السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرواية المضادة.. الراوية «شهرزاد أوروبية» والمعشوق مغربي

الرواية المضادة.. الراوية «شهرزاد أوروبية» والمعشوق مغربي
3 سبتمبر 2009 02:11
حينما تقضي طرفاً هاماً من حياتك منغمساً في معالجة الروايات الاستعمارية المكتوبة عن المغرب، ثم تقرأ بعد ذلك كتابات غويتيصولو المتأخرة يحدث في أعماقك ارتجاج فكري خطير شبيه بذاك الذي قد تستشعره لو أنك اكتشفت قارة جديدة. ذاك ما حصل لي شخصياً. فبعد أن أمضيت سنوات طويلة ألتهم فيها ركاماً من الروايات الإسبانية المكتوبة عن المغرب إلى درجة أضحت خطواتها الجمالية شبه محفوظة لدي؛ لطمني في فترة لاحقة خوان غويتيصولو بكتاباته المفارقة التي لم تكتف بتكسير رتابة تلك الخطوات وإنما طمحت إلى تقويض أسس الثقافة الإسبانية برمتها؛ تلك الثقافة التي كانت وراء هذا الإفراز الجمالي المعروف «بالرواية الاستعمارية» أو «رواية الحماية». والواقع أن التجربة المستخلصة من قراءة هذا النمط من الروايات بصنفيه التقليدي والمفارق قد جعلتني أزداد تغلغلاً في الخبايا البلاغية لصورة الآخر، لكن من دون أن تسلم إلي كل مفاتيحها. إذا كان من الميسور مقاربةُ الوحدات الوظيفية للرواية الاستعمارية المكتوبة عن المغرب خلال عهد الحماية واستشرافُ خطواتها الجمالية الواقعية؛ فقد غدا من الصعب التعامل بنفس الخطة مع صور الروايات اللاحقة التي كتبت بعد استقلال المغرب واستلهم فيها أصحابها أساليب الرواية الجديدة Nouveau roman، وتيار الوعي، والفلاش باك، والسوليلوكات، وما إلى ذلك من الأساليب الطلائعية التي أفرزتها الثقافة الأدبية الغربية خلال القرن العشرين والتي يمكن إدراجها اليوم فيما يسمى بأدب ما بعد الحداثة. في سنة 1928 نشر خوسيه دياث فرنانديث (José D?az Fern?ndez) كتابه «الحصن الخشبي» وجعل له عنواناً فرعياً لافتاً: «رواية الحرب المغربية (Novela de la guerra marroqu?). ولقد أثار هذا الكتاب في زمنه ضجة جمالية. فهو في الحقيقة لم يكن رواية حسب المفهوم المألوف وإنما مجموعة قصص قصيرة ذات عناوين مستقلة، تتكرر في عدد منها أسماء وأماكن بعينها لكنها ترتبط جميعها، من قريب أو بعيد بحرب إسبانيا ضد المغرب. من جانب آخر لم تكن رواية «الحصن الخشبي» مألوفة كذلك من حيث لغتها المجازية الطلائعية ورؤيتها الإنسانية الأصيلة التي دشنت خطة الخروج الروائي عن المشروع الاستعماري الإسباني، مع محاولة تصوير المغاربة تصويراً متوازناً. كانت عملاً طلائعياً بكل ما في الكلمة من معان. وبعد أكثر من ستين سنة من ذلك التاريخ نشر خوان غويتيـصولو Juan Goytisolo كتابه «مقبرة». ولعل التداعي بين هذين العملين والربط بينهما يرجعان أساساً إلى أن «مقبرة» لها صلة بصور المغاربة والإسبان بل وعموم العرب وحتى الغرب نفسه، وكتبت هي الأخرى ببلاغة غير مألوفة يمكن القول إنها مضت في غير ألفتها إلى درجة أن طلائعية «الحصن الخشبي» تظل ساذجة للغاية. والحق أن الكتابة السردية الخارجة عن المألوف المتمردة على النهج التقليدي لم تبدأ لدى غويتيصولو مع «مقبرة» وإنما مع روايته «علامات هُوية Se?as de identidad» التي كتبها عام 1966 ثم استمرت مع روايته «استعادة الكونضي ضون خوليان Reivindicaci?n del conde don Juliàn» التي كتبها عام 1970 والتي دشنت بلاغةً مغايرة ومفارقة في التعامل مع الموضوع العربي الإسلامي وحتى مع الشخصية المغربية. ولقد دعت هذه الرواية بإلحاح جمالي غير معهود إلى نقل مركز الاهتمام السردي من الإسبان الغالبين في زمن الحماية (1912-1956) إلى المغاربة والعرب والمسلمين سواء أكانوا منتصرين في زمنهم القديم (فتح الأندلس) أم مغلوبين في زمننا المعاصر. كانت رواية «الاستعادة» محطة جديدة وفي الوقت ذاته تكملةً للطريق الذي بدأه منذ عقود طويلة خوسيه دياث فرنانديث ثم أرْتُـورو بارِيا ورامون سِندر. بيد أن الجديد في «استعادة» غويتيصولو ثم في «مقبرته» كما سنرى لاحقاً دخولُه في حوار فكري وجمالي مفارق مع الروايات الاستعمارية الإسبانية المكتوبة عن المغرب، ونزوعُه الواعي إلى كتابه رواية مضادة. بدأ ذلك بداية خفيفة في رواية «علامات هُوية»، ثم انفجر في شكل كتابة سريالية مدمرة في كتاب «الاستعادة» ثم في كتاب «مقبرة»، وتجلى في مفاهيم نقدية وفكرية صريحة في كتابه «وقائع شرقية». ضد الجنس الروائـي لا تحمل صفحات «مقبرة» أيةَ إشارة إلى أنها رواية. ولعل هذا الوعي الأجناسي المنفتح يعد مظهراً من مظاهر الحوار مع المتن الاستعماري تمهيدا للتمرد عليه. فقد كانت الرواية الإسبانية المكتوبة عن المغرب تعتمد اعتماداً شبه كلي على النهج التقليدي وتستعين به من أجل تنفيذ خطة التحامل على المستَعمَرين. لكن «مقبرة» تعمدت، في المقابل، التشتيتَ، والكتابة السريالية، وتكسير الحدث، بل العمل على إلغائه، وعدم تحديد هويات الشخصيات، والإلحاح على تنكير سماتهم وأماكن وجودهم وإقامتهم، والانغماس في جوانية اللغة بدل تطوير الوقائع وجعلها متسلسلة، وتعويض صور الحب الرومنسي الحالم أو الغزل الخفيف أو الغرام المسروق أو الغمز والإيماء بصور جنسية مفضوحة وشاذة. وبدلاً من إطلاق الجملة الروائية بحرية غير مسؤولة قد تصيب الهدف الدلالي أوْ لا تصيب كما في الرواية الاستعمارية؛ احتفت «مقبرةُ» بالكلمة الرفيعة المنتقاة بعنايةٍ انتقاءَ الجوهر، المستعصية على الإدراك الأولي، التي لا تقتضي بالضرورة «تجاوراً» مع ما قبلها وما بعدها، وإنما أضحت الكلمةُ الواحدة «منفتحةً» على ما قبلها وما بعدها بل وعلى ما يبتعد عنها بفقرات وصفحات. لذا أضحت جل الكلمات في «مقبرة» مفتوحةً على بعضها بعض كما لو كان الكتاب كله مجموعةً من الصور المعزولة التي تفضي إلى «صورةٍ وحيدة Imagen Unica « حسب عبارة الرواي نفسه؛ بِلَّورةٍ لها أضلع شتى تشع في أكثر من اتجاه اعتماداً على «استعارية» التشتت وحريته وليس اعتماداً على الانطلاق المتجاور بالمفهوم «الكنائي» للتجاور. وبذلك تعمد غويتيصولو «الاعتداءَ» على اللغة الإسبانية ذاتها التي كُتبت بها في السابق نصوصٌ أدبية ونقدية وتاريخية متبجحة. تعويم السمات إن خطة التشتيت السريالي تجعل عملية جمع سمات الشخصيات والأماكن والوقائع غاية نقدية صعبة. ذلك أن الرواي يعي جيداً أن محاورة المتن الاستعماري تقتضي طمس الهويات، وتعويم السمات، وتمويه الأماكن، وتكسير رتابة الأحداث. لكن معظم القرائن تدل على أن الشخصيةِ الذكورية المرصودة للتصوير المضاد، المسندة إليها وظيفةُ العشق شخصيةٌ مغربية أو مغاربية من حيث إنها تتكلم أحيانا اللهجة المغربية وتمارس حرفة أو عملاً يؤكد المكانُ بعدَه المغـــربي (الدباغة/ العسكر/ الحلايقي/ المنجمي...). وحتى مكان اللقاء نفسه يتحول من مراكش، إلى خنيفرة، إلى سيدي بلعباس، إلى تارغيست، إلى تارودانت، إلى سرداب تحت الأرض بأميركا. بيد أن المغربي المعشوق قد يتحول من عبد اللّي Aldelli إلى عبد الله، إلى عبد الهادي، إلى محمد، إلى أحمد أو عمر. والحق إن قارئ مقبرة «النموذجي» لن يكفيه معرفةُ عدد من اللغات واللهجات، والقدرةُ على تأويل رموز الكتاب، وفك طلاسم مجازاته، وتشريح موضوعاته؛ وإنما يلزمه إضافةً إلى ذلك القيامُ بمهمة تركيبية ذات طبيعة مخصوصة. أصفها هكذا لأن التركيب في مفهومه الشامل يعني جمعَ شتات الصورة المتشظية حتى تعود المرآة إلى حالتها الطبيعية كما في صور رواية «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان حيث يستطيع القارئ أن يحصي الإشارات التي وردت في النص إلى برتقال العم رمضان على سبيل المثال، ثم يضم الإشارات إلى بعضها لكي تتكامل الصورةُ المتسلسلة. في رواية أصلان تملك الإشاراتُ والسماتُ والجزئياتُ إمكاناتِ التضامّ إلى بعضها بعض لتشكيل «صورة واقعية» ذات طبيعة متماسكة ومتدرجة. أما جزئياتُ صورِ «مقبرة» المتناثرةِ وعناصرُها فلا يمكن ضم بعضها إلى بعض إلا وهي متنافرة، متناقضة، ومتعاكسة، مع حتمية الإبقاء عليها وهي في ذلك الوضع. وحتى مطلب التساند الجمالي بين السمة والشخصية أو المكانِ وباقي المكونات الروائية يتخذ هو الآخر هذه الصيغةَ المتنافرة القائمة في أصل العمل الإبداعي. في هذه الصورة تتحدث المرأة الأورپية العاشقة التي تتعلق المغربيَّ وتسافر في طلبه وتنافس غيرها من أجله. معلوماتنا الروائية عنها شحيحة. تتذبذب سماتها بين الوضوح والغموض؛ فهي فرنسية أو أميركية أو إسبانية صراحةً أو بالإيحاء. هي الأنثى المجهولة الاسم، ذات الهوية المتقلبة، والشخصية المتحولة حسب لفظة ميليتينسكي، لا تظل على حال. هي المرأة المناضلة. وهي الملاك Angel المطرود من نظام الحكم الشمولي الذي يذكرنا بأوروپا الشرقية، أو من بلد غربي رأسمالي تكنوقراطي هو باريس أو پِطْرسْبورغ أو غيرهما. هي المريضة وهي المرتاحة. هي البنت والشابة. وهي العجوز. هي السائحة الأميركية. وهي العاشقة الفرنسية. هي البكر. وهي المومس المبتذلة. هي العاملة وهي فتاة الاستعراض الغنائي في مسرح ثيربانطيس. إنها أنثى مركبة الأوصاف، كالجثة التي يُجري عليها الدكتور فرانكشتين تجاربه العلمية. وتحديداً تقول سماتُ الأنثى إن العاشقة الأوروپية، أو الأميركية أو الإسبانية تعرفت المغربيَّ عن طريق المصادفـة (المراسلة، أو وكالة التزويج، أو معاينته في دار الدباغ بمراكش). لم يثرها فيه لا عقله ولا جماله (لأنه أسود دميم أصلاً أو أشبه بذلك) ولا حضارته، ولا وضعه الاجتماعي، وإنما قدراته الجنسية، أما سوى ذلك فلا يكاد يهمها. المرأة الأوروپية هي التي تتكلم هنا بدل البطل الإسباني؛ ذلك الفتى الأول المفوَّه في الرواية الاستعمارية من دون منازع. أما موضوع حديثها فيدور حول هيامها برجل أبسط سماته وأعمها انتماؤه إلى العالم الثالث، وأدق خصائصه وأكثرها احتمالاً انتماؤه إلى المغرب أو المغرب العربي. ومثلما اتسمت المرأة بالتحول وتنافر السمات؛ كذلك كان شأن الرجل المعشوق الذي هو مرة فتى المدبغة بمراكش، وأخرى حلائقي جامع الفنا، وثالثة عسكريُّ تارغيست، ورابعة أسود پطْرسْبورغ، وخامسة متشرد باريس، وهكذا دواليك. هو أنا. وهو أنت. وهو هو. كل ذلك «لا يهم» حسب عبارة الكاتب (ص 105). وفي هذا السياق الذي تنتفي فيه أهمية السمة في حد ذاتها يمكن أن ندرك قلة جدوى أن يكون الأفريقي المعشوق اسمه عبد الّلي، أو عبد الله، أو عبد الهادي، أو عمر. أما بالنسبة إلى راوي «مقبرة» فقد كان المطلوب هو تعويم سمات الهوية من أجل تحقيق الانسجام الجمالي بدل تقديمها في صيغة متكاملة متسلسلة. تلك هي المهمة المطلوبة أيضاً من القارئ النموذجي: تركيب المتنافرات بما في ذلك الأسماء المحدِّدة للهوية. بيد أننا نفترض أن من بين المهام التي ستناط بهذا القارئ البحث عن تحقق التوازي بين أجزاء الصورة وانسجامها حتى إن تم ذلك في سياق رواية مبنية أساساً على خاصية التنافر بين السمات. وفي سبيل بحثه عن ذلك التوازي سيكتشف القارئ وجودَ شخصيتين متنافرتين لكنهما في ظاهر السرد متكاملتان: امرأة أوروپية بيضاء ورجل أفريقي أسود (أسمر) يوحّد الشبق بينهما. غير أن مفهوم هذا «التوحيد» لا يتم في صميم البناء أو التكوين الروائي من لدن الطرفين العاشقين معاً وإنما من زاوية نظر أحاسيس المرأة الغربية المهيمنة على السرد وعلى البطولة معاً. أما الطرف الآخر في العشق فلا نكاد ندري عن علاقته بمجتمعه شيئاً خصوصاً بعد أن تم تعويم اسمه. صحيح أننا نعاين في الرواية عديداً من سمات المعشوق، إلا أنها في الحقيقة نتائج لوضعية اجتماعية مجهولة بالنسبة إلينا وكذا إلى ذلك القارئ النموذجي: (الفقر/ الشذوذ/ الاغتصاب/ التشرد/ الهجرة/ السخرة/ الأمية/ العدوانية/ التخلف/ القذارة..). هي أعراض اجتماعية لم يتم تشريحها أمام أعيننا مثلما تم تشريح أعراض المرأة الأوروپية وتعقد حياتها. بيد أن هذا التعلق يكلف المرأة الأوروبية غالياً حيث إنها تُضطهد في سبيله، وتطرد من الجنة الشيوعية أو من الجحيم الرأسمالي، ويُسخَر منها، وتتعب، وتشيخ، وتصبح أضحوكة. غير أنك لا تسمعها تئن أو تشكو؛ إذ إن كل شيء يهون في سبيل متعتها الجنسية الفائقة. ومن البيِّن أن القصد من صور السرد الجنسي المفضوح في «مقبرة» تعريةُ المتن الروائي الإسباني من مثاليته الاستعمارية المصطنعة وكشفُ نفاقها. أضف إلى ذلك أن «البطل الإسباني» لم يعد يقطع البحور ويأتي غازياً البلاد والنساء، وإنما أضحت المرأة الأوروپية هي التي تقوم بذلك فيما يشبه الاستسلام والتضرع والخضوع المطلق للمعشوق الأفريقي. وهكذا تنعكس الصورة لدى غويتيصولو وترتبك على يديه الوحداتُ الوظيفيةُ المألوفة في الرواية الاستعمارية. نقد الحضارة الأوروبية غير أن الراوي لا يقف عند هذا الحد الثقافي، وإنما يتعمد في مرات عديدة، إن لم نقل في الكتاب كله، انتقادَ الحضارةِ الغربية، والتقدمِ التكنولوجي والإعلامي التواصلي، وتصويرَ النفور من المهاجرين والتقزز منهم، من دون نسيان عيوب الأنظمة الشمولية الشيوعية المنغلقة على ذاتها. بذلك تبتعد «مقبرةُ» عن المتن الروائي الاستعماري مسافة شاسعة حينما تتجاوز مجردَ السرد إلى ممارسة النقد. غير أن النقد يُعرض هنا في شكل أفكار وليس من حيث هو صورةُ حدثٍ أو أحداثٍ روائيةٍ كما ذكرنا أكثر من مرة. والغريب في الأمر أن معظم قرائن الكتابة تثبت رغبة الكاتب في أن يتماهى مع شخصية الحلائقي المراكشي أو الراوي في «ألف ليلة وليلة» ليروي مثلَهما بكل حرية وانطلاق. من هنا تأتي الـمفارقة. ذلك أن الراوي «الألفي» والحلائقي يغيِّبان في سردهما الأفكارَ ويعطيان الأهمية القصوى للأحداث والمغامرات. ثم إنهما يتعمدان التطورَ والتدرج في الرواية من أجل التشويق. وفوق هذا وذاك يتواصلان مع جمهورهما بلغة ميسورة مبسطة. في حين تتشكل «مقبرة» من لغة المعجم الكثيف، بل إن راويها يؤكد في كلماتِ الإهداء أنه لن يستطيع تحقيق مثل ذلك التواصل الشعبي مع تلك الفئة من المغاربة أو عموم الأفارقة الذين ألهموه هذا الكتاب لأنهم لن يتمكنوا من قراءته في «مقبرة» تتكلم الشخصية الأوروپية بالدرجة الأولى. أقول الأوروپية وليس الإسبانية تخصيصاً من أجل أن نثير الانتباه، مرة أخرى، إلى رغبة هذا العمل في الحوار الضمني مع الحضارة الغربية بما فيها «أمجادُ» الثقافة الإسبانية والمتنُ الروائي الاستعماري الإسباني، ثم الإمعان في تفتيت وحدته وإعطائه توجهات لم تكن ترد في حسبان مبدعي الرواية الإسبانية المكتوبة عن المغرب ولا نقادها. وفي هذا السياق حلت المرأةُ الأوروپيةُ محل «البطل الإسباني». فقد أضحت تلك المرأة تمثل «الانفتاح» في مجالات الرؤيا والسلوك والجنس، في حين كان «الإسباني» يشكل حالة بشرية منغلقة على نفسها. لذا كان ذلك البطل الاستعماري يفشل في معظم الحالات في إقامة علاقات طبيعية مع المغاربة، خاصة مع النساء. في هذا السياق المنفتح ذاته نقل راوي «مقبرة» مركزَ السرد من تطوان إلى مراكش - وكان قد نقله في رواية «الاستعادة» إلى طنجة - ثم فتح في الوقت ذاته جبهات مكانيةً أخرى لكي لا تظل للمركز الواحد سلطته المطلقة. وهكذا تتناسخ مراكش وتتناسل وتتحول إلى صور مدن أخرى: وجدة، الحسيمة، سيدي بلعباس، وهران، تارودانت، الريصاني، تافيلات.. قبل أن تعود ثانية لتتجمع في ساحة «جامع الفنا» المراكشية في خاتمة الكتاب. أما في زمن الحماية فقد كانت مدينة تطوان عاصمةَ الحماية الإسبانية كلها على المغرب بشماله وصحرائه، مثلما كانت أيضاً بمنـزلة عاصمة الاستعمار الإسباني في أفريقيا. بل كانت حتى عاصمةَ السرد الإسباني المكتوب عن المغرب. والواقع أن ركام روايات الحماية المشار إليه في بداية هذا المقال قد رسخ لديّ الوهم بأن كل الروائيين الإسبان الذين كتبوا عن المغرب «يجب» أن يمروا بتطوان، أو يذكروها ولو بالإشارة، لكن شخص غويتيصولو وسرده المتمرد فتّتا هذا الوهم. إن صورة المركز لم تعد ضرورية ولا لازمةً روائيةً. وبدلاً منها هناك المدن الأخرى النادرة أو المنعدمة الذكر في معجم روايات الحماية. غير أن الصورة المضادة التي أمعن غويتيصولو في نثر أشلائها لم تفلح في أن تكون متوازنة روائياً حتى إن اعتبرنا عمليةَ نثر الأشلاء المضادةِ المظهرَ البارز من مظاهر الانسجام البلاغي في الرواية. ففي «مقبرة» يُرصد الراوي الأفريقي من حيث هو وسيلة لتحقيق المتعة وتنسيق الصورة الغربية وليس من حيث هو إنسان في حد ذاته أو كائن بشري له سماته السلبية والإيجابية المتساندة بإقناع جمالي مع شخصيته. ليس ثمة لونان أبيض وأسود. وإنما امرأة بيضاء «تبتدع» أسوَدها. قد يقال إن تصوير الأسود من حيث هو متعة جنسية فحسب أو شخصية قذرة مضطهدة إنما يقتضيه السرد ذاته أو الصورةُ الغربية في الرواية وليس خضوعاً لمعطيات الحقيقة في الواقع الخارجي. لكن الواقعين معاً (الداخلي، والخارجي الذي ترفضه الرواية) لا يُقنعان. ففي فصل «من أبعد الأقاصي» يقدَّم الوافدُ غيرُ الأوروپي بصورة لا تكاد تتسرب إليها أية سمة من سمات الضوء الداخلي أو الخارجي. منبوذ مهمش في مدينة ذات ملامح فرنسية (باريس). حافي القدمين. رث الثياب.لا مال له. يتقيه الناس ويطارده الأولاد. ذو رائحة كريهة. مهاجر يتسكع في المدينة. يحاور نفسه أحياناً ويتساءل: لماذا جئت إلى هذا العالم؟. يصفع امرأة توزع منشورات مسيحية في الطريق. مجازياً ليس له أذنان. يحلم بأن يحرق كل شيء يراه. تثيره مشاهدات وأوصاف وحوانيت ومقاه وملصقات أفلام رعب. يدخل قاعة سينما. تولي المضيفة هاربةً منه في رعب. يتماهى مع فيلم مخيف. فيلم «فرانكشتين» وما جرى له مع ضحيته الجميلة واستعداده لامتصاص دمها على طريقة دراكولا. المهاجر يجد ذاته في فيلم الرعب ويمضي إلى عوالم أخرى كما لو كان فوق بساط الريح. أين هو الضوء في التكوين الداخلي أو في الإحالة الخارجية المحتملة؟ أين هي عناصر التوازن في بناء صورة المنبوذ نبذاً تاماً؟ أين هم المحسنون وجمعيات البر بالمهاجرين في تكوين الصورة؟ أين هي السمات الأخرى المضادة لقتامة الصورة؟ لكل ذلك قلنا سابقاً إن الواقعين معا الداخلي والخارجي لا يُقنعان. وفي هذا المضمار لا يظهر أن غويتيصولو قد فارق الرواية الاستعمارية حينما احتفى بتجديد لغتها وإرباك عناصرها وتنويع سمات شخصياتها الغربية من دون أن يلتفت إلى إحداث تغيير جذري في صورة الآخر اللهم إلا على مستوى الشبقية الجنسية والإمعان في وصف المباذل. وحتى إذا قلنا إن الإقناع والتوازن والتعليل أمور غير لازمة في رواية ما بعد الحداثة أحسسنا في أثناء قراءتها أن الإنسان ذاته لم يصوَّر من حيث هو إنسان. إن غويتيصولو بقدر ما يطمح ويفلح إلى حد كبير في تصفية حسابه مع الثقافة الغربية والأوروپية بمواصفاتها المسيحية والبرجوازية والإمبريالية والشيوعية، وينجح في تحريك أسانة المتن الاستعماري وخضخضة أصوله ووظائفه؛ يظل حسابه مع القارئ الشرقي (العربي أو المسلم أو المغربي أو حتى الأفريقي) معلقاً. إنه عمل مرجأ (asignatura pendiente).إن «مقبرة» على الرغم من صدورها عن مشروع ثقافي طموح وبلاغة مفارقة، وخطاب متمرد ومحاور؛ لا تكاد تقطع في بعض صورها، حبل الصلة بالرواية الإسبانية التقليدية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©