الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خريطة الثقافة

خريطة الثقافة
20 مارس 2013 21:12
يقترح (بينالي الشارقة 11) خريطة ثقافية جديدة تستلهم وجودها من علاقة الفن بالمدينة في بعدها البصري المعماري، إلى جانب أبعادها الأخرى التاريخية والاجتماعية، وأيضاً تلك الأبعاد المرتبطة بما يدور في كنف الحياة من أحداث يومية وتحولات جذرية تتقاطع مع الراهن السياسي العالمي، وتلتقط مادة وجودها من طموحات الإنسان العصري وتوقه لخلق مناخات مغايرة وجديدة تؤهله للعيش كيفما يشاء، وكيفما ينبغي للعيش أن يكون ويتشكل متجاوزاً في نهوضه كافة مظاهر النمطية السالفة ومبتكراً كذلك لآفاقه ومقدرات كينونته المحلوم بتملكها وقنصها في لحظات استثنائية وشيكة التكون. استفادت مقيمة البينالي (يوكو هاسيكاوا) من الخرائط المكانية للشارقة التراثية، في إقامة وتعزيز فيض من حوارات فنية معاصرة تحمل أفكارها وفلسفاتها الناهضة، ويُسهم بخلقها إلى جانب الجمهور المتفاعل مائة من الفنانين والمعماريين والموسيقيين المعبرين عن ثقافات ومعارف متعددة يتضمنها شعار البينالي (نهوض.. نحو خريطة ثقافية جديدة)، وتعكسها أعمال فنية تصطبغ بالمعاصرة وتقوم على إعمال الصوت والصورة والحركة والضوء في الوصول للمبتغيات والمآلات الشاخصة خلال حجرات الفيديو المظلمة، وقاعات العرض، والممرات، حيث تتوافق أمكنة العروض مع طموح هاسيكاوا التي قالت في مقدمتها حول البينالي: “إن الشارقة مكان طبيعي ومشيد في الوقت نفسه. إنها تحتضن الماضي وتقف على الحاضر، وتتأمل مسيرتها المتواصلة نحو المستقبل. وبينما أستمد الإلهام من حيويتها أريد أن أقدم لها بينالياً يسائل أنواع الممارسات الممكنة عبر الفن وأنماط المعرفة التي يمكن تقديمها. إنني أتصور بينالياً يخطو باتجاه مناطق لم تكتشف من قبل، ويحرض الفنانين والمعماريين والمصممين والعلماء والمهندسين لخوض التجارب بممارسات جديدة”. نزعة معمارية وربما تفسر لنا تلك الكلمات لمقيمة (بينالي الشارقة 11) نزوعها نحو استلهام مفهوم الساحة أو الفناء من متون العمائر الإسلامية لتقترحه ثيمة للبينالي، وهو ما استدعى في المقابل إنشاء العديد من واحات النخيل والنوافير والأعمال التركيبية المتسامقة، لتتواجد ضمن ساحات الشارقة وأفنية بيوتها التراثية الحافلة بفضاءات مناسبة إلى حد كبير أهلتها لاحتضان الكثير من تلك الأعمال التركيبية صرحية الطابع، والمؤلفة غالباً من قطاعات المعدن والأقمشة والأكريليك الشفاف، إلى جانب الأخشاب، ودون ذلك من مواد وخامات متوافقة. أما عن جُل المعروضات، فقد جاءت مواكبة لذهنية العقل البشري الآن، وقدراته الفائقة والمتقدة على الإفادة من وسائط ووسائل التواصل الكثيفة الانتشار، والمتاحة كذلك من تكنولوجيات سمع بصرية باتت في متناول المستهلكين حال تجوالهم بمراكز التسوق المنتشرة في مدن وبلدان العالم، وهي وسائط يستدعيها الفنانون، وغيرهم من المشاركين، لتوظيفها فنياً في سياقات غير اعتيادية تستفيد من إمكاناتها اللامحدودة القادرة على منح فرص حقيقية تعمل على تشكل المخيلاتي وطرحه بصور مادية، ليصير في متناول الحواس والاستشعارات البشرية ضمن مستويات تلقيها المتعددة والمتفاوتة. وهي معروضات تمتاز بتنوعها النسبي في طرائق التنفيذ ووسائل الطرح إلى جانب محمولات الأفكار والفلسفات والمضامين، وخلالها نجد الغلبة والظهور الأكبر من نصيب أعمال الفيديو والأعمال المركبة والأداء على حساب بقية الأجناس الفنية الأخرى الآخذة في التواري، وهو ما يمنح الفن بعده المعاصر المتدثر بخامات ومعالجات آنية الهيئة والاستعمال والوجود، بما يعضد العلاقات القائمة بين الإنسان وتحولات الزمن، كما هو الحال بين الإنسان وتفاعله مع المعطى المكاني، وكذلك الأمر فيما يحدث من تواترات حادثة بين كل من الفكرة والفعل المرتبط. إن تشكل الفكرة وتجسيدها يتطلب من الفنان جهداً بحثياً مضنياً، وربما يستدعي وجود خبرات حياتية دينامية تستطيع تحريض العقل في سبيله لقيادة الأداء العملي، سواء كان ذلك باستخدام تقنيات رقمية تتعلق بمعالجة الصورة ثابتة كانت أو متحركة، عبر فهم حقيقي للألوان والإضاءة والتأثيرات البصرية والمونتاج، إلى غير ذلك من الحلول المعالجاتية المتعلقة ببناء الصورة طبقاً لمادة وموضوع وفكرة العرض. وربما يلجأ الفنان أدائياً إلى موجودات البيئة والوسط المحيط، فيلتقط من بينها ما يسهم في إقامة عمله وتشكيل معنى موضوعته الفنية المبتغاة. وهذا ما نستطيع أن نتبينه خلال مجموعة المعروضات الكثيرة المنتشرة في منطقة قلب الشارقة وشارع البنوك وساحة التراث، وخلال صالات العرض الجديدة بالمريجة، والتي يُظهر البعض منها تجاوباً كبيراً مع اتساع الفضاءات المكانية، خاصة تلك الأعمال الصرحية والأعمال التركيبية المجهزة والأعمال الأخرى ذات الطبيعة المكانية، التي تنتشر في فضاءات الداخل ببيت السركال وساحتي الخط والتراث، وخلال باحات البيوت القديمة، وضمن صالات عرض مؤسسة الشارقة للفنون، التي افتتحت في اليوم الأول لانطلاق البينالي. من الصين إلى المغرب أما عن أعمال (بينالي الشارقة 11) فيبرز من بينها ما يطرحه الفنان الصيني (وي ليو) المولود في العام 1972 تحت عنوانين مقترحين هما “مجرد غلطة” و”أراضي غريبة”، حيث يتساءل الفنان حول قدراتنا الإنسانية في الحفاظ على الاستقلالية بما يضيف لحيواتنا قيماً جديدة، فيذهب في مساره الفني لتقديم سلسلة من أعمال تركيبية تتألف من قطاعات خشبية وروابط معدنية تستوحي المكون المعماري الممزوج بخيال التركيب وابتكارية تضفير المسطحات والانتقال بها رأسياً نحو بلوغ قمم شاهقة ترتفع في شموخ حتى حدود الطابق الأول ذلك الذي يقارب ارتفاعه الأربعة أمتار، وعلى الرغم من ذلك الجهد البنائي المدهش نجد الفنان يقر بأن تلك الأعمال في تصوره هي غير ذات مغزى، ما يدفعه لترك مسألة التأويل للمشاهد نفسه، ويلخص ذلك بقوله: “ليس لأعمالي مغزى محدد، فمغزاها متروك للجمهور لتحديده. لكنها تزيل التراب من على سطح الحقيقة فتتجلى رغماً عنها.. إنني أحافظ على الروح الأبية لأعمالي. فأعمالي تحاول أن تقطع صلاتها بالمغزى العملي والمعرفة الذاتية. وتكاد أعمالي تتحول إلى نقيضها وهادمها، وتلك هي نتيجة إصباغ الواقع بصبغة منطقية. آمل أن يتمكن المشاهدون من استشعار قوة ووجود الحقيقة من خلال تلك الأجساد المضادة، وأتمنى أن يكون ذلك مصدراً لإمكانات جديدة”. بينما يقدم الثنائي المعماري الياباني (كازويو سيجيما) و(ريو ناشيزاوا) تصوراً إيهامياً لحيز كروي الوحدات يتشكل من الأكريليك الشفاف والألمونيوم والصلب، ليمنح الحيز المخصص للعرض وهو فضاء ساحة الخط بالشارقة القديمة تكوينات فقاعية ضخمة الحجم وشفافة تتوزع في المكان، فيما تنتثر خلالها مجموعة من المقاعد المعدنية المخصصة لجلوس الجمهور عبر مسارات بينية ومساحات تتخلل الأجساد الخارجية لتلك الفقاعات المتجاورة، وفقاً لعلاقات تسمح كذلك للجمهور بالتجول الحر عبرها، ما يدعم نشوء حوار حركي تفاعلي يمتاز بهيئة عصرية قادرة على الإدهاش. من بين الأعمال التركيبية البارزة أيضاً ما يطرحه البرازيلي (إرنستو نيتو) في ساحة التراث بالشارقة القديمة، تحت عنوان “بينما تفرقنا الثقافة، فإن الطبيعة تقربنا”، وهو عمل مستلهم من البيئة الصحراوية، حيث شرع الفنان في تصوره إبان زيارة سابقة لصحراء الشارقة، وكان ذلك نتيجة لرؤيته قبة في أحد أحلامه الحادثة جراء تلك الزيارة العابرة، وما شاهده خلالها من مفردات حياتية، وفي هذا العمل يجمع نيتو بين المواد العادية والعضوية، بحيث يستفز الأحاسيس ويدعو الجمهور للتفاعل مع بعضهم البعض ومع العمل الذي تتداخل في إنتاجه خامات ومواد عدة، من بينها نسيج من حبال البوليستر وجليد وأحجار وعشب وصلصال، إضافة لمياه وأخشاب وطين وألياف زجاجية. فيما يقدم الفنان محمد علي فاضلابي عمله في الرسم التركيبي والموسوم بآلة التكهنات في السبيل للحفاظ على جذوره الثقافية الإفريقية، فيطرح روايات بصرية عن سير القديسين والأبطال الأسطوريين، ما يتيح للمشاهد تتبع إشارات منقوشة وصور منقولة عن الكنيسة الأثيوبية وغير ذلك من منتوجات فنية كان الفنان قد عثر عليها سالفاً في أحد صالونات الحلاقة الإفريقية، لتبرز عبر هذا العمل مجموعة من أسئلة معمقة وجذرية حول الأعراف الغربية للفن، ومعنى أوروبا اليوم في ظل الانقسام بين ما هو مصنف كغربي أو لا غربي. بينما ترتكز الفنانة السعودية سارة أبو عبدالله في عملها على هيكل لسيارة خربة ومهشمة قامت الفنانة بدهانها بلون وردي حالم، مع توثيق ذلك فيلمياً لتترافق المادة الفيلمية مع هيكل السيارة القابعة في إحدى قاعات العرض المخصصة للبينالي بشارع البنوك في مقابل حصن الشارقة، في سبيلها لتقديم تصور اجتماعي عاكس لواقع تلك المرأة ورغبتها الشغوفة بقيادة السيارة. وفي السياق الاجتماعي ذاته يطرح الفنان المصري الشاب مجدي مصطفى أحد الفنانين الحائزين جوائز البينالي موضوعه التركيبي “خلايا صوتية” متناولاً تصوره الخاص عن أيام الجمع في حي “أرض اللوا” الشعبي بالقاهرة، وفيه تتداخل أصوات الآلات المنزلية مع أصوات الخطباء الصادرة عن خمسين مذياعاً، في رمزية واضحة تهتم بتناول القيم الاجتماعية والثقافية الدراجة مثل التحولات التكنولوجية وطبيعة العيش خلف جدران البيت. أما الفنانة البرازيلية (سارة رامو)، فهي تطرح عملها المعنون بحديقة من المنطقة الحرة مرتكزة على كثير من العناصر اليومية الحياتية التي تنجح في نقلها من السياق الأصلي لتعيد ترتيبها عبر نتاجات فيديوية الطابع وصور وفن تصويري ومنحوتات معاصرة ومنشآت. فقد أمكن لرامو تأليف عملها من وحدات وعناصر عثرت عليها من مخازن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة لتعيدها إلى الحياة، اعتماداً على توزيع وترتيب مغاير لهذه الأشياء التي ترد في التصور الفني على هيئة خريطة تشير تفاصيلها إلى تاريخ المؤسسة التي كانت قد احتفظت بها في وقت سابق. وتوظف الفنانة المغربية الأصل لطيفة إيش أخش الطوب والصبغة متفاعلة مع القضايا السياسية والثقافية، من خلال الأشياء والصور والنصوص، التي تطرح الأسئلة حول المعنى والمظهر في موطنها الأصلي صاحب الإلهام والمنبع الرئيسي لموضوع هذا العمل القائم على توظيف بعض من الطبعات اليدوية والعلامات الموضوعة على الجدران بالطين الأحمر والمستخدمة ضمن الطقوس السحرية القائمة في مناطق وأرجاء من المغرب حتى اليوم، وهو ما دفع الفنانة لاستلهام إرث الأسلاف ذاك، ومن ثم عملت على إعادة طرحه في سياق معاصر يحاكي فكرة تلطيخ الجدران، حيث أقدمت الفنانة على محاكاة ذلك الأمر نفسه بعد تحطيمها للطوب ونشره على الأرض وتلطيخ جدران حيز العرض بلون صبغة الطوب في رمزية للدماء. كما تستلهم الفنانة هالة القوصي تاريخ مصر المعاصر لتقدمه عبر عملها الجداري “غرفة الأساطير والخرافات” والذي كانت الفنانة قد نالت به جائزة أبراج كابيتال للفنون في العام 2010، وهو يصنف ضمن الفنون الدعائية التذكارية، إلى جانب ما يحفل به العمل من روح استشرافية لما حدث بالفعل في ميدان التحرير إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير، على الرغم من أن الفنانة كانت قد انتهت من تنفيذ وعرض العمل قبل اندلاع ثورة مصر بعام تقريباً. وتقيم الفنانة الهندية (شيلبا جوبتا) سبيلها الفني معتمدة على أسماء البعض من المؤلفين المجهولين وأصحاب الأسماء المستعارة الذين كانوا قد أخفوا شخصياتهم الحقيقية، ربما عن قصد ناجم عن ضغوط سياسية أو اجتماعية ما، وهو ما دفعها لبناء مكتبة رمزية تتضمن مائة كتاب مصنعة جميعها من الصلب المقاوم للصدأ والصلب المطاوع أو اللين، والتي تتوزع على أرفف متوازية لتشكل متن عملها المنعوت بـ “شخص آخر”. أما المكسيكي (غابرييل أوروزكو) فقد أمكن له مراكمة الرمل على الطاولة وإنتاج تكوين هرمي لافت جراء ذلك، بما يقر بأن التنظيم الذاتي يجسد الطريقة التي تنظم بها المدخلات الفوضوية نفسها بطريقة منظمة، كما قام الفنان بإرفاق سلسلة من الرسوم التحليلية المفكرة في شأن التكوين الهرمي وبنيته المحرضة على إقامة البحث البصري والوصول إلى قناعات ونتائج غير متوقعة. ومن الإمارات قدم ناصر نصرالله عمله محول القصص في سياق يجمع بين التحضيرات الميدانية المسبقة لشخوص من جنسيات وأعمار مختلفة شاركت الفنان في تزويده بقصص متنوعة، عكف نصرالله على التوصل لمضامينها والتفاعل معها ومجاراتها فنياً لصالح قيامه بإنتاج بانوراما مؤلفة من سلسلة رسوم مرتبطة تتحرى تلك الأفكار والموضوعات الغامضة والمجهولة نسبياً إذا ما قيست بالطريقة التي اتبعها هؤلاء الشخوص الذين شاركوا في تدوين قصصهم داخل محول القصص، دون أن يبصروا بأعينهم ما قاموا بكتابته داخل الجهاز التفاعلي المصنوع من الأخشاب والمزود بمؤثر موسيقي يحفز المشاركين على التخيل والتأليف.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©