الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سِقْط اللوَى...

سِقْط اللوَى...
3 سبتمبر 2009 02:26
قد لا يكون هذا العنوان معبّراً تعبيراً دقيقاً عمّا أريد الإفضاء به إلى القارئ، وعليّ أن أشرَحه له حتى ننطلق من مستوىً واحدٍ من الفهم، فأنا أريد به إلى التمييز بين العهد الذي كان الكاتب يكتب فيه بقلمه على قرطاس، ثم تطوّر أمره بعد ذلك، وخصوصاً انطلاقاً من مطالع القرن العشرين، حين أتيح للكاتب أن يكتب بالآلة الكاتبة عوضاً عن خطّ اليد المنجَزِ بالقلم والحبر، وبين العهد الحاضر المريح الذي يصطنع فيه الكاتب الشاشة الإلكترونيّة على جهاز حاسوبه. كان الكاتب أوّلَ أمره يصطنع القلم القَصَبيّ الذي كان يغمِسه في الحِبر الذي كان يحضّره -من بين الوسائل التي كان يحضّره بها- من وذَحِ صوفِ الغَنم، ثمّ كان المتعلّم أو الكاتب، على حدّ سواء، يُحرق ذلك الوذَحَ في شَقَفٍ (وهو بقيّة الخزَف المكسّر)، بعد أن يُحْميه بالنار، ثم يضع فوق الوذَح المجمَّع على الشَّقَف حجراً ثقيلاً حتّى يتركّز الوذَح وهو يحترق، ويُمْهله إلى أن يسودّ بالاحتراق، ثمّ يصبّ عليه ماءً ليغتديَ كتلة تشبه العجينة السوداء. وهنالك يضعه في المحبرة التي يزوّدها بشيء من الماء، ثمّ يضع في أعلاها ليقة من الصوف، فيغمس القلم القصبيّ في الليقة المشبعة بسواد الحبر لينتجز فعْل الكتابة على اللّوح أو على القرطاس... ولَمّا تطوّرت وسائل الكتابة، واختُرعت المطبعة في صورتها البدائيّة الأولى، اخترع من بعدها الآلة الكاتبة التي كابدنا من بدائيّتها الويلات... فقد كان لي، فيما يعنيني، آلة كاتبة حقيرة امتلكتها في سنة 1963 حيث دفعت فيها مرتّب شهرين اثنين، وكانت حدثاً عظيماً في حياتي، إذ كتبت بها قريباً من ثلاثين كتاباً، بالإضافة إلى مئات المقالات والدراسات. غير أنّ المسكينة لم تلبث أن هرِمت وشاخت، فاغتدت تكتب لي الجيم حاء، والثاء تاء، والظاء طاء، والضاد صاداً، وكلّ حرف على غير ما هو عليه!... وكنت أقضّي آناء الليل أدقّ على مَلامسها بعنف شديد، وكنت أقطن عمارة طوابقها كخلايا النحل، فكانت الجارات يسألْن زوجتي في الصباح بحيرة: ما ذا كان عندكم أثناء الليل؟ أكنتم ترقصون رقصة «الفلامنكو» الإسبانية؟! وأعتقد أنّ كلّ زملائي الكتّاب في العالم بأسره كانوا يكتوُون بهذه التجربة الْمُرّة نفسِها... وأسوأ ما في الكتابة المخطوطة التي كَتب عنها كثير من النقاد الغربيّين دراسات استخلصوا من التشطيبات والتغييرات التي يقوم بها الكاتب قبل أن يرضى عن نصّه: أحكاماً مختلفة... اليوم لا! لا أحدَ من القرّاء يعرف أسرار تحضير النصّ في حضن الكاتب، لأنّ الحاسوب يمكّنه من إخفاء كلّ تلك الْهَنَاتِ التي كان يعرِض لها لدى تدبيجه... وكلّ ما في الأمر أنّ الحاسوب يخبرك، بينك وبينه، كم دخلت من مرة إلى النص أو خرجت منه، فعدلت وغيّرت، وقد بلغ ذلك بالقياس إلى نصّ روايتنا «وادي الظلام»، مثلاً، أكثر من سبعمائة مرّة، لم يعرف القارئ من أمرها شيئاً... فما أعظم نعمة التكنولوجيا على الكتّاب!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©