الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأساس النفسي للعنصرية الغربية

الأساس النفسي للعنصرية الغربية
27 أغسطس 2009 02:00
النصيحة الأولى التي يوجهها طبيب «السيكاترا» لمريض يعاني من العصاب أو «موجات الذعر» أو ضعف الإحساس بالأهمية الذاتية، التي هي حالات تعاكس تقريباً المعدل الوسطي للمواطن العربي، أو ربما على حد تعبير سارتر من يعانون الغثيان، النصيحة الأولى هي الابتعاد عن مشاهدة المواقف أو الصور الحاطة من قيمة الحياة الإنسانية. وذلك لأن «قياس المقارنة» النفسي الذي يماهي الرائي بالمرئي يجعل الرائي في وضع انحطاط تام للتقدير الذاتي. وهكذا تفقد الحياة «ماهياتها الوهمية» الضرورية وتسقط برمتها في حالة العرضية والنسبية وقابلية الزوال وتفاهة القيمة. غني عن القول بالطبع أن الأمر يزداد سوءاً بما لا يقاس في حال كون البشر موضوع الامتهان هم أقارب المرء في الهوية العقائدية أو القومية أو أية قرابة تضيف بعداً إضافياً إلى رباط التماهي البشري الأولي. بما أنني من الكائنات التي تنتمي للنوع الإنساني، وأيضاً بحكم عروبتي التي لا يختلف اثنان على بؤسها الراهن، فقد دمر سلامي النفسي تماماً بعد كل الذي جرى في غزة. أصدقائي في الولايات المتحدة الأميركية وهم من خيرة الناس المابعد حداثيين اتصلوا بي وشدوا من أزري وسألوني أن أوطن مشاعر التسامح والمحبة في قلبي، وأن لا أسمح لغضبي أن يعميني عن رؤية موجة «اللاسامية المفزعة» التي تجتاح البلاد العربية وبعض الشعوب المتخلفة من قبيل تركيا وأندونيسيا. شرعت بالطبع أفكر: أيُّنا يحتاج إلى عملية تصحيح نظر أنا أم هم؟ وقد توصلت مبدئياً إلى أن طرفينا مصيبان. لا غالب ولا مغلوب. فمن الصحيح أن أصدقائي مثلما أوروبا كلها والولايات المتحدة، هم مع حقوق الإنسان وحياته وأمنه. ولكن الشرط الضروري لهذه الحقوق هو أن يوجد ذلك الإنسان بالفعل. تبرير الاستعباد لقد أكد جيفرسون المهندس العبقري للديمقراطية الأميركية العظيمة أن حياة العبيد في الولايات المتحدة أسوأ من الموت ذاته بمئة مرة. ولكنه قال إن أحداً من البشر بالطبع لا يستطيع احتمالها. ولكنهم يحتملونها وهكذا يستنتج المرء بقياس أرسطي بسيط أن العبيد الأفارقة لم يكونوا في نظر الرجل بشراً حقيقيين، أو أنهم في أحسن الأحوال كانوا بشراً ولكن ليس من طينة البيض. ولعل جورج أورويل بعد كل شيء على حق: «فكل الناس متساوون، ولكن بعض الناس أكثر مساواة من بعض آخر». إن العنصرية بوصفها فلسفة وممارسة على السواء لا غنى عنها لراحة السادة والعبيد جميعاً. ألم يذهب ب. واشنطن التربوي الأكبر للسود في أميركا حتى منتصف القرن العشرين، بل وحتى الثوري الأسود المعروف و. ب. دو بويس حد مطالبة السود بالتروي في المطالبة بحقوقهم المنتهكة من قبل نظام «جيم كرو» ريثما ينضجون كفاية وتتغير طبائعهم الداخلية – ولنرْجُ الله أن يحدث ذلك بسرعة - كيما يصبحوا قادرين على تحمل حضارة الحرية والتعقل؟ هكذا استدخل المستعبدون فكرة أنهم أقل من السادة في نفوسهم وعقولهم فهونوا شأن العذاب على أنفسهم مثلما خففوا من معاناة الضمير عند الجلاد. لقد بدا في سياق ذلك أن جلد الضحية هو نوع من مقاومة المرض الذي يعشش داخلها، كأنما التعذيب والإذلال علاج يساعد على الشفاء. تتكرر هذه القصة بالطبع كثيراً في تاريخ السيد والعبد. قال آدم سميث ذات مرة إن أحدنا لن يستطيع النوم إذا علم أن أصبعه سوف يبتر يوم غد، بينما سينام نوماً عميقاً، بعد وقت من مصمصة الشفاه طال أو قصر، حتى لو علم يقيناً أن كل سكان الصين سيموتون غداً. ذلك في الواقع وصف غاية في الدقة لطبيعة الأساس النفسي للعنصرية. فالوقائع تبدو قوية وحقيقية ومؤثرة بقدر ما يتماهى الفرد معها، وبالتالي يحس أنها يمكن أن تكون مصيره الخاص. أما إذا اقتنع بأنها شيء غير واقعي أو غير واقعي فيما يخصه أو فيما يخص من يشبهونه من ناحية خصائصه النوعية، فإنه يتعامل معها كما لو كانت غير فعلية. وهذا هو حال الرجل الأوروبي الأبيض عندما وصل القارة التي سميت على يده بأميركا. فقد قاموا بالتعامل ذهنياً وواقعياً مع السكان الأصليين كما لو كانوا جزءاً من موجودات الطبيعة غير الإنسانية. وهكذا سهل عليهم محاربتهم وإبادتهم بالأمراض التي زرعوها عمداً في الملابس والبطاطين التي أعطوها للسكان. كذلك أسسوا شركات توزع المكافآت المالية لكل من يحضر جمجمة مواطن أصلي ممن دعاهم البيض بالهنود الحمر. لا أرواح لهم مثل هذه الممارسات بالطبع تلازمت مع الفلسفات والفتاوى الدينية التي نصت على أن السكان الأصليين ليس لهم أرواح بالمعنى الفعلي للكلمة لكي يقوم يسوع بإنقاذها وأنها ربما غير قابلة للإصلاح إلا بالقتل. وهكذا أبيد السكان دون أن تتشكل عقدة من أي نوع، وعلينا في المقابل أن نرى كيف أن اضطهاد اليهود في الحرب العالمية الثانية قد تحول إلى مركب نفسي مزمن بسبب أن هؤلاء في حقيقة الأمر مواطنون أوروبيون بيض وينتسبون إلى نفس الإرث الديني واللغوي والحضاري وهو ما يجعل معاناتهم قابلة للتقمص والاستدخال والتماهي الذي يجعل الفرد الأوروبي يصاب بالذعر لأن ما جرى في هذه الحال مع اليهود يمكن أن يجري معه بالذات. وهو بطبيعة الحال ما يجعلنا نحن العرب نحس بالذعر واليأس وفقدان الشعور بالقيمة الذاتية لأننا نقدر أن ما يجري في غزة وما جرى في لبنان وما جرى مثله وأشد هولاً منه في العراق مرشح لأن يتكرر في حالة كل عربي. وانطلاقاً من الأساس نفسه نظن أن أوروبا الرسمية والشعبية لا تفكر في «لاوعيها الجمعي» فينا بوصفنا كائنات إنسانية كاملة أو أن إنسانيتنا على الأقل ليست عين الإنسانية الأوروبية. إنها بمعنى ما شيء بين البشر والحيوانات، تجعل ما يجري لنا قابلاً للتصور لأننا لا نعاني مثلما يعانون. وربما أن روحنا ليست على القدر نفسه من الحساسية، وهو ما يذكرنا بمعادلة جيفرسون المذكورة أعلاه. لا بد أن أوروبا والولايات المتحدة الرسميتان غير قادرتين على التخلي عن العنصرية فلسفة وممارسة حتى إشعار آخر. وعلينا أن نتذكر بينما كانت أوروبا الحرة والولايات المتحدة تنعيان على هتلر عنصريته ونازيته البغيضة التي حللت قتل الآخرين لأنهم يعوقون مسيرة الجنس الجرماني المرشح لولادة الإنسان الأعلى، فإنها إنما كانت تحتج على تطرف هتلر وإقصائه البيض الآخرين فحسب. أما فيما يتعلق بباقي البشر فقد ظلت الفلسفة والممارسة البيضاء في أوروبا والولايات المتحدة تعامل السود والصينيين والعرب والأميركان اللاتين وغيرهم مما لا يتسع المجال لسرده هنا، بوصفهم كائنات غير إنسانية إذا اخترنا تعريفاً راقياً للإنسانية كما يمكن استنباطه من واقع البيض الأنجلوساكسون أو الأوروبيين بعامة. لأسفنا الشديد فإن هذه النظرة تنطبق على نظرة هؤلاء للجميع بمن في ذلك الأصدقاء اليابانيون الذين استخدموا حقلاً للتجارب النووية في الحرب العالمية الثانية، ولا يستثنى من النظرة الدونية الموجهة لما هو غير أبيض أي أحد في العالم. * كاتب وأستاذ في العلوم السياسية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©