بارتوشيفسكي : هناك ما أفعله لبولندا

لا يوحي تصرف الرجل طويل القامة، المتقدم في السن، صاحب العكاز، بأنه واحد من الناجين من مخيم ''أوشفيتز'' النازي، أو من محاربي ''انتفاضة وارسو''، أو معارِض تعرض للسجن في العهد الشيوعي، والحال أن ''فواديسواف بارتوشيفسكي'' هو كل هذا وأكثر، بل إنه أيضا من نوع الرجال الذين يمكن أن يتوقفوا رغم انشغالاتهم الكثيرة للدردشة مع عمال الفندق وجعلهم يضحكون قبل أن يواصلوا طريقهم، غير أنه من المستبعد أن يأتي العالم بالكثير من أمثال ''فواديسواف بارتوشيفسكي''، وذاك أمر جيد ربما بالنظر إلى الأحداث التي مر بها الرجل وشهدها منذ سن مبكرة· يحمل ''بارتوشيفسكي'' -البالغ 86 عاما- تاريخا مثقلا بالأحداث من دون أن يظهر عليه ذلك، وتلك في الواقع موهبة سمحت له -في عصر حيث معظم أبناء جيله إما تقاعدوا منذ فترة طويلة أو ماتوا- بأن يصبح دبلوماسيا ناجحا لبولندا ومصدر سلطة أخلاقية فيها، وفي هذا الصدد يقول ''بارتوشيفسكي'' -في مقابلة معه الأسبوع الماضي-: ''لا أعلم كم سأعيش ولا أحد يعلم أيضا، ولكنني أنوي أن أساعد الحكومة لأطول فترة ممكنة، وفكرتي هي أن أموت أثناء أداء الخدمة، وليس جراء التصلب''· عمل ''فواديسواف بارتوشيفسكي'' مرتين وزيرا لخارجية بلاده، ويعمل حاليا مرة أخرى مستشارا لرئيس الوزراء ''دونالد تاسك''، أما مهمته الخاصة، فتتركز على علاقتين من أكثر علاقات بلاده الخارجية تعقيدا، العلاقات مع ألمانيا وإسرائيل، وقد سبق له أن حصل على تكريم من كلا البلدين مرات عدة اعترافا بجهوده الحثيثة في سبيل النهوض بالعلاقات وتحسينها، وفي هذا الإطار يقول ''أندرزيج جوناث'' -رئيس تحرير صحيفة ''وارسو فويس'' الناطقـــة باللغة الإنجليزية والذي يعرف ''بارتوشيفسكي'' منذ عقود عديدة-: ''إنه واحد من أولئك الأشخاص الفريدين الذين يعملون في كلا الاتجاهين كرمز، وبمساهمة فعالة''، مضيفا: ''إنه معروف كشخص كان دائما قادرا على مواصلة الحوار، حتى أكثر الحوارات تعقيدا، باسم بولندا''· ويصف ''بارتوشيفسكي'' -المفعم بالحركة والمعروف بقهقهته القوية ونكته التي تشبِّه العلاقات الدولية بالمواعدة- نفسه بأنه رجل عادي، لكن العديد من البولنديين يختلفون مع هذا الرأي، ويرون أنه يمثل كنزا وطنيا حيا، ومع ذلك، مازال ''بارتوشيفسكي'' شخصية جذابة يمكن التواصل معها إلى حد كبير، فهو إذا لم يكن والد أُمته، فهو جدها الحكيم وصاحب الروح المرحة في آن واحد· إنه لا يستعمل تاريخه الشخصي كعصا، وإنما كتوطئة لجاذبيته وتفهمه، يقول: ''إنني مع الناس الوسطيين، وليس المتطرفين''، مضيفا: ''لقد عانى الإنسان كثيرا بسبب المتطرفين الذين تحركهم الإيديولوجيا، في أوروبا وفي العالم أجمع''· ولد ''بارتوشيفسكي'' في وارسو عام ،1922 وكان سنه لا يتجاوز 17 عاما عندما شارك في الدفاع الفاشل عن مدينته حين غزا الجيش النازي بولندا في ،1939 وبعد عام على ذلك، كان ''بارتوشيفسكي'' من بين العديد من الشباب البولندي الكاثوليكي الذين تم إيقافهم وإرسالهم إلى ''أوشفيتز'' ومن بين المحظوظين القلائل الذين نجـــوا من الموت، حيث أطلِق سراحه في ،1941 ليذهب للعمل مع المقاومة، فقد ساهم في تأسيس منظمة ''زيجوتا''، أو ''مجلس مساعدة اليهود''، الذي كان يوفر المال وأماكن الاختباء ووثائق الهوية المزورة لليهــــود البولنديين الفاريــــن من الهولوكوست· وبعد الحرب، وقعت بولندا تحت نفوذ الاتحاد السوفييتي، وكوفئ ''بارتوشيفسكي'' عن عمله وجهوده في تحرير بلاده وإنقاذ مواطنيه اليهود بأن تم الإلقاء به وراء القضبان مرة أخرى، وحول هذه المرحلة يحكي ''بارتوشيفسكي'' قائلا: ''حين بلغت 32 عاما، كنت قد أمضيت ثماني سنوات في السجون والمخيمات''، وعندما أفرج عنه في 1954 -وأعيد له الاعتبار من قبل النظام في العام- عمل ''بارتوشيفسكي'' صحفيا في صحيفة كاثوليكية في مدينة ''كراكو''، ثم أستاذا في جامعة ''لوبلين'' الكاثوليكية، وحين جاء موعد الانتخابات في 1989 كان ''بارتوشيفسكي'' قد تجاوز سن التقاعد حيث كان يبلغ عمره 67 عاما، غير أن نشاطه كان قد بدأ للتو، حيث انكب على وظيفته الجديدة كدبلوماسي، فعمل بداية كسفير لبلاده في النمسا، ثم كوزير للخارجية في عهد حكومتين بولنديتين مختلفتين، في 1995 ثم من 2000 إلى ·2001 وبعد تقاعده، بدأ يؤلف الكتب ويشارك في المجالس مثل ''مجلس أوشفيتز الدولي'' الذي يرأسه، غير أن حكومة رئيس الوزراء ''ياروسلاف كازينسكي''، وشقيقه التوأم، الرئيس الحالي ''ليتش كازينسكي'' كانت تعيده مرة أخرى إلى معترك السياسة قبل أن يتحول إلى منتقد شرس لهما قبل انتخابات أكتوبر المنصرم، وبعدئذ، عرض عليه ''تاسك'' -رئيس الوزراء الجديد- منصب وزير الخارجية مرة أخرى، ولكنه لم يقبل سوى بالاضطلاع بدور استشاري خاص، وفي هذا الإطار يقول ''بارتوشيفسكي'': ''لقد قررتُ العودة بالرغم من سني لأنني كنت مقتنعا بأن شيئا ما يمكن فعله''· على أنه لم يصدر عن ''بارتوشيفسكي'' ما يفيد بأنه ينوي التوقف عند هـــذا الحد، حيث يقـــول: إنه يعتزم نشر خمسة كتب خلال السنوات المقبلة، يُنتظر أن يتضمن أحدها سيرا ذاتية قصيرة لـ100 شخصية مشهورة عرفها الرجل خلال مشواره المهني، موضحا أن مشاريعه الكثيرة تمنحه الدافع والحماس لمواصلة العمل، إذ يقول: ''ما عسى المرء أن يطلب من أمور أخرى؟'' قبل أن يحمـــل عكازه ويخرج للقاء السفير البولندي في ألمانيا، ثم مع المستشارة الألمانية ''أنجيلا ميركل'' في وقت لاحق من ذلك اليـــوم· نيكولاس كوليش- بولندا ينشر بترتيب خاص مع خدمة نيويورك تايمز