الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإبل.. «موبايلات» العصر القديم

الإبل.. «موبايلات» العصر القديم
22 مارس 2012
يقدم كتاب “الإبل في بلاد الشرق الأدنى القديم وشبه الجزيرة العربية”، الصادر حديثاً عن دار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة للباحث الإماراتي الدكتور حمد محمد بن صراي، مادة علمية غزيرة ومتنوعة عن الإبل التي يهتم كثير من الباحثين والدارسين والمتخصصين من المؤرخين والآثاريين وعلماء الطبيعة والأحياء بتاريخ استئناسها، وبداية تعامل الإنسان معها في شؤون حياته ومعاملاته في نواحي الحياة المختلفة: الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والبيئية. ويرى بن صراي أن “شبه الجزيرة العربية خاصة وبلاد الشرق الأدنى القديم عامة، اعتبرت ميداناً خصباً لدراسة هذا الحيوان من الجوانب التاريخية والآثارية والحيوية، حيث سجلت هذه الحيوانات حضوراً تاريخياً واقتصادياً متواصلاً، وأثبتت عمق العلاقة بين الإنسان العربي أو السامي أو الشرقي وبينها منذ أقدم الأزمنة حتى العصر الحديث”. ورغم أن الباحثين والآثاريين يختلفون حول تأريخ استئناسها وبدايته، إلا أنهم يتفقون، كما يقول المؤلف، على أن “هذه البقعة من العالم هي التي شهدت استئناس الإبل، وأحدث استئناسها واستخدامها ثورة في عالم المواصلات في العصور القديمة”. إبل اللغة ربما تكمن أهمية هذا الكتاب الذي يتناول طبيعة العلاقة بين الإبل والإنسان، وبينهما وبين البيئة، وبينهما وبين التاريخ والآثار والأسفار، في أنه لا يقتصر على تتبع الإبل في اللغة أو الأدب والشعر بل يعنى بالجوانب التاريخية والآثارية، من العصور الحجرية إلى القرن الأول الهجري (السابع الميلادي)، من دون أن يقلل ذلك من أهمية الاستقصاء العميق الذي حرص عليه الباحث في الجانب اللغوي والأدبي، مستعرضاً بشكل مستفيض الكتب التي ألفت حول الإبل في التراث العربي اللغوي والأدبي، وهو الفصل الأول من فصول الكتاب. لا يكتفي الباحث بن صراي بإضاءة مفردتي “إبل” و”جمل” لغوياً، بل يبين وجود مثل هذه الكلمات والمصطلحات في اللغات السامية الأخرى، لإيضاح القرابة المعنوية بين هذه اللغات التي شاع استعمال الإبل بين متحدثيها. فكلمة “جمل” وردت في العبرية والسريانية والسبئية والآرامية والأثيوبية والآشورية والثمودية والصفوية والتدمرية وهي لغات سامية. كما وجدت في غير اللغات السامية مثل: اللغة المصرية القديمة واللغتين اليونانية واللاتينية ومنهما انتقلت إلى اللغات الأوروبية الحديثة. أما لفظة “إبل” فشاعت شيوعاً كبيراً في اللغة العربية، كما عرفت في اللغة الأكادية بصيغة “إيبيلو”، وهي أيضاً بالصيغة نفسها في الآشورية. أما في السريانية فهي على صيغتين: “هبلتا” و”إبلتا”، وأما في السبئية فهي بصيغة “إبل”. وهي في نصوص شمال غرب شبه الجزيرة العربية “بل” مسبوقة بحرف “هـ” - أداة تعريف، وهي بمعنى “ال” - وأحياناً ترد بصيغة “ابل” وعادة ما تكون مثل هذه الألفاظ مصحوبة برسم لجمال. وفي هذا الفصل، تحدث المؤلف عن استئناس الجمل وبداياته واختلاف الآراء حول الفترة التي حدث فيها الاستئناس مع إيراد الدلائل من اللقى والرسومات في عدد من مواقع العصور الحجرية الوسيطة والحديثة في بلاد الشرق الأدنى؛ ومنها: بير طرفوي وبير صحراء في جنوب أسوان والجلف الكبير بمصر، وفي تل عرّاد والقفزة وصبحة وتلّ الجزر ومجدّو بفلسطين، وفي الأزرق وعين الأسد ومدمغة وعن غزال بالأردن، وفي كهف دوراة واللطامنة في وادي العاصي بسوريا وغيرها من المواقع التي خلص منها إلى أن الاستئناس بدأ في الجزيرة العربية. إبل العرب والعبرانيين في الفصل الثاني، وتحت عنوان “الإبل في التراث الديني عند العبرانيين والعرب”، تطرق بن صراي إلى ذكر الإبل والجمل في الكتب المقدسة للديانات الكبرى الثلاث: العهد القديم ثم العهد الجديد ثم القرآن الكريم فالحديث النبوي الشريف والروايات. وقد احتوى العهد القديم والعهد الجديد على العديد من العبارات والفقرات والمصطلحات المتعلقة بالجمال، سواء عند بني إسرائيل أنفسهم، أم عند غيرهم من الشعوب التي تعاملوا معها، أما القرآن العظيم فقد تنوعت أساليب ذكره للإبل وإشارته إليها، تمثيلاً وتعبيراً وتشبيهاً، ولفتاً للأنظار إلى عظم خلقها، وارتباطها بالعربي حياة وفكراً، ثم إن الأحاديث النبوية الشريفة قد بينت بوضوح عمق الصلة بين الإنسان العربي وبين الإبل. وقد رأت العرب في صفات الإبل الخُلقية والخَلقية والتصرفات السلوكية ما يشابه سلوك الإنسان وخَلقه وخُلقه، فكانت كرام الإبل مثلاً في الرغائب والنفائس؛ فقيل “حمر النعم”، ورأت العرب في “حنين الإبل” مثلاً للإقبال والعاطفة والرجوع الى الموطن الأصلي. واعتبر الإحسان الى الدواب المملوكة من الأخلاق الفاضلة، ومن مظاهر الإحسان القيام بعلفها ورعيها بقدر ما تحتاج اليه، والا يحلب من حليبها الا ما فضل عن اولادها، وأن يداوي جرباها ويعالج مرضاها ولا يحملها ما لا تطيق. وقد حرص الرسول “صلى الله عليه وسلم” على الاهتمام بالإبل، وضرب أروع الأمثلة في التعامل معها في سيرها وسفرها ومرضها. واشتهرت في السيرة النبوية ناقة النبي “صلى الله عليه وسلم” المعروفة بالقصواء أو القصوى، والجدعاء، والعضباء؛ وهي الناقة التي هاجر عليها، وهي فقط من دوابه التي كان ينزل عليه الوحي وهو راكب عليها، وهي التي كان راكباً عليها يوم فتح مكة. إبل الأدب والتراث أفرد الباحث بن صراي الفصل الثالث لموضوعة “الإبل في التراث العربي الأدبي واللغوي”، وهو تراث ضخم ومتنوع بمعانيه وألفاظه واستعمالاته، لدرجة تُشعر بوجود ارتباط كبير بين الجمال وبين البيئة العربية لغة وإنساناً، وقد أشبع العديد من الدارسين والمتخصصين هذا الجانب بحثاً وتحليلاً ودراسة ومناقشة، بل وأفرد بعضهم مصنفات خاصة بهذا الميدان المهم، وسيجد القارئ العديد من الإحالات إلى مثل هذه المؤلفات في هذا الفصل. وقد تعددت الكلمات التي تتعلق بالجمل وتصف شكله وخلقته؛ حتى بلغت في اللغة العربية حوالي 10046 كلمة. إبل التاريخ والآثار يُعنى الفصل الرابع بموضوع “الإبل في التاريخ والآثار” من خلال وجودها واستخداماتها في بلاد الشرق الأدنى القديم عبر الأزمان، ولقد كان الجمل في العصور القديمة وسيلة اتصال تفوق في أهميتها أهمية “الموبايل” أو الأقمار الصناعية في العصر الراهن، إذ بفضل استخدامه في المواصلات البرية تمكن الإنسان من تأسيس تجارة متواصلة عبر الصحارى المترامية. كما أدى دوراً اقتصادياً واجتماعياً وبرز دوره السياسي والحضاري، فضلاً عن كونه عنصراً رئيسياً في النظام البيئي الصحراوي. استخدمت الجمال في النقل البري في منطقة شاسعة من بلاد الشرق الأدنى القديم، التي تعتبر المصدر الأكبر لدراسة استئناس الحيوان بوجه عام، ومن ضمنها الأبقار والماعز والأغنام والخنازير والبغال والحمير، ولكن تعد الإبل ابرز هذه الحيوانات على الإطلاق، وأكثرها ارتباطاً بها. وتوجد دلائل كثيرة - وقد تكون مؤكدة - حول استئناس الحيوانات؛ كالأبقار والماعز والأغنام وغيرها، لكن تبقى الإشارة المؤكدة للزمن الذي استؤنس فيه الجمل غير واضحة وغير مؤكدة، كما يقول الباحث، لدرجة أن بعضهم يرى ان الدلائل فقيرة وغامضة، ولا ترقى للاستشهاد بها في تأكيد التاريخ. ولكن هذا لم يمنع علماء آخرين من تحديد الزمن والقيام بالعديد من المحاولات، وإجراء المزيد من التحليلات، واستخلاص النتائج بناء على الآثار والإشارات التاريخية. ويعالج الباحث بن صراي في هذا الفصل الكثير من القضايا المتعلقة بوجود الإبل تاريخياً، من ذلك أن استئناس الجمل ذو السنامين حدث في زمن مختلف عن ذات السنام الواحد، وكل منهما استؤنس منفرداً عن الآخر. ليخلص الى القول: “وما دامت مسألة تأريخ الاستئناس تبقى ظنيّة وافتراضية وغير محسومة، فما المانع من الافتراض أنه لا توجد اصلاً إبل برية، لا سيما أنه إلى الآن لم يعثر على نص صريح أو أثر واضح يؤكد وجود مثل هذه النوعية من الإبل”. ويقرأ بن صراي في هذا الفصل المتميز قراءة علمية، تاريخية، آثارية، كمية كبيرة من الأدلة الآثارية والكتابية والتصويرية التي تشير الى استخدام الجمال في بلاد الشرق الأدنى القديم في عصور متعددة، وفي أماكن متعددة منها: مصر القديمة، بلاد الرافدين، سوريا، الهضبة الإيرانية، الأردن (البتراء وتدمر)، واليمن، وشبه الجزيرة العربية لا سيما دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، ملقياً بذلك الضوء على حقبة مهمة من الحقب الحضارية التي شهدتها المنطقة. احتلت الإبل مكانة كبرى عند العرب تصل الى التقديس والعبادة، وقد ارتبط دفن الجمال في قبور خاصة بمعنى ديني معين. وتدل الاشعار والأخبار والروايات والكتابات والنصوص الكثيرة على أن الجمل كان من عبادات بعض العرب، وقد قرأ الباحث مظاهر المكانة الرفيعة للجمل في ممارسات العرب من خلال عدد كبير من النصوص التي تبرز عادات العرب مع الإبل وطقوسهم عند موتها ومظاهر التقديس التي أحيطت بها، بل ثمة بينها ما يؤكد على أن بعض العرب عبدوا الجمل وعظموه، من ذلك النقش الذي عثرت عليه البعثة الروسية في حضرموت، والنقش النبطي المكتشف في وادي رم، وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد قبيلة طيء: “أنا خير لكم من العزى ولاتها، ومن الجمل الأسود الذي تعبدونه من دون الله، ومما حازت مناع، ومن كل ضار غير نفاع”. لكن هذه الطقوس والسلوكيات التعبدية انتهت بمجيء الإسلام، وحلت محلها التشريعات الإسلامية التي وضعت الأمور في نصابها، وأنزلت الجمل المنزلة التي يستحقها من دون غلو ولا تقديس بل بوصفه مخلوقاً من مخلوقات الله يؤدي التأمل في خلقه إلى الإيمان. بقيت الإشارة إلى أن الكتاب تميز بتنوع مصادره بين الكتب والدوريات العربية والأجنبية، القديمة والحديثة، والنقوش واللقى، وغنى مادته وهوامشه، واعتماده تأصيل المعلومة وتوثيقها بدقة علمية، أما تعدد الاستشهادات والإحالات في الحواشي فهو يقدم صورة واضحة للقارئ؛ تمكنه من التوثق من صدق الرأي أو الفكرة أو الحادثة أو الرواية الواردة في متن الكتاب، لا سيما أن بعضها يثير بالفعل الدهشة ويدفع القارئ الى البحث عن مصادر للتأكد مما جاء فيها. في الإمارات.. عظام الإبل تدلُّ عليها منذ القرن الأوّل الميلادي عبّر الجغرافي استرابون عن ارتباط العرب بالإبل التي عليها معيشتهم، وعليها يحاربون، وعلى ظهورها يسافرون، وعلى حليبها يعتمدون. أمّا الأدلّة الآثاريّة التي تؤكّد وجود الإبل في شبه الجزيرة العربية منذ القدم فهي متعددة؛ مِنها: عثر في جزيرة أم النار (الألف الثالث ق.م) بدولة الإمارات على رسم لجمل على حجر جيري، ضمن الجدار الدائري للقبر 3 في الجزيرة. وفي أم النار أيضاً عثر المنقبون على كميات كبيرة من العظام، تمثل عظام الجمال النسبة الكبرى منها؛ إذ بلغت زهاء 200 عظمة. واعتُقِدَ أن هذه العظام لإبل برية مصادة، وهو افتراض غير صحيح؛ إذ أن هذه الجمال كانت جمالاً مستأنسة وليست برية؛ لأنها موجودة في جزيرة صغيرة معزولة عن الساحل، بعيدة عن أماكن الصيد لو وجدت. على أن كثرتها ووجود جمال صغيرة من بينها - وبعضها حديث الولادة كما دلت على ذلك تحليلات العظام - يشير إلى أن السكان قد أحضروا هذه الإبل، وتولوا تربيتها والاحتفاظ بها بطريقة طبيعية، واستخدموا بعضها في نقل النحاس من أماكن الإنتاج في داخل شبه جزيرة عمان إلى أم النار بهدف التصدير إلى الخارج؛ وخصوصاً إلى بلاد الرافدين. كما عثر المنقبون على مجموعة من عظام الإبل في مواقع آثارية؛ مثل: موقع جبل البحايص (BHS18) بالشارقة، حيث عثر الآثاريون على خمسة أعظم يمكن أن تكون لجمال، ولكن دون العثور على هياكل عظمية كاملة، وهي في حالة سيئة؛ إذ تعرضت للحرق. ولما كانت موجودة في موضع يعود للألف الخامس ق. م، فإن هذه الجمال تعود بالتأكيد للفترة نفسها. وهذه العظام تعود لجمال ذات سنام واحد، واتضح ذلك من خلال التحليل والمقارنة. ولكن لا يعرف هل هذه عظام تخص إبلاً مستأنسة أو غير مستأنسة؟ وقد تكون عظام الإبل في جبل البحايص لأسلاف الإبل العربية. ووجدت عظام للجمال في جزيرة غناضة وهيلي 8 بـ (أبوظبي)، وشمل برأس الخيمة، وتل أبرق بين الشارقة وأم القيوين، وفي قلعة البحرين وموضع سار بالبحرين. وتؤرخ هذه المعثورات بالألفين الثالث والثاني ق. م، والتقطت دمى طينية على شكل حيوانات ذات رقاب طويلة - ربما تكون جمالاً - من موقع العصر الحديدي في برميلة بالعين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©