السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تنافس الشعراء

تنافس الشعراء
3 سبتمبر 2009 02:26
كان بشار بن برد يتمتع بذكاء متوهج، وفطنة أدبية بالغة، جعلته لا يركن إلى الشهرة التي تمتع بها، بل يسهر على ذيوع شعره ونباهة ذكره بصفة دائمة. وكان يخشى منافسة رفاقه وتلاميذه وتفوقهم عليه، فيناقشهم في نصوصهم وآرائهم، وقد أنشد غزلية رقيقة أمام صنوه وصديقه مروان بن أبي حفصة يقول فيها: لم يطُلْ ليلي، ولكن لم أنَمْ ونفى عني الكرى طيف ألـــمْ نفس يا عبد عني واعلمي أنني يا عبد من لحـــم ودمْ وإذا قلت لها جودي لنا خرجت بالصمت عن لا ونعمْ فبادره مروان قائلا: جعلني الله فداءك يا أبا معاذ، هلا قلت: «خرست بالصمت» فقال بشار: إذن أنا في عقلك، فض الله فاك! أأتطيَّر على من أحب بالخرس؟! فهو لا يود لحبيبته أن تكون خرساء، لكنها تصمت خروجا من المأزق ومراوغة الإجابة. كما لا يرحم صديقه من الدعابة بالدعوة عليه أن يفض الله فاه، منتصرا لحساسية لغته الشعرية ودقة اختياراته التعبيرية، ورافضا لتصويبه المردود. لكنه لا يلبث أن يعترف لأحد تلاميذه بالسبق والتفوق وهو مغاضب له، لأنه يدرك خطر التنافس ويخشى على شعره من الضعف والبوار، وذلك في قصته مع سلم الخاسر، وكان من تلامذته ورواته، فغضب عليه، واستشفع سلم بجماعة من إخوانه فجاءوا إلى بشار في أمره فقال لهم: كل حاجة لكم مقضية إلا سلما، فقالوا: ما جئناك إلا في سلم ولابد أن ترضى عنه لنا، فقال: أين هو الخبيث؟ قالوا: ها هو ذا، فقام إليه فقبل رأسه، ومثل بين يديه وقال: يا أبا معاذ، خِريجك وأديبك! فقال: يا سلم، من الذي يقول: من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيبات الفاتك اللَّهجُ فقال: أنت يا أبا معاذ، جعلني الله فداك، قال: فمن ذا الذي يقول: من راقب الناس مات غما وفاز باللذة الجسور قال: خريجك يقول ذلك (يعني نفسه) قال: أفتأخذ معانيَّ التي قد عنيت بها، وتعبت في استنباطها، فتكسوها ألفاظا أخف من ألفاظي حتى يُرى ما تقول ويذهب شعري، لا أرضى عنك أبدا، فما زال يتضرع إليه ويشفع له القوم حتى رضي عنه. ومن الواضح أن ما أغاظ بشار ليس قدرة تلميذه على مجاراته ومنافسته فحسب، بقدر ما غاظته جرأته في تملك صيغه والتصرف فيها، فقد استولى على صدر الشطرين؛ الأول «من راقب الناس» والثاني «وفاز» وغير في عجز الشطر الأول باختطاف يسير فوضع «مات غما» بدلا من «لم يظفر بحاجته» وجعل اللذة مناط الفوز والجسارة مكافأته. فكأنه قد تجاسر باغتصاب قول أستاذه وادعائه لنفسه. ومع أن هذه الرواية قد وظفت في الكتابات النقدية القديمة في سياق مشكلة التفاضل بين اللفظ والمعنى، فإن ما يعنينا منها الآن هو حساسية بشار وفطنته الأدبية وحفاظه على ملكيته الفكرية للصياغات التي تشمل اللفظ والمعنى معا كما لاحظنا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©