الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مجالس نجيب محفوظ

مجالس نجيب محفوظ
22 مارس 2012
مازال هناك الكثير الذي يمكن أن يقال عن نجيب محفوظ، نعرف أن الدراسات النقدية حول أعماله لن تتوقف، لكن حياته وسيرته مازال فيها الكثير، وهذا ما يقدمه الروائي السكندري سعيد سالم في كتابه الجديد “نجيب محفوظ الإنسان” فقد رصد فيه جلسات محفوظ ونقاشاته في الاسكندرية. كتب الكثيرون حول مقاهي محفوظ في القاهرة وندواته بها، منذ كان يعقد جلساته في ميدان الاوبرا بالقاهرة، حتى أوقفها الأمن في منتصف الستينيات من القرن الماضي فاتجه إلى رمسيس ومنها إلى كازينو قصر النيل وفي كل مكان حكايات ومشاهد لكن جلساته بالاسكندرية لم يكتب عنها أحد، كان محفوظ يقضي الصيف سنويا بالاسكندرية، وكان هناك ملتزم بطابعه الخاص حيث يجلس بمقهى فندق “سان استيفانو” وتنقل بعده إلى مقاه أخرى، وكانت له أمسية هناك كل ليلة، يلتف حوله الأصدقاء والمريدون، وأدباء الاسكندرية وكتابها، خاصة أنه في بعض السنوات كانت الجلسة تضم توفيق الحكيم وكان هناك باستمرار ثروت أباظة. بلا شروط جلسة الاسكندرية تشبه جلسة القاهرة في أن محفوظ لم يكن يضع شروطا أو يحدد أسماء المشاركين أو من يحق لهم الجلوس، المكان مفتوح للجميع بلا تمييز وبلا قيود، حول المائدة تلتف كل مجموعة تتحاور في موضوعات شتى تتعلق بالفكر والدين والفن والثقافة والسياسة وأحيانا تتبادل النكات والقفشات. ويقول الكاتب موضحا ذلك حول المائدة يجلس ملحد وأمامه مسلم متشدد وآخر معتدل وبجواره مسيحي متحرر وآخر متعصب ومعهم يجلس من لا لون له ولا طعم ولا رائحة، طوال الجلسة كان محفوظ يشرب فنجانين من القهوة يحتسي من كل منهما رشفة او رشفتين على الأكثر، وهو بذلك يحافظ على طقسه ومزاجه ولا يخالف شروط الأطباء ونصائحهم بأن يتجنب قدر الإمكان احتساء القهوة بسبب السكر والضغط، وكان يدخن سيجارتين فقط، بين الاولى والثانية ساعة بالضبط، وكان يخرج الساعة يتأملها ويضع علبة السجائر، أحيانا كان يجد أن هناك دقائق متبقية، فيظل منتظرا، وما ان يحل موعد انصرافه من المقهى، حتى يقول لأصدقائه “ياللا بينا” معلنا بذلك انتهاء الجلسة. في إحدى الجلسات يأتيه شاب بقصيدة عامية مطولة مكتوبة، ويضعها في يد محفوظ مطالبا إياه بأن يقرأها بصوت عال ويقوم بتقييمها، فيتخلص محفوظ من الموقف قائلا للشاب انه لن يتمكن من القراءة لأنه نسي النظارة الخاصة بالقراءة، رغم انها في جيبه، فيبدأ الشاب قراءة القصيدة، التي تصيب الجلوس بالملل ويتهكم بعضهم على كلمات القصيدة، لكن الشاب يهمه رأي محفوظ، وبمجاملته الرصينة يقول له الأستاذ القصيدة جميلة، لكن الأفضل ان تعرضها على متخصص في الشعر فقد يكون الوزن مكسورا، هكذا كان محفوظ يتعامل مع من يسميهم الأصدقاء المتطفلين على الجلسات. وفي الثمانينيات من القرن الماضي كانت رواية محفوظ “بداية ونهاية” قد تحولت إلى مسرحية عرضت على أحد مسارح الدولة في فترة الصيف، وجاء أحد كتاب الاسكندرية ليجامل محفوظ قائلا “لقد كانت المسرحية ناجحة جماهيريا لدرجة غير متوقعة” لكن محفوظ يفاجئ ذلك الرجل بالحقيقة “للأسف لأ.. الناس كانت مشغولة بالفرجة على كأس العالم.. غير الفوازير والمسلسلات، ولولا ان النجوم الكبار ما بيشتغلوش في رمضان ما كانوش اشتركوا في المسرحية”. وحاول صاحبنا المجامل ان يخفف من مجاملته ويهدئ من ملاحظة محفوظ لكن الأخير كان غاضبا اذ واصل قائلا “يا راجل دول حتى أهل بيتي اتعجبوا لأن ماحدش بعت لهم دعوة عشان يحضروا المسرحية”. ثم قال “لأ والاكثر من كده انهم ماخدوش رأيي انا في المسألة”. وحاول سعيد سالم ان يحول الموضوع الى نكتة فقال “معلش يا نجيب بك.. في حب مصر” لكن نجيب محفوظ ينهي الموقف بالقول “ده برضه في حب مصر، برضو ما اخدوش رأيي أولاد...”. الهواية والحرفة لم تكن الجلسات كلها أحاديث مرسلة وقفشات، لكن فيها الكثير من النقاش الأدبي والفكري وكذلك السياسي، حين تعرف سعيد سالم بمحفوظ فوجئ بأن الأخير يسأله “هل لك وظيفة” ولما أجابه بأنه يعمل مهندسا في إحدى الشركات رد محفوظ بارتياح “الحمد لله”، وكان السبب ان نجيب محفوظ التقى في حياته ببعض الشبان الذين تركوا وظائفهم وأعمالهم وتفرغوا للأدب، فكانت النتيجة أن بينهم من لم يتمكن من أن يعيش “حياة كريمة” ولم يحقق إنجازا كبيرا في الأدب، ونصح محفوظ الروائي الشاب الذي أمامه “اجعل من الأدب هوايتك لا حرفتك حتى تضمن الاستمرار وتتجنب اليأس” وقال محفوظ أيضا متحدثا عن نفسه “ لقد اعتبرت الفن حياة لا مهنة، فحينما تعتبره مهنة لا تستطيع إلا أن تنشغل بانتظار الثمرة، أما أنا فقد حصرت اهتمامي بالإنتاج نفسه وليس بما وراء الإنتاج، وكنت اكتب واكتب على أمل ان الفت النظر الى كتاباتي ذات يوم، بل كنت اكتب وأنا معتقد أنني قد أظل على هذه الحال دائما”. وفي جلسة أخرى أكد ثروت أباظة للأدباء السكندريين في جلسة الصيف “نجيب بك جاء عليه وقت كان لديه خمس روايات موضوعة في الدرج ورفض الكثير من الناشرين الاعتراف به لولا جماعة السحار - يقصد لجنة النشر لشباب الجامعيين التي أسسها سعيد عبدالحميد السحار وعدد من زملائهما. وفي عام 1989 اشار د. محمد زكريا عناني استاذ الأدب بجامعة الاسكندرية وهو من المتابعين للكتاب الشباب بالاسكندرية إلى إن رسالة وصلته من أحد الشبان لينقلها الى نجيب محفوظ وكانت الرسالة مليئة بالشتائم والاتهامات وفكرت مجموعة الاسكندرية في عدم إبلاغ الاستاذ بأمر هذه الرسالة وفكر د.عناني أن يبلغ النيابة العامة بأمر ذلك الشاب ولكنهم قرروا عرض الرسالة على صاحب الشأن نجيب محفوظ وأن يقرأها أحدهم له ويتابعوا رد فعله، وبهدوء شديد قال لهم “ هؤلاء الشباب مساكين يغسل المتطرفون أمخاخهم ثم يحشونها بأفكارهم القائمة على التشدد والعنف وتكفير كل من يخالفهم، وأنا متأكد أن هذا الشاب لم يقرأ “أولاد حارتنا” ولا غيرها من رواياتي”. وبدأت التعليقات من الحضور، هناك من يريد إبلاغ الجهات الرسمية عن ذلك الشاب، وهناك من طالب بإحضاره للنقاش مع محفوظ والتحاور معه وبعضهم حبذ التعامل بعنف مع هؤلاء الشبان خاصة بعد ان اتجه بعضهم الى الإرهاب، لكن محفوظ رفض الاقتراحين وقال عن هذه الظاهرة عموما إن الأمر لم يكن بحاجة الى مواجهتهم بالقوة لو كان الطلبة يعيشون في جو ديمقراطي يتمتعون فيه بحرية إبداء الرأي من دون عنف.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©