الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أرواح عالية..

أرواح عالية..
22 مارس 2012
ثمة أسباب كثيرة يمكن إيرادها لتبرير هذا الافتتان الشعري بقصيدة النثر. أسباب لا تبدأ - فقط - من الرغبة في اجتراح تجربة فنية مغايرة تمكن الشاعر من أن يسم القصيدة بميسمه الخاص، وتعلن فرادته الشعرية التي تقف وراءها بالطبع، وبالقرب منها أيضاً، فرادته الإنسانية التي هي مربط الفرس في العزلة التي يعيشها مختاراً. وعلى بلاغته، فإن هذا التفرد ليس سبباً كافياً هنا، بل ثمة ما يسنده: الرغبة في الحرية ومواكبة مستجدات الحياة عبر أساليب تعبير تنتمي إلى عصرها ولا تتكلس - كما يصرح كثير من شعراء قصيدة النثر - في ثوب القافية القديم أو عباءة النظم وبنية العمود. ذا كانت ثورة الشعراء على الشكل الشعري البيتي مدفوعة بهاجس التخلص من القيود الفنية التي تغلُّ عبارة الشاعر وتحد من تحليق مخيلته، وهو دافع مهم يستحق التدبر إلا أن الأهم من ذلك، في تقديري، بروز وعي شعري مختلف يتطلب صياغة شعرية قريبة أكثر من روح الحياة وما يجري فيها، وقادرة على التعبير عن حضور الشاعر في العالم وتفاعله مع ما يحدث حوله، وفيه (أعني الشاعر)، وهذا ما يميز بين شاعر وآخر من الذين يكتبون قصيدة النثر. من هنا، كان لا بد للشاعر أن يتجاوز مرئيات العالم الواقعي ومحسوساته، إلى عالم آخر رؤيوي/ ذهني/ متخيل/ ينشئه وفق مُراداته الفكرية وانشغالاته الوجودية متكئاً على ثقافة منفتحة، ووعي مبصر، وخيال محلق يمكّنه من نسج صورة قادرة على خلق الدهشة، التي هي واحدة من المداميك الأساسية لقصيدة النثر... وللشعراء في بحثهم عن الدهشة مذاهب: نوعية الخطاب الشعري نفسه، بنية الصورة، جمالياتها، تقنيات الكتابة، واستشرافات اللغة، بلاغتها، كثافتها، والإتيان بما قل ودلّ، والانفتاح على التأويل. رفاق الشعر.. رفاق الحياة في هذه المقاربة لدواوين أربعة من شعراء الإمارات، محاولة لقراءة هواجسهم وانشغالاتهم والبعد الرؤيوي في نصوصهم التي تبدو في المجمل العام قريبة في قولها الشعري لكنها متمايزة في مجرة الشعر الكبرى. وهي تعكس نوعاً من المعاناة، تبدو متقدمة على زمنها الواقعي، لكنها نضجت في حمأة شعرية خصَّبتها القراءة والمعرفة. وهي - على كثرة ما يقال عن انفصالها عن الواقع الشعري في البلد وقطيعتها مع المنجز المتحقق منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي - تبدو الأقرب إلى التعبير عن جوهر الحياة اليومية التي تجري على الأرض... لقد أنضجتها المعرفة والمعاناة على نار هادئة بحيث باتت مصهورة حتى العظم في البحث عن الخفي والمستور وما يستحق القول في الماحوْل. هم ثلة من الشعراء الذين انحازوا في خيارهم الشعري لقصيدة النثر وتجمعهم روح رفاقية وقرابات روحية وفنية شتى. قرابات تتجاوز المقيل المألوف عن قرابة الإبداع بحد ذاتها، تلك العلاقة السرية التي تجعل المبدعين ينتظمون في أحزانهم مثل عقد طويل يتدلى على أكتاف الشعر. تتجاوز بالأحرى ما يعتبر البحر الكبير الذي يمدهم بزادهم الشعري ليلتقوا عند نبع واحد يمتحون منه وإن تعددت الجداول. قرابة نفسية وشعرية تتجلى في اللغة كما في الصورة والدلالات والأفكار. طرقاتهم على باب الشعر تبدو في تجليات إيقاعية متواترة. يشتركون في العزلة وفي الاختلاف عن المنجز الشعري السابق وفي الهم والمعاناة والحزن والوجع والندم والخيبة والوحدة والصراح اللامجدي على الذي لا يأتي، لكن كل واحد منهم، مع كل هذا التشابه، يصنع عزلته على هوى خيباته، ويختلف بطريقة تناسبه، ويأتي إلى القصيدة من حيث لم يأت الآخر، وهكذا... لذلك، لا تزعم هذه القراءة في نصوص الشعراء هاشم المعلم، عبد الله السبب، عبد الله عبد الوهاب، محمد حسن أحمد أنهم يتشابهون شعرياً، بل يقتربون في دوائر الإبداع والإنسانية في تلك المساحة المشتركة بين البشر، فيما يدور كل منهم في دائرته بعيداً عن الآخر، يتقاطع معه لكن لا ينسخه ولا يقلده. هي قراءة تحاول الدخول إلى أرواحهم/ نصوصهم من أبواب شتى لأن كل باب يقود إلى غرفة شعرية متمايزة يؤثثها كل منهم بجملته وصورته وتشبيهاته ودهشته و... بصيرته. الساقطون في غربتهم تأخذ الكتابة في نصوص الشعراء شكل الهذيان، تلتحف اللغة مشدودة إلى احتفالية تتكشف عبرها حكمة العمر الذي يغذ السير سريعاً نحو فناء متقن. تتكشف صورة الآخر، الأصدقاء، الأمهات، الأهل، المكان بكل كائناته التي تعقد معهم حلفاً لا يقبل المقايضة ولا يرضى الانفكاك: اكتبوني كما ينبغي أن أكتب في نصوصكم أو لا ماء لكم عندي ولا دواء... ستظلون هكذا معلقين من أرواحكم في عراء مطلق أو تدخلوني إلى النص بهية كما أشتهي وتشتهي تواريخي العتيقة التي تتهاوى تحت ضربات الزمن الأعمى. هكذا، ذهبوا إلى الشعر محتفلين بحياة مختلفة ومخترعة، برغبة واسعة في التحرر من الأمراض السارية وغير السارية... هكذا، ذهبوا إلى الشعر مشفوعين برغبة الروح في اجتراح ما لا يحصى من الانتباهات. فجاءت نصوصهم أقرب إلى محفل جماعي لفرح غائب أو مستدعى عبر الخيال. يقول الشاعر عبد الله عبد الوهاب وهو يرسم لوحة فائضة بالضجر والقلق والشعور بالغربة الداخلية: (الليلة/ سوف أنام/ سوف أحلم بأي شيء/ حتى لو بالفئران/ أما غداً/ عندما أستيقظ/ هذا إذا استيقظت/ لا يهم/ لن أنام/ وكيف أنام؟/ لقد طار النوم/ حطّ على غيمةٍ/ الغيمة كانت غيمة/ والليل مظلة الغريب). أما غربة الشاعر محمد حسن أحمد فتأتي مناصفة بين الحياة والغياب، معبراً بذلك عن استحالة التحقق الوجودي الكامل في الحياة الرتيبة: (في زهرة دمي/ بكاؤون صغار/ قرأوا ملوحة النزف/ قبل أن تهبط الرصاصة/ ويتقاسموا الهباء المنثور/ وأشيائي المتشابهة/ والمياه المخدوعة بالندى/ ورتابة الأسلاف/ في زهرة دمي/ نصف أوكسجين ونصف غربة). في المقابل يتحقق الشاعر في الحياة المحلوم بها؛ في وطن الخيال سواء عبر المرأة (حين أجدك هنا/ يصبح قلبي نبياً) أو من خلال العلاقة المرتجاة مع العالم: (تعالوا../ نلتقي بي/ نذهب بعيداً حيث تقف الحدود/ مسجون كآخر طيش/ ونكتشف كوكباً/ ونصبح ملائكة). بيد أن الشاعر هاشم المعلم يذهب إلى حياته المتخيلة عبر الموت: (متُّ/ فجأة على ظهر قارب/ مثقل بالكواكب والأقمار/ بنهر يمر تحت نافذتك/ أتراك تنهضين من نومك الرائع كملاك؟/ تفتحين الشباك والروح/ ترمقين القمر/ بأهدابك الطويلة/ تفقئين بصيرة الظلام/ وبيدك الطاهرة/ تلمسين جبيني/ فأحيا). وباستعانته بالمرايا لتجسد حالة التشظي التي يعيشها يكون الشاعر عبد الله السبب قد استحضر نصاب شرخه الروحي واغترابه كاملاً، فالمرايا ليست سوى المعادل الموضوعي للذات تعكس ما يمور فيها من جهة، وتستبصر من خلالها منعرجات الوجه الذي هو في النهاية كتاب الروح: (في المرآة/ يتوهج كل شيء: القلق/ والأرق/ والأوجاع الأخرى!/ في المرآة وجوه../ وجهي أحدها/ والبقية أوجهي الأخرى!/ في المرآة أنا../ أراني لا أعرفني..). المنفيون عن ذواتهم هذه نصوص تطل على الحياة من عينين قررتا أن تريا أكثر من المجال المتاح للرؤية. أن تشهد على حيواتهم وحيوات الآخرين عبر التفاصيل الصغيرة والكبيرة. تفاصيل اليوم والمكان والزمان وهي تكبر أو تنداح خالقة مناخها الشعري مكتنزاً بحس وجداني عارم. بكلمات فجائعية تشق الروح شقاً، بعبارات قلقة، مثقلة، تقلقل الهدوء الساكن في ذات الآخر/ القارئ، تدعوه إلى قراءة العالم من زاوية أخرى أو تطالبه بفتح عينيه على آخرهما لكي... يرى. علاقتهم بذواتهم تبدو متشظية كما هي علاقتهم بالعالم البراني، وها هم يعلنون بتواتر مدهش أن (لا أحد) هنا... لا أحد هناك... لا أحد في أي مكان. هذه الـ (لا أحد) تتكرر مرات ومرات في نصوصهم وفي صيغ متعددة معلنة خواء العالم في نظرهم. هذه الـ (لا) النافية التي تنفي كل شيء بما في ذلك تنفيهم هم: ها هو عبد الله السبب يعيش نفيه الخاص في مونولوج داخلي يعلن خساراته: (تمهل../ لا تلق بحدسك إلى التهلكة/ لا بيتاً من الشَّعر يأوي الذهول/ لا بيتاً من الشِّعر يروي الشرود/ ولا ماء يروي ظمأ البحر/ تمهل../ لا جبل/ يسند ظلك/ جيبك فارغة/ والصناديق/ فاغرة فاها!/ لا...!!). أما عبد الله عبد الوهاب فتحاصره جدران حقيقية ومجازية: (بين أربعة جدران/ وأفكر: لا أحد معي/ لا أحد يطرقُ بابي/ أتحسس الفراغ بأصابعي/ أمحو أنفاسي من على المرآة). ويصوغ هاشم المعلم نفيه الداخلي على هذه الشاكلة: (لم أعد أراني/ في الردهات../ مثل غيمة/ صرت غياباً/ كوكباً مكسوراً/ أتدلى/ من ثيابي). هذا النفي الكامل للذات المستلبة خارجياً يلقي بظلاله على كل ما يحيط بالشاعر، ويأتي تكرار لا النافية بهذه الحدة ليحقق مقاصده أو غايته الشعرية المتمثلة في نفي الخارج نفياً كلياً وقاطعاً: (الشمس/ مجرد كتلة من الصخر/ بيضاء.. ساخنة/ هنالك../ حيث لا مأتم/ لا قتلة/ ولا غابة تبصق/ ولا جرعة من النسيان.. او الوعود/ لا تفاؤل/ لا أسى/ لا مسامير في الرئة/ لا نار في الرأس/ ولا امرأة في القلب/ هنالك..قررت: أن أطفئ هذه المهزلة/ دون رحمة!!). فيما يذهب محمد حسن أحمد في حالة النفي هذه إلى الأقصى، إنه ينفي حتى وجوده الشخصي والتاريخي في المكان: (أنا محمد حسن أحمد/ جيولوجياً لا مكان مؤثثاً لديّ/ ولا حقيبة سفر). القابضون على موتهم في نصوصهم يحضر الموت المهيب في صور متعددة، تراوح بين كونه الصديق المنتظر أو الخلاص الموعود الذي طال انتظارهم له. في نصوص الموت هذه يكتبون وجعهم بلغة حارقة، كأن الكلمات جمر يطلقونه من أدغال أرواحهم لتحترق في البياض، يجرونها من آذانها إلى ليلهم الطويل غالباً، والمكتنز بأحزان من رموز شتى. يجمعون أسنانهم بكاملها ليعضوا على الألم المتدفق من حجرات الغواية، يجتمعون، يبكون، يسخرون، يسأمون، يمارسون الفقد أو التذكر ثم يهيلون التراب على ما يتذكرون. يكيلون للعالم ما يستحق من هجاءات ينشدونها حيناً كما ابتهالات المتصوفة وأشواق العشاق، ويطلقونها حيناً آخر كما لو أنها رصاصة الرحمة الأخيرة لمن في موتهم يغطّون: يقف محمد حسن أحمد في قصيدته “كما لو أنني أراقب طيشي من بعيد” متطلعاً إلى مشهد موته: (أعرف جيداً/ كما لو أنني أراقب طيشي من بعيد/ أن أحدهم جرب جنازتي/ مرة/ مرتين/ ثلاث/ وفي رأسه أفكار بلا رجولة/ ومدن تقاصص الهلع/ لم أفك الحنطة بعد/ لدي ما يدعو للضجيج/ واللجوء عمداً للمعتاد/ هذا أنا/ أنا هذا/ إنها آخر محاولة/ تقف/ قبل جثتي). ورغم أن هذا الشاعر يؤكد على التوحد لحظة الموت إلا أنه لن يموت وحده، مجازياً، لأن (في الركن الخائب بداخلي/ أسماء من سيموتون معي في نفس اليوم..!)، كما أنه يكتب “وصية” لا تخطر مطلقاً على بال القارئ : (بلهجة أخرى/ حين تحملون جثتي/ أقفلوا باب الغرفة جيداً). الغريب أن علاقة هؤلاء الشعراء مع الموت تبدو أشبه بالمزاح، رغم أنهم يأخذونه على محمل الجد، لكن ثمة شيء ما يجعلهم ينسجون ألفة معه، بل إن الشاعر هاشم المعلم يعتبره صديقاً تأخر في المجيء: (هكذا.. كانزلاق الشفرة/ بخدر تسرب وجهي/ جرعة.. جرعة/ أعرف../ بأنني تخطيت عودة فصل الربيع!!/ لا يشغلني الآن.. سوى الموت/ الموت.. هذا الصديق الحميم/ الذي طالما فرشت له جثتي/ وأشعلت شموعاً كثيرة/ هذا../ الذي لا يأتي/ والذي تأخر كثيراً.. كثيراً). بصبر نافد يذهب عبد الله السبب إلى موته: (الصابرون/ قوامون على الشقاء/ وأنا/ لا حيلة لدي../ غير أن الصبر الذي بحوزتي/ نفد صبره وارتحل/ أطلع اليأس على صدري/ فأمطرني فحيح جناته/ وراود القلب عن نبضه!!). ويرسم عبد الله عبد الوهاب الموت في لوحة جماعية: (وحدهم/ الواحد تلو الآخر/ لا أحد معهم/ يجلسون على البحر/ قريباً من الموت/ يدخنون أحلامهم/ يحرثون الفراغ بالكلمات/ وفجأة،/ أحدهم يتخيل: البحر دمعة كبيرة/ وأخيراً/ يتكئون على الليل/ وبعيداً يمضون/ وأياديهم خلفهم/ تاركين البحر وحده يسكر/ وحدهم/ الواحد تلو الآخر/ لا أحد معهم/ بعيداً يمضون / يتوارون عن النظر بعيداً/ وراء جبال الذاكرة/ وحدهم/ الواحد تلو الآخر/ لا أحد معهم). لكن هذا الذوبان في الآخرين المشابهين له في العزلة لا يمنع من استحضار موته الخاص: (الشتاء جاء/ الموت جاء وذهب/ النهار مات، هل تتذكرين؟/ والليل أشبه بورم في الحنجرة/ تحت السماء/ لا شيء تحت السماء/ سوى/ أرض تحترق/ وكثيف دخان/ هل أغلق النافذة؟). ثلة من المغدورين ثمة مرارات مفتوحة إلى آخرها في نصوصهم... ترحال بين براثن لغة تعكس صخبهم الصامت. في الخارج هدوء مكتمل النصاب وفي الداخل غليان يفور في أرواحهم المشرعة على مدى لا يستجيب. ثمة غياب هائل في أعماقهم وذواتهم المتشظية وراء أحلام لا تبين رؤوسها. ثمة رماد كثير يحيل الذاكرة مجامر مشتعلة... ثمة موت غير عادي يزهر في هذه النصوص، لماذا؟ كيف؟ من أين يأتي؟ ربما هو التوحش الذي أصاب البشرية فأنتجت بشراً يغرقون في عزلتهم أكثر فأكثر... بل تروس تدور في آلة جهنمية لا فكاك منها. هي أسئلة تبقى على كل حال معلقة من أقدامها في كلاليب الوجود الهائلة التي تجعل حتى الأشياء اليومية الحياتية المألوفة نصاً موتياً يزدهر فيه الغياب، وتتسع دوائر الجحيم الشخصي الذي اختار كل واحد فيهم أن يهندسه كما شاء وشاءت له العبارة المراوغة لتبوح بالندى الهارب من حواشي الكلام إلى متن الحياة. هكذا، محكومين بتبتل ناقص، بعشق يدفع العالم إلى الانهيار، بالتباسات ضارة يمضون للفقد والخسران والعتمة. في حزنهم يقول الشعراء مشهداً تابوتياً، يصفون متاهات من العذاب المتنامي كما الفطر على جلودهم. يقولون خساراتهم بالجملة الفادحة. لا سند لهم سوى الإيغال في لغة خارج التكريس والقواميس، لغة يلملمونها من كرنفالات العدم التي يشهدونها في تجلياتهم، فتأتي معطوبة حيناً متألقة آخر، تماماً كما هي علاقتهم بالعالم. هم ثلة من المغدورين الباحثين عن نصوص مغايرة، نصوص تجتهد لكي تترجم أرواحهم العالية حين تدور في هواها على هواها وتغني الوطن والمرأة والطفولة والأحلام الصرعى.. وترثي أصدقاء غائبين وموتى لا يعودون لكنهم ما زالوا مقيمين في الروح، في أقبيتها الغائرة، مسجلة سبباً آخر ينضاف إلى نبل الكتابة. قلائل ونادرون هم المبدعون الذين يعترفون علناً بالآخر – الند، الذي يقابلنا أو يشتبك معنا ونقرأ على منعكسات بؤرتهم حضورهم وحضورنا، ذلك ما يفعلونه حين يكتبون عن أصدقاء الحلم والأمل والشعر. يضيئونهم كما لو كانوا يخشون عليهم من النسيان والعتمة. كتابة نبيلة تحضرهم أحياء لحماً ودماً وتصفهم بحنو بالغ، بصداقة وحميمية تنضح بالفقد. تحتشد كلماتهم أكاليل حول أعناقهم، ريانة بالفتنة، تقصي الغبار عن وجوه الموتى. يكتب عبد الله السبب عن جمعة الفيروز بلوعة فائضة: (من يجرؤ / على تعكير صفو البياض؟/ من يجرؤ على لجم الحروف، وإذابة الأحلام، في الطرقات المعبدة بالشكوك؟/ الظنون.. حدائق أسئلة/ أباريق نوايا/ أخاديد فتنة غامضة./ فيما النوافذ.. أساور هواء/ أو أنابيب عاصفة! / الظنون مرايا .. فيما الأحلام/ عالقة بالميادير!!). ويكتب محمد حسن أحمد عن جمعة الفيروز: (ألم تكفك رئتا المدينة تتنفس أمامك؟/ كنت كالخارج من سؤال قديم/ لنا أن نتذكر ذلك الموج الأزرق/ وكل الرؤى/ ويتامى الأصفار على طاولتك الممدودة حتى القهقهة/ لم نقل بأننا سنأتيك غداً/ ولسنا كما يفعلون/ إنها رأس الخيمة ضمنت قبرك فيها/ من أين لنا بالبكاء؟/ أنت شاعر المكان/ نحن الممزقون منك). ويمنح الشاعر محمد حسن أحمد للشاعر أحمد راشد ثاني (قبل وفاته بالطبع) قصيدة جميلة منها: (حين لا يستوعبك العالم/ خذ وطني/ وقلبي/ سجادة للصلاة). ويصب هاشم المعلم لوعته على جمعة الفيروز في قصيدة فوارة بالألم والفقد: (لا بد لي../ أن أقف على قبرك/ وأطمره/ بالورد والتبجيل/ ترى هل يعود صدى ضحكتك/ يوماً/ من جبال جلفار؟/ ونحتفي/ بأننا ولو لبرهة/ قد عشنا وجلسنا/ على الطرقات بسيطين/ تجرعنا كأس الخيبة/ وعلى قامة قلوبنا شيدنا/ بيوتاً للبحر.../ أتراك../ تحدثنا ثانية عن فلاسفة الصين؟/ ولماذا كل ليلة تهبط البلدة من رأسك/ وتختفي عوض الذهاب إلى الطبيب؟/ وأنت تصعد إلى الجبل/ وتهمس لي بأن رجلاً/ أسقط قرص الشمس/ وذهب به في حقيبة/ أتراك لملمت انفاسك العذبة/ من شوارع جلفار؟/ أتراك تقسو علينا إلى هذا الحد؟/ لكننا/ ندرك دوماً/ بأنك تقبع مثل زهرة جميلة/ على/ سطح القلب). وتتسع القصائد للأصدقاء الأحياء أيضاً وبعضها يأتي تحية لشاعر صديق، أو تأسيساً على حالة شعرية اجترحها أحدهم. نحاتو الصورة للتعبير عن رؤاهم الشعرية، تمتينها وتقويتها، يستخدم هؤلاء الشعراء أساليب لغوية متعددة: التشبيه، الاستعارة، المجاز، والأساليب التي تصف أحوال الذات وتشظياتها وتقلباتها على جمر عدمي، كالنفي، والنهي، والأمر، والاستفهام، والاستنكار، والتوجع، واستخدام ضمير المتكلم منسوباً إلى الذات أو إلى الآخر... وغير ذلك من الأساليب التي تخصب الرؤيا الشعرية وتضفي عليها غير قليل من الفتنة، وتفتح باب الأسئلة من دون أن تفتش عن راحة تحققها الإجابات الجاهزة. لكن اللافت في تجاربهم اشتغالهم على الصورة المفارقة، الغرائبية أحياناً. إنهم يعكفون على الصورة، ينحتونها، يدوزنونها بكل الألق المبتغى، وبكل ما لديهم من قوة شعرية. وهم يقطفون في أحايين كثيرة صوراً مدهشة، طازجة، وغير معتادة. بل إن هؤلاء الشعراء لا يكتفون باجتراح الصورة الشعرية المدهشة، وإنما يشيدون مشهداً كاملاً يجعل من القصيدة وحدة متكاملة ويهب لها قوة تصويرية ذات نزوع سينمائي، ولعل هذه الالتقاطات كفيلة بإظهار ذلك: ? مشاهد لهاشم المعلم: (المشهد مجرد من عموده الفقري/ القمر يمد لسانه/ والكآبة تحتفظ بكومة مفاتيح/ عمياء على أية حال/ جميلتان يداك/ لكنهما لا تقرآن سيرة حياتي الممزقة/ على دراجتي الهوائية/ أطوف بلاد الله/ مرقعاً بالأيام/ أجر الغيبوبة ورائي/ وأصفِّر). ? مشاهد لمحمد حسن أحمد: (لا أدري من خرب بكائي/ بشدة/ وراح يعلق ضحكته/ على عمودي الفقري)، و (الموت مصاب بالثراء/ وحدي من عاد.. راح يدوخ الرصاصة في صدره). ? مشاهد لعبد الله السبب: (فيما الشمس، تمشط شعرها وتغني/ فيما البحر/ يحصي ملوحته ويزمجر/ فيما الليل../ يبارك بحراً/ يذرف موجاً/ يبث غرقى/ في معركة/ فيما.../ وفيما.../ وفيما.../ يبدو لي../ أن دماراً يافعاً/ وأنيقاً/ مبرمج سلفاً/ يتهيأ.. للانفجار). ? مشاهد لعبد الله عبد الوهاب: قالوا / في الحكايات: / ثمة عصفور مجنون/ يظن/ أن السماء سوف تقع / على وجهه/ إن هو نام/ ولأنه عصفور مجنون/ ولأنه عصفور/ يرفع ساقية إلى فوق/ وعلى ظهره/ ينام). بالروح نفسها يكتبون، بلغة أشبه بالرمال المتحركة كلما غصت فيها تورطت أكثر، ولا مخرج لك، أنت القارئ المثقل بما في روحك من معارف سابقة، سوى التراجع قليلاً للوقوف على الأرض الشعرية التي عليها يقفون. سوى التخلي عن حكمة مألوفة لصالح الشعر الذي يلمع أحياناً في نصوصهم كما الذهب... أو ينآى تاركاً للمعضلات اللغوية أن تمارس سلطتها عليك، تحاول أن تفهم، تنزع عن الكلمات قشرتها، تؤلف بين متباعدها، تقارب هنا وتسدد هناك لكن المعنى يخذلك. ربما لهذا السبب، يؤخذ أحياناً على هؤلاء الشعراء إغراقهم في الغرابة من جهة، واجتراحاتهم على صعيد اللغة من جهة ثانية... لكن قارئ هذه النصوص بعين البصيرة، لا يملك إلا أن يستشعر كم هي حقيقية هذه التجارب، صميمية بالتمام، لا ادعاء فيها ولا إقحام... إنها غيابات عمر شعري حافل بالاغترابات والحزن الاستثنائي لأحلام مكسورة، وطفولة مغدورة، وأرواح ترتع في العدم وتغفو في لغة شبقة تجاه المعنى، ضاجة، لا تعرف سوى الوجع ولا تتقن، في وحشتها، سوى النشيد. هامش: الشواهد الشعرية الواردة في هذه القراءة مستلة من المجموعات الشعرية التالية: “المدفون في الهواء” لهاشم المعلم، “لا أحد” لعبد الله عبد الوهاب، “المرايا تحدث أخبارها” لعبد الله السبب، و “زحام لا أحد فيه” لمحمد حسن أحمد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©