الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مقياس الجرأة ومقص الصراحة

مقياس الجرأة ومقص الصراحة
22 مارس 2012
“إن مهنة الناقد الغربلة. لكنها ليست غربلة الناس، بل ما يدونه قسم من الناس من أفكار وشعور وميول. غربلة الآثار الأدبية لا أصحابها. إن قصد المغربل من الغربلة فصل الحبوب الصالحة من الطالحة، والقصد من النقد الأدبي هو التمييز بين الصالح والطالح، بين الجميل والقبيح، بين الصحيح والفاسد..”. ميخائيل نعيمة ـ “الغربال” كان صدور “الغربال” لميخائيل نعيمة عام 1923 مستكملا للمهمة النهضوية التي اضطلع بها التنويريون في مجالات شتى، كان دور نعيمة فيها هو تثوير عملية النقد الأدبي، وتغيير مفاهيمه ومعالجاته بما يناسب بوادر وظواهر تلك النهضة. وهو يصب في اتجاه المجددين من المتصدين لثوابت وقناعات الخطاب السائد، يلتقي في هدفه بما كتبه العقاد في “الديوان” الذي صدر قبله بعامين وبالأسلوب الهجومي نفسه. اصطفاف المجددين تدل المقدمة التي كتبها العقاد لطبعة “الغربال” الأولى على هذا التناغم بين نداءات المشرق والمهجر معا، واحتفاء العقاد في التقديم بأفكار نعيمة يعد بحثا عن سند لأطروحات “الديوان” التي رآها العقاد حربا بين طرفين لا ثالث لهما: مجددين ومقلدين. لذا نوَّه بجرأة نعيمة وصراحته، وأشاد بمواقفه من الظواهر التقليدية وثورته على الأوزان، ودعوته لكتابة شعر يصفه بأنه “الشعر الصحيح.. شعر الحياة لا شعر الزحافات والعلل”، ذلك “الشعر الرث الذي تركَنا بلا شعر”. ولا شك في أن عملية الغربلة ذاتها والتنظير لها وجعْلها مهمة ـ أو مهنة ـ النقد، ودفاع نعيمة عنها، وتصدُّر “الغربال” كعنوان للكتاب تفصح عن اصطدام بالثوابت، والاعتقاد بأن النقد يجب أن يتصدى لما هو طالح وقبيح وفاسد، تماما كما هي الغربلة في الواقع، وكما أشار نعيمة إلى شموليتها فأسندها للطبيعة التي تغربل أحياءها وتصنفهم كذلك. وراح يقلّب وجوهها ليلتمس العذر للناقد المغربِل حين يخطئ؛ لأن ثقوب غرباله لا تمسك دقيق الاشياء أحياناً، كما يماهي عملية الغربلة النقدية بردود الافعال عليها، فيستشهد بالمثل الشائع: مَن غربل الناس نخلوه، لذا يحترز بتوقع ما ستؤول إليه غربلته الاعمال التي تصدى لها. وكأي مقترح تجديدي فقد انتظر نعيمه رفضا من فريق ورضا من آخر، وذلك ما ذكره العقاد في مقدمته مذكرا بمعارك “الديوان” المشابهة. لكن أهم ما يستوقف القراءة الاستعادية هنا ليس الثورة على الثوابت النقدية والأدبية فحسب، إنما دعوة نعيمة للفصل في الغربلة بين “شخصية الكاتب والشاعر، وما يكتبه أو ينظمه كل منهما”، فقد كان تأكيده المتكرر لهذه الفرضية النظرية استباقا لما ستبشر به النظريات النصية التي نقلت الاهتمام في نشاط القراءة من البحث عن قائل النص والحديث عنه بكونه مهيمنا على نصه ومنعكسا فيه بشخصه، إلى الاهتمام بما قاله النص نفسه من ملفوظات وكيفية قوله. فيرى لترجيح فكرته أن النظر يجب أن يكون “إلى ما قيل وكيف قيل”، وهي كما نعلم من الكشوفات اللاحقة للحداثة، ومن أسس المناهج الحديثة منذ النقد الجديد حتى البنيوية. ولا نحسب نعيمة قد اطلع على ما كتبه الغربيون في الفصل بين الشخص والنص، بل لا نكاد نجد له منهجا واضحا متأثرا بالغربيين أو مستفيدا مباشرة من نظرياتهم، لكن ذلك جزء من استراتيجيته النقدية بمواجهة المقلدين الذين يصنّمون الاشخاص، ويغدو كل ما يكتبون فوق النقد، وأفكارهم هي التي تُحتذى ولا يمكن تجاوزها، ويمكن تفسير رأيه في غربلة الآثار الأدبية لا أصحابها كمفردة في سياق الصراع مع القديم اجتماعيا وثقافيا لا أدبيا أو شعرياً فحسب. ولكن احتفاء العقاد بثورة نعيمة يقابلها خلاف بين الكاتبين، يفصّله العقاد في التقديم، ويوجزه نعيمة عند الإشادة بـ”الديوان” في فصل خاص به في الكتاب. فهو يوجه ملاحظة عابرة موجزة لكنها تتعلق بالأسلوب؛ فيتمنى لو أن العقاد والمازني قد “ترفّعا كل الترفع عن الوخز في شخصيات مَن ينتقدانهما مِن الكتّاب والشعراء”. ونعيمة بهذا التنبيه يطبق فرضيته حول نقد الآثار لا الأشخاص، كما يصيب في التنبيه لطعن “الديوان” شخصيات من تناولهم بالنقد، وكأن الامر نزاع شخصي لا صراع حول التجديد الاسلوبي. واما اختلاف العقاد مع نعيمة فيأتي من جهة رأي “الغربال” في رفض العناية باللفظ وبهرجته على حساب توصيل المعنى؛ فيرد العقاد بالقول “إن الكتابة الأدبية فن لا يُكتفى فيه بالإفادة، ولا يُغني فيه مجرد الإفهام”، ويذكر ما للغة من قواعد وأصول لا مبرر لمخالفتها. وقد فاتت العقاد لمحة نعيمة الكامنة وراء هجومه على اللفظيين، ومن سماهم بضفادع الأدب الذين “يتوسدون القواميس ويحرقون أمامها بخور قلوبهم” ويرد على أحد نقاد جبران في “المواكب” لقوله: هل تحممت بعطر؟، مبينا ان التحمم ألطف من الاستحمام رغم ما يذهب إليه اللغويون من تخطئة جبران، ويهاجم اللفظيين “الذين لا يرون للأدب من قصد إلا أن يكون معرضا لغويا”. وهذا هو خلاف نعيمة والمهجريين عموما مع سواهم في فهم اللغة ودورها في الأدب والذي لخصه “الغربال” بعبارة صريحة: “غاية اللغة في الأدب وليست غاية الأدب في اللغة”. لكنه يرى أن الإنسان حر بلغته لأنه أوجدها ولم توجدْه هي. فهي آلة بيده لا العكس. وهي متغيرة بتغير حياته. وهذا ما كان ينشده في الغربلة النقدية للقصائد. الغربلة في التطبيق يقوم نعيمة لتأكيد جدوى الغربلة بتحليل عدد من القصائد معلقا عليها بيتا بيتا، وهي طريقة تقليدية موروثة تنبثق من فكرة وحدة البيت واكتفائه بنفسه في خلق المعنى؛ فوقع المغربل بأثر ما يقوم بغربلته فشرع بالتحليل معلقاًعلى الأبيات بعد أن بسط في فصل (المقاييس الأدبية) أهم مرتكزاته النظرية وهي: الحاجة إلى الإفصاح، والحاجة إلى نور يهتدى به في الحياة، والحاجة إلى الجميل في كل شيء، والحاجة إلى الموسيقى. وهذه الحاجات الأربع يفترض أنها برنامجه في التطبيق النقدي على الشعر، لكنه يتناقض معها بتحامله على شوقي ووقوعه في ما عابه على “الديوان”، ووسم تحليله بالسخرية، وبالتهم كالقول بأن مطلع الدرة الشوقية جاهلي. وقد استفزه وصف المجلة الناشرة لبائية شوقي بأنها درة؛ فاستطرد في السخرية وهو يعرض الأبيات، واتهم شوقي بالحشو والانتقال الفجائي من غرض لآخر ما يفقد النص وحدة الغرض، وهو قريب بذلك مما ساقه العقاد في “الديوان” حول تفكك شعر شوقي وافتقار قصائده للوحدة الموضوعية والترابط. كما يتعاطف مع المهجريين في أخيلتهم وصورهم وعواطفهم ولغتهم حين يحلل نصوصا للريحاني وجبران ونسيب عريضة والقروي. ولم نفهم مراده من الحاجة للموسيقى مثلا بعد رفضه للوزنية الخليلية، وسخريته اللاذعة من الخليل ومدرسته والنظّامين من شعراء عصره وأسلافهم. وكان هجومه قويا قاسيا على الخليل وموسيقاه الشعرية المحصورة في البحور وتفعيلاتها وفي الجوازات المتاحة والموصوفة بالزحافات والعلل. ويتهكم مخاطبا القارئ مجردا البحور من معناها المجازي مفترضا ان الشعراء ملاحون يسيرون على سطحها فتواجههم العقبات ويصنعون لها جوازات مباحة لا تزعج طبيعتها لكنها تفسد الشعر. وواصل بعد سنوات تبنيه لمفهوم الغربلة في كتاب أسماه “الغربال الجديد” عام 1973. ونستحسن في تطبيقاته التفاته للعتبات النصية كالعناوين ووظيفتها الدلالية والجمالية، ما لم يكن واراداً في نقد زملائه، فضلا عن الوعي الفني والجمالي بها من الشعراء أنفسهم. مفاهيم عائمة! لا نكتشف تحديدا واضحا إذ نحاول استقصاء الجهاز الاصطلاحي والمفاهيمي للغربلة كما يراها نعيمة. فهو يستخدم ما يعرف في المنطق بالاستدلال أو الإثبات السلبي كتعريف الشيء بضده وما ليس فيه، وربما لجأ إلى طاقته البلاغية وأنشأ كلاما عائما قريبا من الشعر، كما في تعريفه للشعر إذ قال بعد ان أقر باستحالة تحديد الشعر وتعريفه “إن من استيقظتْ عواطفه وأفكاره وتمكن من أن يلفظها بعبارة جميلة التركيب موسيقية الرنة كان شاعراً.. فالشعر إذن هو لغة النفس، والشاعر هو ترجمان النفس”. ولا نكاد نمسك ملموسية ما لهذا التحديد البلاغي الوصفي الخالص، لا سيما وقد جاء بعد افتراضات عاطفية للحالة الشعرية كسؤال القارئ عن ضحكه وبكائه، والخيبة التي تعتصر قلبه، والألم الذي يمزق نفسه.. وصولا إلى أن ذلك ما يخلق في النفس شاعرية ورهافة وإحساسا. ومثله ما قاله في تحديد الناقد ووصفِه بأنه مرشد ومولد ومبدع بصياغات إنشائية لا تضيف جديدا. لكن نعيمة موفق تماما وفي زمن مبكر في تشخيص معضلات ومعوقات المسرح أو الرواية التمثيلية بمصطلحه وأثر الغرب في معرفتنا لها، ويجتهد في مشكلة تحديد لغة المسرحيات بين العامية والفصحى ويطرح رأياً سيتابعه فيه كثيرون مفاده أن العامية تليق بالاشخاص غير المتعلمين في العمل المسرحي، والفصحى بالمتعلمين! ولا تفوتنا الوقفة عند رأيه في تعريب الشعر لا ترجمته فحسب، فهو يقارن بين أدب العرب والغرب، ويسخّف كثيرا من جوانبه التقليدية، ويطلق صيحته المعنونة (لنترجم) متحمسا للإفادة من منجز الآخر الإبداعي، لكنه ينتقد التعريب كعمل يخسر فيه النص المعرّب روحه واسلوبه بالخضوع للضرورات التركيبية والموسيقية التي يقع فيها المعربون ممثلا لذلك بعمل خليل مطران حين قام عام 1922 بتعريب مسرحية شكسبير “تاجر البندقية”، ويدلنا عنوان الفصل على ذكاء نعيمة وفطنته فقد سماه (شكسبير خليل مطران) وكأن المعرب يقدم شكسبيرا آخر ليس الذي نعرفه في المسرحية لما تصرف به فتغير بسبب الانصياع للنظام اللغوي أو اجتهاداته في الترجمة التي يراها نعيمة تعريبا كشف الكثير من أخطائه التي تبعد روح النص عن قارئه..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©