الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحكمة أم الفضائل

13 مايو 2010 19:46
لعل من أعجب ما قرأت في باب الحكمة أنه كانت هناك حجرة صغيرة تعلو سطح أحد المنازل عاشت فيها أرملة فقيرة مع طفلها الصغير حياة متواضعة في ظروف صعبة، إلا أن هذه الأسرة الصغيرة، ليس أمامها إلا أن ترضى بقدرها. لكن أكثر ما كان يزعج الأم هو المطر في فصل الشتاء، وعلة ذلك أن الغرفة تحيطها أربعة جدران ولها باب خشبي غير أنه لا سقف لها. وقد مر على الطفل أربع سنوات منذ ولادته لم تتعرض المدينة خلالها إلا لرزاز قليل من المطر، وذات يوم تراكمت الغيوم وامتلأت السماء بالسحب الكثيفة التي تنذر بمطر غزير، ومع ساعات الليل الأولى انهمر المطر على المدينة مصحوباً بأصوات من الرعد، وسياط من البرق فاختبأ الجميع في منازلهم. أما الأرملة والطفل، فكان عليهما مواجهة قدرهما، نظر الطفل إلى أمه نظرة حائرة واندسّ في حضنها، ولكن جسد الأم والابن وثيابهما ابتلا بماء السماء المنهمر. أسرعت الأم إلى باب الغرفة فخلعته ووضعته مائلاً على أحد الجدران، وخبّأت طفلها خلف الباب لتحجب عنه سيول الأمطار. فنظر الطفل إلى أمه في سعادة بريئة وقد كست وجهه ابتسامة الرضا وقال لأمه: ترى ماذا يفعل الفقراء الذين ليس عندهم باب حين ينزل المطر عليهم؟! ولا تعليق على ذلك، إلا أنها حكمة الصبيان التي يجريها الله تعالى على ألسنتهم من خلال فطرة نقية، ليأخذ منها الكبار دروس العمر وعِبر الحياة، ويترجم عنها هذا الموقف بأن يقول الإنسان لنفسه دائماً: “أرض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس”. والحكمة في معاجم اللغة قد أُخذت من لفظ “الحَكَمَة”، وهي اسم للجام الذي يكون في فم الفرس يمسك بطرفه راكبه ليتحكم به ويسيطر عليه، وعلاقة ذلك بالإنسان أن الحكمة هي السبيل التي يسيطر بها الإنسان على عقله، فلا يشرد في الفكر ولا يذل في القول. وتُعَرف الحكمة عند العلماء بأنها “وقوع الفعل على حسب ما سبق في العلم”، ومعنى ذلك أن الحكمة أداة تُبَصر الإنسان بعواقب الأمور، وتكسبه نظرة ثاقبة حتى يقع فعله على حسب ما خطط له في علمه. من أجل ذلك كان للحكمة موقعها في الدين والفكر الفلسفي، أما الدين فقد غلب على أحكامه وتعاليمه اعتبار الحكمة هبة ومنحة من الحق سبحانه وتعالى يختص بها من يشاء من عباده، ومن ثم يعد من أصاب من فضل الله غزارة في العلم وإصابة في الحكم، وحنكة في التجارب، وتوفيقاً في العمل، قد هدى بتوفيق الله سبحانه إلى الحكمة ومسالكها، وجماع الخير وسائر صنوفه، يترجم عن ذلك آيات كثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى منها قوله سبحانه: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا” البقرة 269. وقوله سبحانه “وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ” ص 20. وعن اقتران الملك بالعلم والحكمة يقول سبحانه “وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء” البقرة 251. من أجل ذلك كانت الحكمة في مفهوم الدين من أجل النعم التي يجب على الإنسان أن يشكر ربه عليها، يقول سبحانه “وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ” لقمان 12. كذلك نرى القرآن الكريم يرشدنا إلى أن هبة الحق سبحانه للحكمة لمن يشاء من عباده، ليس على سبيل التساوي في الدرجة والعلم والمعرفة، بل هناك تفاوت في درجات الحكمة، حيث لم تمنع حكمة داود عليه السلام أن يتفوق ابنه عليه في الفهم وإصابة الغرض في الحكم، يقول سبحانه “وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا” الأنبياء 78- 79. ولعظم الحكمة وأهميتها في تكوين شخصية الفرد كانت سبباً من أسباب غبطة صاحبها، حتى يتمنى كل إنسان أن تكون لديه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن ابن مسعود “لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالاً فسلط على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها”. ولا غرابة في ذلك فالحكمة صفة من صفات الحق سبحانه، وصف بها ذاته العلية في غير موضع من كتابه، يقول سبحانه وتعالى “وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ” الأنعام 18. ويقول تعالى في موضع آخر “إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا” النساء 24. وليس أشرف للإنسان من أن يتخلق بأخلاق الله عز وجل. أما الفكر الفلسفي، فقد اعتبر كبار فلاسفة الأخلاق أن الحكمة أم الفضائل وأساسها، وملاك القيم الإنسانية وجماعها، فقد نظر إليها سقراط على أنها أسمى الفضائل وأجلها، منها تصدر وإليها تعود. فالحكمة لدى الإنسان صفة لها شأنها ومنزلتها في الدين والفكر والفلسفة، وهي الطريق الأمثل لتربية الصبيان وتنشئتهم، فإذا ما شب طفل على محبتها وتحصيلها يضمن لنفسه تبصراً بالعواقب، وتدبراً في الأمور، وذكراً حسناً بين الناس، ونبوغاً بين الأقران، ولا غرابة في ذلك فللحكمة أثر بعيد المدى في ضبط سلوك الأفراد والمجتمعات، بها تتجنب مزالق الأقدام وتتوقى الأخطار في خاصة الحياة وعامتها، وكما قيل ما كانت الحكمة شأن فرد إلا أصاب النجاح والفلاح، ولا كانت خلق أمة إلا دان لها العالم، وسار مجدها سير الشمس في الآفاق، وكيف لا والحكمة تقتضي من الإنسان قبل كل عمل تبصراً بالأمور من جميع نواحيها، وحذراً وحيطة قبل الاندفاع فيها، فيأمن بذلك شرورها، ويحصل ثمراتها يانعة تسُر الناظرين. ومن قبل ومن بعد “ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©