الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفكاهة والعقل سمتا التمدن

الفكاهة والعقل سمتا التمدن
20 مارس 2013 21:19
الكتاب القديم قد يكون أكثر إفادة من كتاب جديد، وهذا ما نلمسه في كتاب “المدنية” الذي صدرت طبعة جديدة منه مؤخرا، صدر الكتاب لأول مرة في لندن عام 1927 ووضعه “كلايف بل” وكان قد شرع في إعداده فور انتهاء الحرب العالمية الأولى، وأهداه إلى صديقته الكاتبة “فرجينيا وولف” وجاء الإهداء في عدة صفحات يشرح فيها قصة الكتاب، ثم ترجم إلى اللغة العربية عام 1959 ونسى أمره من يومها، واعتبر كتابا ثقافيا شديد التخصص والتعقيد، لكنه اليوم يبدو امامنا في قلب المشكلات والهموم التي نعانيها في مصر، وفي كل المجتمعات العربية تقريبا. يبحث الكتاب في معنى “المدنيّة”، وهو هنا لا يميز بين مدنيّة المجتمع ومدنيّة الدولة، وكان دافع المؤلف إلى هذا البحث، انه حين نشبت الحرب العالمية الأولى، فإن تشرشل ومعه القادة والزعماء البريطانيون، اهابوا بالشباب الانخراط في الحرب والقتال دفاعاً عن المدنيّة، وانضم الحلفاء إلى بريطانيا في هذه الحرب دفاعا عن “المدنيّة” كانت بريطانيا ومعها فرنسا وروسيا القيصرية والولايات المتحدة جميعا ضد المانيا، باعتبارها تهديدا للمدنيّة، ومن ثم فهي ليست دولة مدنيّة. وهو يستعمل “المدنيّة” هنا بأنها ضد البربرية والبدائية والتوحش وليست كما تقال الآن في عالمنا العربي بأنها ضد الدولة العسكرية من جانب والدينية من جانب آخر. مفاهيم وتعريفات يناقش “كلايف بل” المفاهيم زو التعريفات السائدة للمدنيّة، ويصل إلى ان معظمها غير دقيق بالمرة، من ذلك القول السائد إن احترام حقوق الملكية الخاصة هو من خصائص المجتمعات المتمدينة وحدها، وصحيح أن الحيوان ليس لديه مثل هذا الاحترام لحق الملكية، ولكن هناك مفكرين كباراً وبعض الأغنياء في المجتمعات المتحدثة، لا يحترمون هذا الحق ولا يؤمنون به، المفكرون يذهبون إلى شيوع الملكية أو مشاعيتها، أما الأغنياء فإنهم يعتدون في بعض الحالات على الملكية الخاصة للفقراء وللضعفاء، وقد وجد بعض علماء الانتروبولوجيا ان هناك قبائل توصف بالتوحش والبدائية لدى أفرادها احترام للملكية الخاصة بما يفوق احترامها لدى “قاض انجليزي” وقد وجد أن جريمة السرقة لم تكن معروفة لدى الهنود الحمر في أميركا الشمالية، وقيل إن الحياة المدنية هي التي يؤمن فيها الافراد بالله والحياة الآخرة، لكن لدى كثير من القبائل المتوحشة اعتقاد بوجود إله واحد، وأن هناك حسابا، أي ثوابا وعقابا في العالم الآخر على كل ما يقوم به الإنسان في حياته. وانتشر في الأوساط الراقية، الأوروبية ان مقياس التمدين والمدنية لدى المجتمعات هو احترام المرأة وارتفاع مكانتها الاجتماعية - لم يكن هناك وقتها دور سياسي لها - ولكن هذا يخالف الواقع ففي القبائل المتوحشة تتمتع المرأة بمكانة تفوق تلك التي تتمتع بها لدى ارسطو وافلاطون، كان ارسطو يتساءل هل للمرأة نفس - أي روح وعقل - مثل الرجل؟ وفي اثينا كانت مكانة المرأة مع العبيد، على هذا النحو يناقش “المؤلف” المفاهيم السائدة حول “المدنيّة” وينتهي إلى نقضها او التشكيك فيها جميعا، باعتبار أنها خصائص إنسانية عامة يمكن ان توجد في أي مجتمع بغض النظر عما إذا كان بدائيا او بربريا، متوحشا أو متمدينا. على هذا النحو يفند المؤلف المفاهيم السائدة في الثقافة الغربية ليستبدل بها فهما آخر لديه، يستخلصه من خلال اهم نماذج للمجتمعات المتمدينة في التاريخ وهي عنده ثلاثة، اثينا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، او ما يعرف بالمعجزة الإغريقية في التاريخ، وهناك نموذج إيطاليا في عصر النهضة ثم فرنسا في القرن الثامن عشر حتى قيام الثورة الفرنسية، ويبحث عما هو مشترك بينها وينتهي إلى أنها مجتمعات تتميز بالإحساس بالقيم العليا لدى الإنسان وأنها تحترم العقل والإنتاج العقلي، الإحساس بالقيم عنده يعني أن يميز الإنسان بين الغايات والوسائل وان يؤمن الانسان بالفردية، وحرية الفرد في إعلان أفكاره وآرائه بلا خوف وبلا محاذير، وغير ذلك يتحول البشر إلى مجرد قطيع، يساقون أو يقادون من قبل زعيم، مثل هتلر او خرافات تحركهم وتدفعهم إلى أمور قد يكون فيها خطر عليهم. الفردية والعالمية الإيمان بالفردية يعني فورا الإيمان بالعالمية،، أي يصبح الإنسان مواطنا عالميا، وذلك يعني عدم التمترس خلف الوطنية الضيقة، لا يعني هذا بالضرورة إنكار الوطنية ومثلا كان أهل اثينا يحبون مدينتهم، وكانوا وطنيين تماما، ولكنهم كانوا عالميين بنفس الدرجة، وقد استطاع الاثينون أو اليونانيون ان يوفقوا ببراعة بين الوطنية والعالمية، وبالتأكيد كان في ذهن الكاتب نموذج الوطنية الألمانية الذي قاد الى الحرب العالمية الاولى وبعد ذلك الحرب العالمية الثانية. ومن طرائف ما يضعه المؤلف من سمات الإنسان المدني أي يكون لديه القدرة على الفكاهة وفي التحليل الأخير تعني الفكاهة رقيا في الشعور بالقيم، الانسان او الكائن الهمجي أو البدائي لا يمكنه إدراك معنى وروح الفكاهة، ولا يعني ذلك التسطيح او أخذ الأمور بخفة، بل القدرة على رؤية الجانب الفكاهي في القضايا الجادة والعميقة. إلى جوار الفكاهة والسرور هناك قدرة الإنسان على التسامح ، ذلك يعني التمييز بين الوسائل والغايات وإدراك أن الفرد في الحياة يمكن ان يرتكب اخطاء، والخطأ غير الجريمة، عليه الاعتذار عنه والتسامح بشأنه، والمجتمعات المتوحشة هي التي تفتقد القدرة على التسامح. ويتحدث “بل” باستفاضة عما يسميه تتويج العقل، لأن الإيمان بالخرافة يجعل الانسان غير قادر على إدراك الواقع وفهمه، والعقل يمكنه تفحص غرائز الانسان وعقلنتها، وبعض هذه الغرائز تأخذ صاحبها إلى التوحش والهمجية، يقول “إذا أردتم مجتمعا متمدنا، فلابد ان يتحرر العقل فيعالج كيفما شاء كل ما يمر بخاطره، ولابد أن يكون حرا في اختيار مصطلحاته وعباراته وصوره وان يتعرض لكل أمر بأي أسلوب يريده” ويذهب إلى أن العقل الذي يمنع من الخوض في مناطق بعينها يصبح عقلاً مشوها او أعرج، يتحرك بصعوبة ولا ينطلق، هو يدرك جيدا أن طريق العقل ليس دائما ممهدا ولا سهلا في أي مجتمع، ولكن لابد أن نعمل على تتويج العقل سيدا في هذه الحياة. الطريف أن المؤلف البريطاني طبق المعايير التي ارتضاها للتمدين على بريطانيا بلده، وانتهى إلى أنها ليست بلدا متمدينا، وكي يتحقق التمدين لابد للإنسان من الإحساس بالأمان أي لا يكون جائعا ولا خائفا، لكن ماذا لو طبقنا تلك المعايير على مجتمعاتنا نحن وعلينا كأفراد؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©