الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بيت من غياب

بيت من غياب
20 مارس 2013 21:20
حياة أنتوني شديد، مراسل “نيويورك تايمز” في الشرق الأوسط والحائز جائزة “بوليتزر” للإبداع الفني مرتين، تشبه حكاية بلدته جزين التي أضحت تاريخا من الرحيل بدأه الأجداد في العام 1894 وما زال مفتوحاً على حلم العودة الذي يرجع في الأغلب موضباً في صناديق موت مزدحمة بماض غدا مجرد ذكرى تستأهل استعادتها. في حكاية أنتوني شديد، بدا الموت عصياً على المراسل الذي نجا من رصاصة أصابته في الظهر بينما كان يتنشّق هواء فلسطين المشبع برائحة الزيتون، ومن ثمّ أفلت بأعجوبة من بين يدي خاطفيه في ليبيا، فقصد سوريا يتنقّل بين الجبهات في مغامرته التي أرادها الأخيرة قبل أن يحقق حلمه بالرجوع إلى جزين حيث رمم وديعة أجداده “بيت من حجر”، لكنّ القدر غدر به في طريق العودة من سوريا إلى تركيا. جاءه الموت من حيث لم يكن يشاء: نوبة ربو أسقطته عن ظهر الحصان، فسقط معه مفتاح العائلة الأثري المهجور الذي عاد إلى الشغور مجدداً. رحل أنتوني شديد في السادس عشر من فبراير من العام 2010 من دون وداع ولديه: ليلى ومالك، تاركاً في عهدة دار “هوغتون ميفلين هاركورت” كتابه الثاني الذي صدر بعد وفاته، وترجمه أنطوان باسيل عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر في 370 صفحة، وفيه حكايات متسلسلة توثّق التغيرات التي طرأت على الشرق الأوسط منذ بدء هجرة أبناء جديدة مرجعيون، البلدة التي تبعد 10 كلم عن سورية و10 كلم عن فلسطين المحتلة، مروراً بالحروب والمنفى واللهفة الجامحة للمنزل الأوّل. لا يجامل شديد في كتابه الذي أستوحاه من زيارة قام بها إلى منزل جدته المهجور في مرجعيون في العام 2006 بينما كان يغطي العدوان الإسرائيلي على المنطقة. حينها وقع في غرام المكان منطلقاً من قناعة ورثها عن أجداده المهاجرين: “البيت في الشرق الأوسط مقدّس. تسقط الإمبراطوريات وتنقلب الأمم وتتحرك الحدود أو يعاد ترسيمها، وقد تتلاشى الولاءات القديمة إلا أنّ البيت يبقى في النهاية الهوية التي لا تزول”. وفي معرض بحثه عن تلك الهوية، واجه ابن البلدة العائد نظرات الشك والريبة من قبل المقيمين بكثير من التفهّم والصبر محاولاً التقاط أصوات ومشاعر ومعتقدات أبناء بلدته من دون صدام أو تحد. بعضهم نعته بالجنون لأنه ينفق ماله في ترميم منزل يصل عدد ورثته إلى ثلاثة وعشرين من الأنسباء السريعي الغضب، وهناك من رأى فيه الأميركي الغريب، أما هو فأدرك من خلال معايشته للمكان “كيف يمكن لقطعة من الأرض أن تقضي على شعبها، فغالبا ما تعرقل الخلافات بين الورثة عمليات الترميم تاركة المنازل الأثرية مهجورة”، وكيف ينصهر تاريخ عائلته منذ العثمانيين في تاريخ لبنان حيث الحروب منذ الحرب العالمية الأولى مألوفة أكثر من السلام، وحيث الصمت “هو درس الشرق الأوسط الأوّل”. فالهجرة الأولى التي بدأتها عائلات مرجعيون نتجت عن الخوف من الأخذ بالثأر بعد مقتل شيخ درزي، فكان الانتقال إلى أمكنة تمتد من أميركا الجنوبية إلى غرب أفريقيا وأستراليا، إضافة إلى بعض الأحياء في مدينة أوكلاهوما حيث تمركزت عائلة شديد وولد هو في العام 1968. وبالهجرة “أخذت الغبار تعلو فوق بيوت البلدة التي شكّلت في ما مضى بوّابة إلى صيدا عند المتوسّط، وإلى دمشق ما وراء جبل حرمون، وإلى القدس في فلسطين المحتلة، وإلى بعلبك مركز المدينة الرومانية القديمة ما جعلها مركزاً كوزموبوليتياً”. بعين الصحافي الحريص في عدم تحوير الحقائق، يعترف شديد بأنّ عائلته ساهمت في السابق في رفع الصليب وفي تعكير السلام: “لم نشتهر هنا بطبائعنا اللطيفة أو حتى بحساسياتنا البالغة، مع أننا من بين أوّل مسيحيي البلدة. فقد جبنا الشوارع ولعبنا دوراً في تحديد مساراتها، لنستخدمها من ثمّ في الرحيل... فقد اتبعنا تقليد البقاء “مستورين”، ويحصل مع ذلك أن نذرف بعض الدمع عندما نتطلع إلى الوراء”. أما عن طقوس المكان ومرادفاته، كتب: “العاهرة هناك هي مرادف للكهرباء، فعندما تسمع: راحت العاهرة... إجت العاهرة، حتماً هم يقصدون الكهرباء”. أمّا النساء بحسب ما أخبره الرجال، فهنّ يمارسن السحر الأسود بالقهوة لإغواء الرجل المؤهّل للزواج وتقضي العادة ألّا تقدم القهوة أو الشاي إلا بعد الحلويات والفاكهة وخليط الجوز والزبيب.. وتقدم إلى الضيوف أولا. ولا يفوته أن يعلق على صورة جده: “تشبه شواربه مقود الدراجة”، وكذلك على قسمة الأملاك: “تتألف أي ملكية في لبنان من 2400 سهم. لا تسألوا من أين جاء الرقم؟”. في مرجعيون غرس شديد أمام “بيت من حجر” نبتة زيتون اشتراها بأربعة دولارات لأولاده. وفي الولايات المتحدة أودع آخر كتاباته في مذكرات علها تسهم في فهم الغرب لويلات الشرق الأوسط من لبنان إلى العراق إلى مصر إلى سوريا. وآخر ما كتبه بعيد إطلاق سراحه في ليبيا: “لم يراودني أدنى شك في المكان الذي أذهب إليه... مررت بشجرتي الزيتون الأكبر سناً واللتين لا تزالان صامدتين منذ اليوم الذي قالت فيه جدتي: “وداعاً”. وفي وداع الحفيد كتبت الصحافة الأجنبية مودعة مراسلها: “مات كما عاش، مصراً على أن يكون شاهداً على التحوّل الذي يجتاح الشرق الأوسط”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©