السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

احتفاء بأناقة الرعب!

احتفاء بأناقة الرعب!
22 مارس 2012
يفتتح المخرج الاسباني بيدرو المودوفار فيلمه “الجلد الذي أسكن فيه” The Skin I Live In بمشهد لقصر أنيق في إحدى التلال المعزولة والموحشة على أطراف مدينة طليطلة الأسبانية، مع إشارة زمنية لعام 2012، وبنعومة ماكرة تتحول الإيقاعات الملائكية المصاحبة لهذا المشهد البانورامي الممتد والواسع، إلى (كريشيندو) فائر ومعذّب، مع دخول تدريجي لموسيقى خشنة تتصاعد نحو ذروة التوتر الذي تثيره الريبة، ويؤكده الترقب، ولن يهدأ هذا الإيقاع الشيطاني الملتوي إلا عندما يصطدم بمشهد مناقض تماما لتخمينات المتفرج، حيث نرى فتاة في تكوين جسدي مثالي ـ أشبه بالتكوين المرهف لراقصات الباليه ـ وهي ممدة على أريكة تحتل النصف الأيمن من كادر اللقطة، وحولها جدران بيضاء، بينما ترتدي الفتاة وهي تمارس (اليوجا) قماشا اقرب للون الجلد وملتصقا تماما بجسدها، في المشهد التالي نرى الفتاة ذاتها وهي تصنع تماثيل صغيرة من القماش والشاش الطبي، وتكاد التماثيل تتشابه في ملمحها العام ولكن تعابيرها الخاصة تتوزع وتتراوح بين الصرخة والصمت، وبين الفزع والتأمل. هذا الاستهلال البصري والسمعي المثير للتساؤلات لن يكون غريبا على الأسلوب الإخراجي لألمودوفار، والقائم أساسا على جذب المتفرج إلى قلب المتاهة السردية، خصوصا في النصف الأول من زمن الفيلم، وهي المتاهة التي لن تنفتح مغاليقها في النهاية إلاّ على الصدمة والمفارقات المدوية، إمعانا في تشريح الذات البشرية، وإيغالا في السفر نحو البواطن الداكنة والسرية لأشخاص عاديين ومسالمين يحيطون بنا، ولكنهم وسط الأزمات النفسية المتراكمة قد يتحولون إلى وحوش فالتة لا يمكن السيطرة على نزعاتها وردات فعلها التدميرية. أسلوب خبرناه ولامسناه في أفلام ألمودوفار السابقة مثل: “امرأة على حافة الانهيار العصبي”، و”كعوب عالية”، و”كل شيء عن أمي”، و”تَحدّث معها”، و”متاهة الشغف”، ورغم الطرح الاجتماعي المرّ الذي دائما ما يغلّف قصص أفلامه، ورغم بحثه الجامح في خفايا الجسد السرّي الذي تتحد فيه الذكورة والأنوثة وتتصارع فيه أيضا الرغبات المبهمة والممزقة والمتمردة على التصنيف السوسيولجي الجامد للرجل والمرأة، إلا أن ألمودوفار في فيلمه الأخير “الجلد الذي أعيش فيه”، يحاول ارتياد مناطق إيحائية ونفسية جديدة ومحفوفة بالمغامرة وخصوصا وأن المسار الظاهري لقصة الفيلم والمقتبسة من رواية “تارانتولا” للكاتب الفرنسي تيري جونكيه، يمكن أن يتحول إلى مسار متجه تماما إلى الهاوية الفنية، فالتناول المباشر للقصة قد يقودنا إلى الميراث الكلاسيكي لأفلام الرعب، وخصوصا ذلك الميراث أو الجانب المتعلق بالطبيب (فرانكشتاين) الذي تتحول تجاربه المتمردة على قوانين الطبيعة إلى لعنة تصيب مخترعها في مقتل، وذلك عندما لا يكون المسخ الخارج من مختبر الطبيب المختل، سوى نسخة مشوهة للإنسان الكامل، وسوى كائن ممتلئ بالسُمّ والضغينة والرغبة الشرهة للانتقام. الغرفة السرية أراد ألمودوفار من خلال هذا العمل الجديد أن يجسد حلمه ومشروعه الذي لم يتخل عنه والمتمثل في تقديم فيلم رعب يخلو من المناظر البشعة والضاجة بالصراخ والقسوة المفرطة ونزيف الدم المجاني، فجاءت معالجته للفيلم مفعمة بجماليات العزلة، وما يعتمل فيها من ظلال وانعكاسات وألوان رشيقة، وانتباهات لطرز المعمار الداخلي والخارجي المتناغمة مع التنويعات الحسية لشخصيات الفيلم، والانتقالات المشهدية والسينوغرافية من الضوء إلى العتمة، ومن الحلم إلى الكابوس، ومن العذوبة إلى الصرامة، فرأينا في المشاهد الافتتاحية للفيلم لوحات الرسام الشهير غريكو وهي تحتل جدران القصر الغامض والنائي، في إشارة ضمنية ربما إلى قوة تأثير المشاعر الذاتية والمتفردة للفنان، في مقابل سطوة وجبروت الأسلوب المنهجي السائد على فنون عصر النهضة التي خرج منها غريكو ببصمة شخصية غائرة ومدهشة تنبع من قلق الفنان ورؤيته الخاصة، لا من التعاليم الجاهزة والأنماط المكررة، وربما كان هذا التمرد الفني هو مفتاح ومزاج وخيار ألمودوفار في تقديم فيلم يخلخل ويزعزع النسق السائد لأفلام الرعب التقليدية، خصوصا فيما يتعلق بالتسلسل الزمني، والانتقالات الهشة والشفافة بين الحاضر والماضي، وما يتأرجح بين هذين الزمنين من أطياف وأشباح وأحلام يقظة سارحة ومنسابة ومتجاوزة للتراتبية السردية في الرواية الأصلية، ثم هناك أيضا ما يمكن التوقف أمامه بذهول في هذا الفيلم المختلف في نسقه التعبيري، فمشاهد الرعب والقتل لن تخلو أبدا من أناقة واعتناء بالكادر البصري المحيط بها، خصوصا مع تنويعات آلة الكمان التي طالما ارتبطت بالنوستالجيا التي تنحت بلطف في ذوات عاشقة وملتاعة، وهناك أيضا الألوان الطيعة المترجمة للغنج والأنوثة والمتداخلة مع الملامسات المغرية للريح وهي تنثني وتشاكس وتداعب الأشجار والستائر والغلالات الحريرية لنساء خارجات من بئر الرغبة والمخيلة الأيروسية. تنتشر وتتوغل وترتحل كل هذه الظلال والروائح والإنتشاءات المروعة والأليفة مع بداية تعرفنا على الطبيب روبرت (أنطونيو بانديراس) الذي يحتجز في قصره الفاخر الفتاة الجميلة فيرا (إيلينا أنايا) القابعة بإحدى الغرف المعزولة والسرية، ولا سبيل للتواصل مع هذه التحفة الأنثوية السجينة سوى من خلال الزجاج العاكس، والكاميرات الخفية التي تتلصص عليها وتبث الصور على شاشة عملاقة في غرفة الطبيب ومن كل الزوايا التي ترصد تحركاتها وسلوكها اليومي، وهناك أيضا الخادمة (الممثلة ماريسا باريديس) التي تعتني بشؤون القصر وتقدم الطعام للفتاة من خلال صندوق معدني يهبط إلى غرفة الفتاة ويشبه الصناديق التي تقدم بحذر شديد لنزلاء السجون الانفرادية. رغبات متناقضة في المقابل نرى الطبيب روبرت وهو يقدم محاضرات في الجامعات والمعاهد التخصصية حول اكتشافاته المثيرة للجدل والمتعلقة بعثوره على معادلة جينية وصيغة وراثية تعتبر ثورة طبية وعلمية في مجال الجراحات التجميلية، خصوصا وأن النسيج الجلدي الذي اكتشفه روبرت يفوق وبمراحل الجلد الطبيعي، لأنه مضاد للحروق واللسعات وسوف يعيد الأمل لكثير من المصابين والمرضى والذين يعانون من عاهات وتشوهات خلقية. ويكشف لنا الفيلم تدريجيا عن الشخصية السيكوباتية للطبيب عندما نتعرف على سر شغفه المفرط وتجاربه المحرمة المتعلقة بتخليق أنسجة جلدية بالتلاعب والمزج بين الجينات البشرية والأخرى الحيوانية، حيث تنطلق دوافع هذه الرغبة الجنونية لدى روبرت من إصراره على معالجة زوجته التي تشوه جسدها تماما بعد احتراق عربتها في حادث سير، ولكن هذا الجنون سيكون ممتزجا أيضا بعشق كبير لزوجته التي تحولت إلى مسخ، والتي فشلت كل العلوم التجميلية المتاحة والمتطورة في إنقاذها، الزوجة بدورها لم تمنح روبرت الفرصة الكافية للمضي في تجاربه، حيث ترمي بنفسها من النافذة عندما تستيقظ من غيبوبتها وترى وجهها المشوه في المرآة، وحادثة الانتحار المريعة هذه سوف تتسبب في عقدة نفسية ضارية تذهب ضحيتها ابنة روبرت الوحيدة التي ترى والدتها المشوهة وهي تسقط بقربها في حديقة القصر. وعندما يتقدم بنا زمن الفيلم إلى العام 2006 أي قبل 6 سنوات من الزمن الراهن التي تدور فيه وقائع القصة، يبدأ ألمودوفار في ممارسة لعبته المدوخة والمدوية التي تنسف كل المشاعر المتعاطفة التي ادخرها المتفرج في النصف الأول من زمن الفيلم، والتي هي صنيعة خداع ظاهري أسسه المخرج وتحكم في بنيته وتماسكه، كي يسقطه علينا دفعة واحدة ومن دون تمهيد أو إشارة، حيث نكتشف أن الفتاة فيرا ما هي إلا مشروع لهوس شخصي، وخيال طبي مريض ومحتشد برغبات متناقضة مثل الانتقام والحب، والكراهية القصوى والعشق الهذياني، ففيرا في الأصل هي شاب يدعى فنسنت وتم تحويله على يد روبرت ومن خلال عمليات تجميلية محرّمة ومرهقة، إلى شبيه لزوجته الراحلة، بعد أن اغتصب فنسنت ابنة روبرت في إحدى الحفلات الماجنة، وتسبب في تعميق مرضها النفسي وموتها في النهاية، انتقام روبرت بدوره سيكون مزدوجا هذه المرة حيث يكتشف فنسنت حقيقته في نهاية الفيلم ويحول قصر روبرت الهادئ إلى حلبة صاخبة من الأذى والوحشية والقتل الذي يذهب ضحيته روبرت وخادمته، كي يعود فنسنت إلى والدته التي افتقدته لست سنوات بهيئة أنثى وبذاكرة شاب ارتهن مصيره بجنون الطبيب وبجنون المصادفات الجارحة أيضا!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©