الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التصور الإسلامي لخلق الإحسان في المجال المهني والوظيفي

التصور الإسلامي لخلق الإحسان في المجال المهني والوظيفي
24 مارس 2011 21:21
إذا كان الإسلام قد أضفى على المهنة بعداً أخلاقياً بإيجابه الأمانة بشتى صورها على جموع الممتهنين. فإنه أضفى عليها كذلك بعداً إنسانياً، واجتماعياً بإيجابه مبدأ الإحسان فيها، ألا ترى الأستاذ الجامعي وقد حددت له ساعة مكتبية من العاشرة إلى الحادية عشرة مثلا يلتقى فيها تلاميذه بعد درسه، فجاءه التلاميذ بعد انتهائها فآثر القعود معهم بعدها ساعات وساعات! ما الذي يحمله على ذلك؟ أهي المعاملة المادية؟ كلا لأنه بمقتضاها لن يلقى أجراً من ثواب على قعوده وانتظاره ولن يناله عقاب إذا ما انصرف، لكنه خلق الإحسان الذي جعله يرى ربه فوق عالم المادة وتعاملاتها، فأدرك أنه وإن لم ينل ثواباً مادياً في دنياه، إلا أن خالقه ومولاه لن يضيع أجر من أحسن في عمله وفى مهنته. لذا تراه يجلس لقاء وجه ربه ورغبة فيما عنده وفيما أعده للمخلصين من عباده. وكذا الحال مع طبيب قصرت يد مريضه عن أن يدفع له أجراً أو عوضاً عن مجهود قام به لعلاجه، ومع هذا بذل الجهد ليبرأ من سقمه، وكان سبباً في ذهاب علته. لقد انعدم الجزاء المادي هنا ولكنه الإحسان الذي أعطى للمهنة بعداً إنسانياً يجعل كل ممتهن يقبل عليه ليقين رسخ في عقله أنه وإن عدم الجزاء في دنيا الناس، فإنه لن يعدمه عند رب الناس. وبالنظر إلى ما تقدم يمكن أن ندرك: 1- أن الإحسان يعني «سعي الإنسان للخير بكل ما في طاقته دون أن يتوقع جزاء ولا شكورا». أو هو بسط اليد بالبر والمعروف جزاء ما عند الله تعالى. 2- أن خُلق الإحسان في مجال المهنة وغيرها مرتبط بالإيمان بالله تعالى، ومرتبط كذلك بعقيدة الإيمان بالآخرة. فبذل الإنسان فوق ما كلف به مرده هنا إلى إيمانه الإنسان برب يرى فعله وصنيعه، وبذله مع عدم الجزاء مرده إلى أن ربه الذي آمن به ورأى فعله وصنيعه، لا يضيع عمل عامل أحسن وأجاد في مهنته حتى تكلف البذل والعطاء فوق ما كلف به. لذا أعد سبحانه داراً أخرى يكون فيها الثواب والعقاب لمن فاته الجزاء في الدنيا. ولعل هذا ما يشير إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي رواه الإمام مسلم «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». 3- إن الإحسان بهذا المعنى في مجال المهنة وغيرها يعطي بعداً إنسانياً واجتماعياً في التعامل بين الناس. إذ أنه يعكس مدى عمق الإيمان والصلة بالله تعالى في نفس المسلم حيث يجعل المجتمع والتفاعل معه هو المحك لإظهار ذلك، لذلك فإن هذا الخلق يظهر مدى رفض الإسلام للتقوقع والانعزالية، ورفضه خلق مجتمعات دينية منعزلة يسودها الرهبنة، ونظم الزهد والتقشف المنحرفة التي سادت بعض الديانات الوضعية. فالإحسان من وجهة النظر الإسلامية يعني العمل والحياة وهو المحك التطبيقي الذي من خلاله يظهر أثره على المسلم ليحتوي العالم كله في مجال المهنة وغيرها، ويحتوي كذلك البشرية بأسرها بدون تمييز مبني على عرق أو لون أو اختيار نخبة متميزة أو طبقية متعالية، أو مادة تغيب عنها الإنسانية. وإذا أتينا إلى النصوص التي تؤكد الإحسان ومراعاته في النشاطات الإنسانية فإننا سنجد قول الحق سبحانه وتعالى «وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ» النساء (125). وكذلك قول الحق سبحانه وتعالى: «بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ « البقرة (112) . وقوله سبحانه «وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ» لقمان (22). وكذا قول الحق» إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً» الكهف (30) . وقد مارسه أنبياء الله ورسله في حياتهم سلوكاً فعلياً وواقعاً عمليا، فيوسف عليه السلام بعد أن وصف به في غير موضع، قد عامل به إخوته بعد أن ألقوه في غيابات الجب، ولما دارت الأيام بهم ورأوا قدرته وسطوته عليهم وضعفهم أمامه خاطبوه بقولهم :«أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ» يوسف (91،90). فقال لهم بلسان المحسن وسلوك المتفضل «قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «يوسف (92). ونجد موسى عليه السلام مع نبي الله شعيب في مجال المهنة، عندما قال له شعيب عليه السلام «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ» القصص ( 28،27) . وقد قال له ذلك بعد أن أهله للعمل عنده كفاءته وأمانته، ليظهر البعد الإنساني المتمثل في الإحسان فيما جمع بينهما من علاقة وعمل. ونجد الإحسان وقد اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم سلوكا عمليا في دعوته وهديه، فمن أظهر المواطن الدالة على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم حينما غلب قريشاً على «مكة» وأصبح أشدهم له عداوة تحت يده قال لهم : «ما تظنون أني فاعل بكم، فقالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء»، بل لقد أعطى أبا سفيان رأس أعدائه مفخرة لم ينالها يومها سواه حيث ساوى بين داره والكعبة، إذ جعلها حرماً يأمن داخله كل من لاذ بها». فكان هذا الإحسان داعية لدخول أولئك الأعداء في دين الله أفواجاً. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان في كل شيء يتناوله الإنسان بناءً على أمر الله تعالى له به، حتى في المهن التي يغلب عليها طابع القسوة كالجزارة وما فيها من ذبح وسفك للدماء، وقد فصل الفقهاء في الإحسان فيها، فكان مما نصوا عليه أن لا يذبح حيوان أمام حيوان لئلا يعرضه لأذى نفسى، وأن يشخذ مشفرة لئلا يتعذب الحيوان به إن لم يكن كذلك، وأن لا يريه إياه لكى لا يحزن أو لا يضطرب.. الخ ما نصوا عليه مما يعد من قبيل الإحسان في هذه المهنة، ويعد كذلك من قبيل الإحسان في التعامل مع الحيوان. من أجل هذا وجدنا الآيات في القرآن الكريم وقد تضافرت على ترسيخ هذا الخلق القويم في النفس الإنسانية في المجال المهني وغيره ومن المجالات ليكون عنوانا للمسلم في شتى المعاملات ومنها قول الحق سبحانه وتعالى «وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ» البقرة (58). ويقول تعالى «وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ « البقرة (195). ويقول تعالى «الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» آل عمران (134). ويقول تعالى «فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ» المائدة (85). ويقول تعالى «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» المائدة (93). ويقول تعالى «وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» هود (115) . ويقول تعالى «نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» يوسف (36). فهذه الآيات وغيرها دلت على أفعال زادها أصحابها فوق ما كلفوا به حسنا وبهاء فكان الجزاء من جنس العمل زيادة من الله سبحانه وتعالى في الثواب والرضوان. وفى الحديث عن مكارم الأخلاق نجد الحق سبحانه وتعالى قد ضمنها الأمر بالإحسان حيث قال «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» النحل(90). فالعدل وضع الشيء في نصابه على نحو ما كلف به الإنسان، والإحسان مرتبة أسمى وأعلى يأتي فيها الإنسان بما هو فوق ما كلف به من خير، لذا يقول الإمام القرطبى في تفسيره لهذه الآية «حكى عن النقاش قال يقال زكاة العدل الإحسان، وزكاة القدرة العفو، وزكاة الغنى المعروف، وزكاة الجاه كتب الرجل إلى اخوانه. وقال علي بن أبي طالب «العدل الإنصاف، والإحسان التفضل» وقال ابن عطية «العدل هو كل مفروض من عقائد وشرائع في أداء الأمانات وترك الظلم، والإنصاف واعطاء الحق، والإحسان هو فعل كل مندوب إليه فمن الأشياء ما هو كله مندوب اليه، ومنها ما هو فرض إلا أن حد الاجزاء منه داخل في العدل، والتكميل الزائد على الإجزاء داخل في الإحسان». وإذا كان الإحسان قد أمر به من الله سبحانه وتعالى فإنه سبحانه لا يضيع أجره على فاعله، يقول سبحانه «هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ» الرحمن (60). وذلك لأن المحسن قد أتى بما لم يكلف به ولا ثواب عليه في دنيا الناس في مجال المهنة وغيره، فناسب أن يكون الجزاء من جنس العمل وهو الإحسان من الله في الآخرة. وهذا ما نص عليه الإمام ابن كثير حين قال «أي ليس لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة « ونص عليه الإمام الزمخشري في تعليقه على الآية السابقة بقوله «هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ» في العمل «إِلا الاِحْسَانُ» في الثواب «وفي هذا بيان إلى أن الإحسان الذي يعني الفضل والزيادة في مجال المهنة وغيرها وإن عدم المقابل المادي له في الدنيا إلا أن المطلع على حالة المتفضل والمحسن هو الله تعالى لذا لم يحرمه الجزاء في الآخرة، وهذا دليل على أهمية قانون الأخلاق الإسلامي وما يرتبط به من معصومية المرجعية، وإحاطتها بما يكون من الإنسان في أدق أعماله. حيث إن الإنسان لا يعدم الأجر والثواب في أي عمل يأتيه وإن غاب هذا العمل عن الناس، ولم يأخذ ثوابه منهم فإن من يتولى الجزاء هو الله العالم بخفايا الأمور ومكنونات الصدور. لهذا وجدنا في إطلاق البعد الإنساني على الإحسان قول محمد بن الحنيفية والحسن في تفسيرهما لقول الله تعالى» «هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلا الاحْسَانُ» «هي مسجلة للبر والفاجر «أي «مرسلة مطلقة في الإحسان إلى كل أحد لم يشترط فيها بر دون فاجر د. محمد عبد الرحيم البيومي كلية الشريعة والقانون - جامعة الإمارات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©