الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رقابة ما بعد الموت

رقابة ما بعد الموت
3 سبتمبر 2009 02:25
يبدو أن الموت الحقيقي للمؤلف - لا المجازي أو التكتيكي لحظة القراءة بحسب مقترح رولان بارت - لا ينجيه من سوط الرقابة، أو يجنبه سيفها المسلط على الرقاب، نيابة عن المجتمع الذي تدعي تمثيله وحمايته. بين الرقاب والرقابة أكثر من الجناس الناقص، علاقة وثقى تمتد لما بعد رحيل الكاتب عن الحياة برقابتها ورقابها. ففي الأنباء أن روايتي البريطاني جورج أورويل (مزرعة الحيوان) و(1984) تعرضتا للحجب من قوائم البيع للراغبين بشرائهما لأسباب قيل إنها متعلقة بحقوق النشر والتداول الإلكتروني للنسخ، ولكنها في حقيقتها ترجع إلى ما في الروايتين من نقد وتعرية للشمولية والعسف، والاستبداد بالسلطة، والاستئثار بها تنكرا للقيم والمثل الإنسانية وفي مقدمتها الحرية، ولكشفها التخريب الروحي الذي تمارسه الرقابة ودخولها في تفاصيل حياة البشر وعلاقاتهم. (1984) التي كتبها أورويل عام 1948 ونشرت بعد عام، تجسد يأسه من المستقبل بدلالة قلبه للتاريخ (84/48) وتتنبأ بعالم يحكمه نظام شامل حتى في لباسه، يسيطر عليه الجهاز الرقابي المتطور فيثقب دماغ الفرد، ليقرأ ما يفكر به، ويتجسس عليه بطرق خيالية مخيفة، كان أورويل قد اختزن بذورها خلال معايشته تداعيات الحرب العالمية الثانية، وطلوع النظم المختلفة الأيديولوجيا والموحدة الوسائل، تلك التي تكون فيها للأخ الأكبر كما تسميه الرواية ما لا يحد من السلطات والقدرات، حتى شاع اللفظ في الخطاب الثقافي. المفارقة تكمن في أن حجب الروايتين في بلد أورويل تصادف مرور ستين عاما على نشر 1984، وقرابة ستة عقود على رحيل أورويل، وهي مكافأة أو تحية! جديرة بالتأمل، لا سيما أنها تمس ميراثا إنسانيا لا محليا، فـ (رواية)1984 وحدها ترجمت إلى عشرات اللغات، ودخلت في وعي مشروعات رواد الكتابة الروائية والحداثة الأدبية والفكرية، وقضايا الحرية، واختزلت عبر التمثيل الفني المدهش صراع الفرد والسلطة، وكرست رواية (مزرعة الحيوان) الصراع على السلطة وتبرير الخطاب السياسي المداهن للعسف وخذلان الجماهير المنساقة وراء شعارات الثورة المدوية نظريا، والمفرغة من مضامينها عملياً. ومن المفارقات الأورويلية انعقاد ندوة في الوقت نفسه في الإسكندرية تناقش آليات الرقابة وحرية التعبير في العالم العربي، بحضور بعض ضحايا الإرهاب الرقابي كحيدر حيدر وليلى العثمان وموسى حوامدة ومارسيل خليفة وحلمي سالم والياس فركوح كعينات، ربما كان سواهم أكثر تمثيلا لحالة السوط الرقابي لكن المحذور والمحظور والتكفير والمصادرة والمحاكمة كانت تتطاير في فضاء الندوة ووقائعها المنشورة تعبيرا عن معاناة الأحياء مع رقبائهم، أما رقابة ما بعد الموت العربية فسطوتها وسياطها – وبينهما أكثر من الجناس اللفظي- بحاجة لوقفة أطول يبررها أنها طالت حتى موتى ألف ليلة وليلة بما أن مؤلفها غير معروف أصلا !
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©