الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عبث الشعراء

عبث الشعراء
27 أغسطس 2009 01:56
كان بشار يعطف على بعض صغار الشعراء من أصدقائه، وتأخذه بهم الرأفة وقد اكتوى مثلهم بنار البؤس والتمييز العنصري والفاقة، منهم شاعر طريف يجاريه في الظرف وخفة الروح ويبتزه أحياناً باسم هذه الصداقة، هو أبو الشمقمق، وقد تعود بشار أن يهبه كل عام مائتي درهم يستعين بها في قضاء حاجاته، إلى جانب تزكيته لدى بعض الممدوحين من أهل المروءة. ويبدو أن الشاعر المولع بدوره بالعبث والمفاكهة قد أراد أن يستفز صاحبه بشار، فجاء إليه وقال له: هلم الجزية يا أبا معاذ!! (والجزية ضريبة تؤخذ من أهل الذمة وبشار مسلم، أو تفرض على المستضعفين في الأرض والشاعر الجبار ليس منهم)، فقال: ويحكَ، أجزية هي؟ قال: هو ما تسمع، فقال له بشار يبادله المزاج: أنت أفصح مني؟ قال: لا، قال: فأعلم مني بمثالب الناس؟ قال: لا، قال: فأشعر مني؟ قال: لا، قال: فلم أعطيك؟ قال: لئلا أهجوك، فقال له بشار: إن هجوتني هجوتك. فقال له أبو الشمقمق: هكذا هو؟ قال: نعم، فقل ما بدا لك، فهجاه أبو الشمقمق هجاء فاحشاً، لاذعاً، وعرض بأمه حتى وثب بشار فأمسك فاه، وقال أراد والله أن يشتمني، ثم دفع إليه مائتي درهم، وقال له لا يسمعن هذا منك الصبيان يا أبا الشمقمق». ولكي ندرك رعب بشار – أقذع الهجاء في عصره – من زميله في الصنعة بوسعنا أن نتصور هذا المشهد اليوم بين أحد كبار الكتاب الشرفاء وثلة من الصغار العابثين أو كتاب المدونات التي لا تخضع لرقابة ولا تنفع معها مواثيق شرف. إذ سرعان ما تنتشر البذاءات ولا تقوى على ردها أحكام القضاء ولا حكمة الصمت. على أن هذا الحوار الشيق بين بشار ورفيقه العابث يكشف لنا عن طبيعة المجتمع العربي حينئذ وآليات التنافس والقوة والصراع فيه، فسلطة الخطاب كانت تكمن في الفصاحة والعلم بمثالب الناس والكفاءة الشعرية لكنها في مجملها لا تحمي صاحبها من أن يطلق فيه أحد لسانه بقول فاحش فيتداوله الصبية والعوام ويتغنون به فيفسد عليه حياته، لكن يبدو أن المشاهير في عصرنا أصبحوا يستوعبون ذلك ويفيدون منه بطرائق ماكرة. على أن أبا الشمقمق ذاته قد جاء مرة أخرى إلى بشار يشكو إليه ضيق ذات اليد ويحلف له أنه ما عنده شيء، فقال له بشار: والله ما عندي شيء يغنيك، ولكن قم معي إلى عقبة بن مسلم، فقام معه فذكر له أبا الشمقمق وقال: هو شاعر وله شكر وثناء، فأمر له بخمسمائة درهم، فقال له بشار: يا واحد العرب الذي أمسى وليس له نظيرُ لو كان مثلك آخرٌ ما كان في الدنيا فقيرُ فأمر لبشار بألف درهم، فقال له أبو الشمقمق، نفعتنا ونفعناك يا أبا معاذ، فجعل بشار يضحك.. كان يضحك أولا لنجاح ابتزاز الممدوح بالتلويح له بالمدح والثناء، مما يخفي الترهيب من الهجاء، ويضحك ثانياً لأنه زاد في المدح فزيد له في العطاء واستثمر صنعة الشعر في إنصاف الشعراء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©