السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عمري ناقص من دون أمي

20 مارس 2012
لم تنس يوماً سر عذابها، فضلت الصمت بدل البوح بما في دفين نفسها، تجاوزت خدمة أولادها لتتكفل بالسعي وراء رضا أبي وأترابه، وأنا صغيرة لم أفهم سر احتراق جفونها من فرط سكب الدموع، شهيقها كان يتجاوز عتبة غرفتها حين تسلم جسدها للراحة، وظلت هكذا ترعانا بفيض حبها وشغفها الذي لم ترْوِه أبداً بعناقنا العلني، تضمّنا لصدرها في غياب عمتنا التي كانت تنافسها على أمومتها. لم أُقدر حينها اشتياقها الدائم لنا، حين كانت تنفرد بنا، تعانقنا تداعب خصلات شعرنا، وتغدق بما جادت به أياديها من سكاكر وحلويات كانت تخفيها، وأحياناً كانت تمتد يد غيرها لتخفف شغبنا الطفولي، فكانت تجهش باكية دون أن تنطق بكلمة، ولا برد اعتبارنا. يكاد عمري بجانبها لا يتجاوز سنوات إدراكي، بعد فترة من نضجي غابت عن عيناي، رحلت بحثاً عن الدراسة في بلد آخر، وظلت المسافات الشاسعة بيننا لا تقطعها إلا العطلة الصيفية، حيث نلتقي مرة أو مرتين في ثلاث سنوات، ومدة الزيارة لم تكن تتجاوز في أحسن الأحوال عشرين يوماً، حين لُقياها كنت أمرغ وجهي بين كفيها، أقبلها، أجثو على قدميها، أنام في حضنها، وعند مغادرتها كنت أهرب من عيونها، أحتمي بصبري وأمني النفس باللقاء من جديد. وعندما رحلتُ لعالم الأمومة، لم أستطع الإفلات من مراحل الصبا، سراديب نفسي يصعب إضاءتها، أرجع بذاكرتي للماضي فلا أجد تقاسيم وجهها، أفتقد أجزاء من طفولتي، تغيب تفاصيل من مراهقتي، فبات يلفني الخوف على فلذات كبدي، وبت أصب رحيق حبي في صدورهم، خوفي زائد عليهم، شوقي دائم لهم، وبات يطاردني هاجس الغياب عن عيونهم، لا أعرف سر نفسي. وأنا اليوم في عيد الأمهات، أقبل رأسها وجبينها وأرجلها، وأرسل لها كل قبلاتي التي خبأتها لها طوال عمري، لكن هل ذلك يكفي، دون أن ألامس خدها، دون أن أبكي في حضنها من فرط شوقي، دون أن أعرف احتياجاتها، حنينها سر بوحها الذي خبأته طوال سنوات؟ ألا تكتفي السنين ببعدنا لتزيدنا فراقاً وشوقاً أبديين؟ كيف أحسب عمري إذاً وأنا بعيدة عنها؟ وأنا اليوم أم عرفت حرقة الأمومة وشوقها، وعرفت سر ابتهال أمي، وتوجهها لله خشية وطمعاً في أن يحفظ ذريتها ويصلح حالهم، أتوق لأمي كل يوم حين وصلت لنقطة احتراقها، فلا سبب يبكي الأم أكثر من فراق أبنائها، ففي كل يوم للأم حكاية، تنسج خطوطها بكلمات الحب والعطف واللهفة، تنشطر أنصافاً، تسير على أشواك الحياة تدمي أقدامها ولكنها لا تتراجع. فأنا اليوم أم أخطو فوق أيام لا أحسبها من عمري، أنتظر القادمين من بعيد، إلى حين ذلك أنام في وجعي، أتقلب على نار شوقي الدفين، أحضن أولادي وأحلم بيوم لقاء دائم لأسهر الليالي أحادث أمي، أعوض كل سنين عمري الضائعة بعيداً عنها، وأقسم أنني لن أملّ من خدمتها والبر بسنها، هكذا قالت فاطمة أم ريم وآدم. lakbira.tounsi@admedia.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©