الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بيت الأيتام

بيت الأيتام
24 مارس 2011 21:20
تفتحت عيناي على الدنيا لأجد نفسي يتيمة، لم أر أبي فقد توفاه الله قبل أن أولد بثلاثة أشهر ولا أعرف ملامحه، فلم يترك لي حتى صورة فوتوغرافية تجعلني أحن إليه من خلالها، فلم يكن في ذاك الزمن اهتمام بالصور، وعندما أجلس لأتخيل وجهه تتداخل الصور والأشكال البشرية ولا استطيع أن أضع له في مخيلتي وجهاً، وكان ذلك يؤرقني كثيرا، وكذلك لم يترك لي أبي من المتاع أي شيء. لم يكن أمام أمي اختيار سوى العودة إلى بيت أخيها الأكبر الذي تحمل مسؤوليتها كاملة رغم صعوبة ظروفه المادية، ونشأت في بيت خالي ومع أبنائه، وقبل أن أكمل عامي الثاني كنت ألعب مع الأطفال في حفل عرس أمي، الذي لم يكن سوى جلسة محدودة لعدد قليل جدا من الرجال والنساء كلهم من الأقارب، ولا اعرف أنها بذلك ستنتقل إلى بيت رجل آخر وتتركني، ولا افهم أن زوجها سيخطفها ويحرمني منها ويحرمها مني، والأدهى والأمر أنها رحلت بعيدا على مسافة عشرات الأميال، وهذا ما جعلني فيما بعد أدرك لماذا كانت أمي يومها وقبلها بأيام تحتضني وتبكي وفي يوم زفافها لم تجف دموعها، وأيضا كثيرون وكثيرات شاركوا في حفل الدموع، ووقتها لم اعرف لماذا يبكون ولا ماذا يعني الزواج؟ رحلت أمي وافتقدتها كثيرا فهي التي كانت تقوم بكل شؤوني، وأنام في أحضانها، وتحنو عليَّ وتقبلني، ضاع مني كل ذلك، بجانب الحرمان من الأب الذي هو مجرد صورة لا تكتمل، بحثت عن أمي حولي فلم أجدها وتساءلت وسألت كثيرا عنها، لا أجد جواباً، مجرد كلمات غير مقنعة متداخلة، كانوا يحومون حول الحقيقة ولكن غير قادرين على إيصالها إلى عقلي وليس لديهم تفسير واضح يمكن أن أفهمه. شهور قليلة وجاءني يتيمان آخران، ولدان صغيران في الثالثة والرابعة من عمريهما، انهما ابنا خالتي وقد توفيت أمهما، وتزوج أبوهما وطردهما إلى خالي الذي تحول بيته إلى ملجأ للأيتام، لكن من غير إمكانات، فنحن الثلاثة مع أبنائه الأربعة وزوجته أسرة كبيرة بحاجة إلى مبالغ باهظة للطعام والشراب. وشهادة خالصة لوجه الله، فإن خالي رغم فقره المدقع لم يفرق يوما بين أي منا وأولاده، بل ربما يقسو عليهم ولا يقسو علينا، كان دائما يستشعر أننا أيتام وصغار وعليه أن يتحمل هذه المسؤولية كاملة، يوزع حبه وحنانه وعطفه علينا فيحتوينا، وإن كان يحس بالنقص ويحزن لعدم قدرته على توفير حياة كريمة لنا وزوجة خالي لا تقل عنه تضحية، فلم تتأفف يوما من وجودنا ولم تنفجر، كنا كلنا كأننا أبناؤها، حتى أننا كنا أسرة ذاب أفرادها في بوتقة واحدة، الجميع - أي الصغار - محرومون رغم أنوفهم من اللعب، إلا الجري وراء بعضنا في الشوارع، ونشعر بهذا الحرمان، وكان من الطبيعي أن نتألم. عندما بلغت مرحلة الصبا ومعي ابنا خالتي المتوفاة وأبناء خالي، خرجنا جميعا للعمل أجراء في أعمال قاسية لا تناسب أعمارنا، وكان ذلك شأن كل الفقراء أمثالنا فلم نستغرب هذا ولم نرفضه، بل ربما كنا نسعد ونحن في نهاية كل يوم نحصل على أجورنا ونعود بها إلى البيت ونضعها في يد خالي أو زوجته، وتزداد سعادتنا ونحن نتلقى الوعود منهما بأنهما سيدخران هذه الأموال لنا لشراء ملابس جديدة في العيد الذي قد يكون بيننا وبينه عدة أسابيع وربما أشهر، وللحقيقة ما اخلفا وعدهما معنا أبدا، حتى لو تراخينا وتكاسلنا ولم نلتزم بالعمل بما يكفي احتياجاتنا. في هذه الظروف علمت أن لي أختاً غير شقيقة تكبرني بعامين لأن أبي طلق أمها بعد خلافات بينهما، وتوفى وهي صغيرة ولم تره مثلي، وعادت بها أمها إلى بيت أبيها، وتولت تربيتها وتحملت مسؤوليتها وحدها لأن الجميع رفضوها ولم يقبل أي من أقارب أمها مساعدتهما، لذا فلم تكن أختي أحسن حالا مني، وعاشت مع أمها حياة ربما أصعب من الحياة التي عشتها في بيت خالي، فكان ظهورها في حياتي يعني مزيدا من الهم والحزن لأنني مع صغر سني كنت أفكر في حالها، وأنا عاجزة عن مساعدتها، وقد خرجت هي الأخرى مثلي إلى العمل، وان كنت أجد في لقائها السلوى ونتبادل الحديث في أي شيء، كل واحدة تشعر بظروف أختها، جمعنا الحب والعطف، تفانينا في العطاء مع قلة الإمكانات، ولم نبخل حتى ولو بالكلمات نتشبث بالصبر إلى أن يقضي الله سبحانه وتعالى أمراً كان مفعولا. خروجنا إلى العمل ونحن أطفال، لا يشعرنا بالنقص، لأن كل من هم على شاكلتنا مثلنا يتجمعون كل صباح بالعشرات فرادى وجماعات، وكنا نرى أن هذا هو الطبيعي والمعتاد في الحياة، إلا عندما يكون العمل قاسيا مع شدة حرارة الصيف أو زمهرير الشتاء. وكما جمعتنا كل هذه الظروف، اشتركنا ايضا في الحرمان من التعليم بعد السنوات الأولى في المرحلة الابتدائية، بعدما تعلمنا القراءة والكتابة، وقليلا من النحو والشعر والأدب، وحينها لم نحزن على ذلك ولم نقم له وزنا، فشيمة أهل المنطقة كلهم الجهل، هو الذي يسيطر على العقول بسبب الفقر وضيق ذات اليد، والعادات والتقاليد التي تنظر إلى البنات على أنهن للبيوت والزواج فيما بعد وكفى، حتى السنوات القليلة التي قضاها بعضنا في المدرسة، لم نكن منتظمين في الدراسة واستذكار الدروس، لأن هناك ما هو أهم من ذلك يشغلنا ويحتاج إلى الوقت والجهد والعمل، وهو توفير لقمة العيش والملبس. كبرنا ومرت سنوات الصبا ونحن نخطو نحو مرحلة الشباب وبدأ ابنا خالتي وابنا خالي الذكور تشتد أعوادهم ويساهمون بشكل فعال وكبير في دعم هذه الأسرة، وتغيير بعض أحوالها، وما أن حلت الدنيا وشرعت أن تبتسم لنا، حتى مرض خالي ولم يكن هناك في تلك الأيام اهتمام بالأطباء والدواء، وجاءه أمر الله وتوفي بعد عدة أيام وشعرنا جميعا بأننا رفع عنا الغطاء الذي كنا نستتر تحته، وفقدنا الصدر الحنون والملجأ الأخير، تحولنا إلى ملجأ أيتام حقيقي فيه سبعة كلهم فقدوا الأب أو الأم أو الاثنين معا، وبالنسبة لي كنت أشدهم حزنا عليه، لأنني كنت أرى فيه أبي الذي لا اعرفه، وحنان أمي الذي ابتعد عني وحرمت منه، قد أكون في هذه اللحظات فقط شعرت بمرارة اليتم والحرمان، وفقدان الأمان فهو سندي وملاذي الوحيد في هذه الدنيا. وكما جمعنا الفقر من قبل، ووقفنا يداً واحدة لمواجهته، واعاننا الله عليه، كان الحزن أكثر تأليفا بيننا، جعلنا نتماسك ونعلن التحدي بلا كلام، كل فرد يؤدي ما عليه من واجبات من دون أن يسأل عما له من حقوق، أنا وإبنا خالتي كنا كأننا نؤدي دينا واجبا لزوجة خالي وابنائه، وهم من جانبهم يتفانون لأنهم يريدون أن يواصلوا المشوار الذي بدأه أبوهم، وارتفعت مصلحة الجماعة فوق كل فرد. ما يقرب من خمسة عشر عاما مضت منذ أن تزوجت أمي لم تزرنا خلالها إلا مرات معدودات في الأحداث الكبرى أو الأعراس والجنازات، ولم يتح لي أن اقضي بجانبها وقتا طويلا، لكن هذه المرة جاءت غاضبة من زوجها بعد خلاف بينهما، فقضت معنا أسبوعا، ولأول مرة تحدثني عن مشاعرها نحوي، ربما لأنها قدرت أنني الآن استطيع أن أدرك وان افهم كلامها، وأمي امرأة فياضة الدموع، فقد تنظر إليّ مجرد نظرة، وبلا كلام تنساب دموعها ولا تستطيع أن تسيطر عليها، وهكذا اعتدتها دائما باكية، حتى أنني عندما أراها هكذا ومن دون أن اعرف سبب بكائها تسيل دموعي مثلها، فهي من النوع الذي يبكي إذا حزن ويبكي أيضا إذا فرح، وهذه المرة كأنني أعيد اكتشافها، فهي تأسف أنها تركتني، وما فعلت ذلك من أجل رغبة في الرجال ولكن فقط من أجل تخفيف الأعباء عن خالي الذي اعلم ظروفه، وأكدت لي أنها لن يهدأ لها بال ولن تستريح إلا عندما تراني عروسا معززة مكرمة في بيت زوجي، وراحت تدعو لي كثيرا وهي ترفع يديها وتتوسل إلى الله أن يرزقني بابن الحلال، وخلال ذلك الأسبوع اختلطت مشاعري، فلا ادري أن كنت أريدها أن تعود مرة أخرى إلى بيتها واولادها وتتصالح مع زوجها أم تبقى معي. استجاب الله عز وجل لدعواتها، فبعد عدة أسابيع جاء ابن عمي ليطلب يدي من زوجة خالي واخوتي الذين هم أبناء خالي وابنا خالتي، فقد كنا أخوة فعلاً، وكثيرون حتى من أهل المنطقة يعتقدون أننا أخوة أشقاء، غير أن زوجة خالي أكدت أن من الأصول أن يكون الاختيار لي ولأمي، وعندما جاءت أمي أبدى الجميع موافقتهم لكن بعد أن اتخذ قراري بكل حرية، والتحفظ الوحيد أن ابن عمي على شاكلتنا شاب فقير، أجير، إلا أنه يشفع له أن اختارني لأنني لحمه ودمه وعرضه فرأي الجميع انه طالما هو كذلك فهو الأحق بي والوحيد الذي سيحافظ على كرامتي ولن يهينني أبدا. في غرفة متواضعة بلا أثاث تم الزواج ومنذ أول يوم عاهدني زوجي على أن يضعني في عينيه وان يعوضني عما مضى من حرمان وان يتفانى ليحقق لي السعادة، وكلماته رغم أنها لا تشتري طعاما ولا ملبساً جعلتني أشعر بالأمان وكانت بلسما لجروح الزمان. وإذا أراد الله شيئا هيأ له الأسباب، إذ بعد بضعة أشهر غادر إلى مدينة كبرى وبدأ يزاول عمله في تجارة الملابس ويحملها على ظهره كل صباح وحتى وقت متأخر من الليل، وانهالت عليه الأموال، حتى فوجئت به بلا مقدمات يحضر ليصطحبني معه بعد أن استأجر لي غرفة هناك هي بالطبع أفضل كثيرا من تلك التي نقيم فيها، قال لي انه بحاجة لأن أكون بجواره وأعاونه حتى في احتياجاته الشخصية، وأيضا في تجارته فشجعته وخرجت معه للعمل، بعد أن اخترنا مكاناً على الرصيف نجلس عليه ببضاعتنا بدلا من التجوال في الشوارع، فجاءنا رزقنا، واتسعت تجارتنا، ونحن ندخر كل مال يقع في ايدينا حتى استطعنا شراء محل صغير، أحيانا نبيت فيه إذا تأخر بنا الوقت لأننا سنستيقظ مبكرا لاستئناف العمل. راجت تجارتنا، وازداد حجم أعمالنا، وتضاعفت أرباحنا ولم يعد هذا المكان الضيق المحدود كافياً، فاشترينا محلا أكبر ومخزنا واسعا، وأصبح لدينا عدد من العمال، لأنني بدأت اشعر بآلام الحمل ولم اعد قادرة على العمل، فاكتفيت بمراقبة الحركة وحل المشكلات الطارئة اليومية، واشترينا قطعة أرض قريبة وبدأنا نقيم عليها بناية سكنية، تزداد كل يوم ارتفاعا، ونحن لا نكاد نصدق ما نحن فيه. كان ممن استعنا بهم في العمل اخوتي الأيتام الذين تربيت معهم، فلم انسهم يوما، وفضلت ألا اجعلهم يعتمدون على مساعدات مني، بل يجب أن يكونوا مثل الشركاء، فهم شركاء في حياتي كلها، ولم أنس أختي ولا أمي ولا زوجة خالي فقد كنت اغدق عليهم بالهدايا والملابس والأموال، وقد أعانني زوجي على برهم، وكان كريما جدا وهو يدفعني دفعا إلى ذلك ويحثني عليه. رزقت بأولادي الأربعة واحدا تلو الآخر، ونحن نقيم وحدنا في البناية العالية، فقد خصصت لكل واحد منهم شقة رغم صغر أعمارهم، ليكونوا بجواري، وتحت عيني وتجارة زوجي تسير على ما يرام، وأنا وهو نداوم على الحج والعمرة على فترات متقاربة، ولدينا سيارة بسائق خاص، استيقظ مبكراً لأراقب ابنائي وهم في طريقهم بها إلى المدرسة بعد أن التحقوا بمدارس خاصة من تلك التي لا تتاح إلا لعلية القوم، وما أن يغيبوا عن ناظري حتى أعود لأسجد لله شكرا على ما أنا فيه من نعم لا تعد ولا تحصى ولم اكن يوما اتوقعها أو حتى أحلم ببعضها. ما كتبت اليوم شاكية، ولا عندي مشكلة، إلا أن الخوف يسيطر على قلبي ويخفق كثيرا خشية أن يذهب عني أي شيء مما أنا فيه، أو افقد عزيزا وأعيش مع دموعي الغزيرة التي أخذتها عن أمي. الآن أسعى لإقامة ملجأ للأيتام، لأنني اشعر بحرمانهم ومعاناتهم.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©