لو كانت تلك إحدى مبالغات التدوين المرتعب مما فعله التتر فإن الأسود والأحمر ظلّا عنوانا وإشارة لبغداد التي دخلت عصر الظلام، وأُطفئت أنوار لياليها المقمرة بالسرد الشهرزادي والغناء والموسيقى والشعر والعلم، والثقافة المتمازجة بلا عُقد أو تنافر. يعود المشهد الدموي المسودّ ثانية، فتفيض الشاشات بدم وسواد تصنعه كلمات نعي الراحلين بالجملة، وعلى مدار اليوم العراقي الثقيل والطويل المحتشد بالألم. ولكن ثمة بريد آخر كان يناور ذاكرتي ويقتحم غربتي ويجعلني ألمس نبض بغداد حياً عبر رسائله، كلما مددت يدي مجتازة غبار الصندوق وصمته أحيانا.. بريد يحمل كتب الأصدقاء المقيمين في الوطن وأخبارهم ونتاجاتهم، ويؤجج ذلك الحنين الذي يتكاثر كنبتٍ وحشي على سهول القلب فيؤلمه ويطعمه للمرض والأزمات. لزمن طويل يتوقف هذا البريد الذي صارت له هيئة الرمز المثير لرغبة الحضور عبر الذاكرة، لأسباب تتصدرها الحرب وتعذّر التواصل.. ولكن سيعوض البريد الإلكتروني والهاتف أحيانا ذلك الغياب، ويمسحان عتمة الأسود ورعب الأحمر اللذين يؤطران حروف بغداد الخمسة ذات الرنين الشعري المحفوف بتاريخ بهي من التفتح والإبداع، يؤهلها لنيله كونها عاصمة الدولة لأكثر من خمسة قرون. مؤخرا صار لصندوق البريد وجود خاص.. على خجل وببطء راحت ترد مطبوعات شحيحة، ثم تسارعت لتجعلني على مقربة من المشهد الذي كنت أعتز بوجودي زمناً في القلب منه كاتبا ومحررا.. وصلت مجلة الثقافة الأجنبية وبصمات سهيل نجم وزملائه على أوراقها، وأعداد الأديب ومحررها الناقد عباس عبد جاسم، وإصدارات الأصدقاء: أحمد خلف وطالب عبدالعزيز وجواد الحطاب وناجح المعموري وليث الصندوق ونصير فليح وناطق خلوصي وإبراهيم الخياط وحسام السراي وحميد حسن جعفر وعلي عبدالأمير صالح وشاكر سيفو وسلمان داود وعالية طالب وفليحة حسن، وشعراء من بابل والبصرة وديالى والموصل والكوت أيضا؛ كلها تعيد ذلك البهاء الذي يسم الكتابة العراقية، ويؤكد روحها العنقائية التي لا تكف حتى في أحلك الظروف عسفا واحتلالا ودموية عن تدوين عنائها والرد على مدبّري موته وصمته ومحاولي قتله أدبيا وجسديا بالكتابة التي تقهر الموت رمزيا، وتتحداه بأبهى أشكال الحياة. بريد بغداد عاد.. صحيح أنه يمر بعواصم عدة ويتلكأ متعثرا لكنه في النهاية يصل، إعلانا عن وجود الكلمة التي لم يطفئ وهجها الاحتلال والإرهاب، كما لم يوقفها العسف والكبت من قبل.. هكذا عادت يدي مخضرة كلما امتدت لفراغ الصندوق الممتلئ فضاؤه بالكلمات النَديّة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©