الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جمال التّضاد الذي لا يُضاهى

جمال التّضاد الذي لا يُضاهى
17 مايو 2017 19:36
لا يخفي الكثيرون إعجابهم المتزايد بشخصية (هاملت)، التي انتزعها شكسبير من واقع تاريخي ووضعها في إطار فني أخاذ اخترقت فيه شخصية هاملت المسرحية القرون الأربعة الماضية، وظلت تشع في قوتها ومهابتها.. وسحرت نفوس الشباب بخاصة، بل واستطاعت أن تمثلهم في قلقهم وتوثبهم وحبهم. وكذلك فعلت شخصية أخرى هي شخصية (رامبو) الشاعر الفرنسي الذي عاش في الربع الأخير من القرن التاسع عشر شاعراً ثائراً على الأعراف والتقاليد الفنية والحياتية، وانتهى متشرداً في غابات أفريقيا لا يعرف ماذا يريد بالضبط، فقد كان عنفوان شباب (رامبو) وصراحته ولغته المدهشة مثار انتباه دائم للشعراء الشبان بخاصة خلال قرن كامل مضيء وفي جميع الأمم. المصير المشترك والآن ما الذي يجمع (هاملت) بـ (رامبو)؟ القلق، التوتر، الدهشة، الحيرة أمام الآخرين، الأسئلة الكثيرة، الأم اللامبالية بولدها، العزوف عن المرأة، الحب الفاشل، الكثافة النوعية، التوثب باتجاه هدف بعيد، السفر والتجوال. كل هذه الأمور، وغيرها كانت تجمع الشخصيتين، ولكن أشد ما كان واضحاً في سيرتهما هو هذا المصير الأسود الدامي الذي واجههما به القدر، لقد تحديا شيئاً ما… وقفزا باتجاه المطلق… كان هاملت يطلب المستحيل عندما أراد أن يثأر لأبيه لأن كل شيء كان قد انتهى واستتب. وكان رامبو يطلب المستحيل عندما اخترق بروحه الهائمة المعذبة المصائر. الصغيرة التي كانت تتربص به وانتهى صريع وهم التجوال والحيرة. كلاهما تعذَّب عذاباً قاسياً وفقد من إهابه الكثير… كانا في بداية خط الشروع واقفين بشموخ وبعينين تلتمعان وبأنفين مرتفعين وبثبات وعزم وقوة، وما إن أطلق المراقب إطلاقة البدء بالسباق حتى قذفا بنفسيهما دفعة واحدة بوجه المطلق فتمزقا. وكانا يرممان ما تمزق منهما وهما في الطريق لكن جسديهما كانا يتساقطان لحماً وعظماً ودماً… لقد فقدا كل شيء ولم تعد سوى الأنفاس الحارة الصاعدة والهابطة بصعوبة وسوى عينين تخفيان بريقاً خفياً وسوى يدين تلوحان لنا … وداعاً. كان هاملت أمام أوفيليا أشبه بالمجنون، ولكن جنونه لم يكن عاطفياً أو جنسياً بل كان جنوناً ميتافيزيقيا… ليس به حب كبير للمرأة فقد سلت أمه كل هذا الحب وحولته إلى نوع من الكراهية أو الحياد إزاء المرأة، وقد كانت واحدة من مآسي أوفيليا أنها تقابل شاباً محيراً في عواطفه إزاءها… لقد كبلته أمه بحبها وجزّت بعدها قلبه عندما خانت أباه وتزوجت عمه. وكان رامبو لا يحب النساء… ومع ذلك فقد أحب أوفيليا وكتب عنها واحدة من أجمل قصائده، وهكذا أعطانا رامبو الدليل على أن له علاقة بهاملت من خلال أوفيليا. لقد فعلت أم رامبو الشيء ذاته الذي فعلته أم هاملت بولدها، فقد كبّلته بحبها (وكان أبوه قد هجرها) فتسترت أمه خلف الصليب وانغمست في مغاور الكتاب المقدس، لكنها كانت ترفع رامبو شيئاً فشيئاً على الصليب أيضاً وترسم نهاية حياته من بعيد. وهكذا خاض الاثنان في مصيرهما وهما يتلفتان إلى المرأة/‏‏‏ الأم ويلعنان كل امرأة في الطريق. أحب هاملت الفلسفة وكان طالباً لها. وأحب رامبو الشعر وكان مطلوباً له… وبذلك ساهمت الكتب في رسم المصير أيضاً وكان يشوب كلّ ذلك التوتر والقلق والجنون. الهاملتيّة و الرامبويّة (الهاملتية) كانت موضة الشباب في القرون الخوالي وأصبحت (الرامبوية)، مع الزمن، منافساً شديداً لها، لقد اكتشف الشباب الحالي في (الرامبوية) قوة أعلى اندفاعاً مهولاً أمام المصير فقلّده كثيرون في الشعر والحياة. وأحسب أن (الرامبوية) ستزداد بريقاً ولمعاناً وسيصبح عمقها البعيد متمثلاً في (الهاملتية)… هذه أفكار قد لا يرى فيها الآخرون مسوغاً ولكني أتحدث عما رأيت وما عرفت في الوسط الشاب المثقف. وأنا لا أبرأ من التأثر بـ(هاملت) أو بـ(رامبو)، فقد شكلا عمودين أساسيين في ثقافتي، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك يوم كتبت مسرحية (هاملت بلا هاملت) وكتابي الشعري النص المفتوح (عكازة رامبو)، إن حب هذين الكائنين ولّد في نفسي اضطراباً لا مثيل له وجعلني على حافة هاوية أنظر منها إلى كنوز النفس البشرية عندما يهيِّج أتونها عمود من حديد ويقلب جمراتها وأسرارها ورمادها ونارها المستعرة. واليوم أقف حائراً أقول (ليس هناك تفاصيل حياتية متشابهة بيني وبينهما، إذن لماذا كل هذا الحب؟)، وقد لا أعرف كيف أجيب لكني عندما أقرأ سيرتهما وأقرأ كلماتهما أجد الجواب، وأستطيع أن ألخصه بهذه الكلمات (التوتر الميتافيزيقي أمام العالم)، ورغم أن فلاسفة عظام فصلوا في شرح هذا التوتر، ولكن هاملت ورامبو عبرا عنه بعفويةٍ صادقة لا مثيل لها تختصر كل ما كتبه الفلاسفة والشراح عن هذا الموضوع. سيبقى (هاملت) و(رامبو) ينبضان بالقوة والجمال طالما كانت هناك نفوس هائمة قلقة تبحث في الحقيقة، ولكن أية حقيقة؟ إنها حقيقة الروح، وربما حقيقة الشعر. هوميروس وأورفيوس في ولادة الطفل الكثير مما يرمز إلى حقيقة بالغة الدقة تقول بأن الحقيقة (أية حقيقة) تبدأ بصورة معكوسة ثم يبدأ تعديلها بالتدريج حتى تصبح في وضعها الصحيح، إذ يولد الطفل ومعه معكوسات عديدة منها أنه يأتي على رأسه لا على قدميه ثم تستقيم حياته بصورتها المعروفة وهو ينام في النهار ويستيقظ في الليل ثم يبدأ تدريجياً بتصحيح حالته فيعكسها ويولد الطفل وهو يبكي وتبقى حالات الضحك أو الهدوء نادرة في بداية ولادته حتى تصبح بعد ذلك حالات البكاء هي النادرة في حياته، وهكذا. والحقائق أية حقائق… عقلية كانت أم مادية تبدأ معكوسة ثم تتصحح بشكل تدريجي، وقد سجل لنا تاريخ المعارف البشرية حالات كثيرة جداً تؤيد ما ذهبنا إليه بدءاً من تصور الكون والتهاء بأبسط التصورات المرتبطة بتفاصيل الحياة. ورغم أن للشعر جوهراً أزلياً خالداً، فإن ظهور هذا الجوهر لا يحصل دفعةً واحدة، بل تتجمع أعراض كثيرة زائلة وتمر حقب طويلة حتى يبدأ هذا الجوهر بالظهور ثم الرقي، ويناظر ظهور الشعر ظهور الروح وعلوها (انتباه خاص لهيكل) رغم أننا نرى أنها لا تظهر وفق تصور يمكن كشفه أو وضعه، بل يمكن تلمسه والإحساس به وهذا يعني أن الشعر والروح يرتبطان في جوهر واحد ويمكن تمثل ظهورهما بطريقة متشابهة إلى حد كبير. لقد بقي الشعر في أحقاب ظهوره الأولى عملياً ويرتبط بالحاجات المباشرة والآنية للإنسان وما التأملات والخيالات التي تبطنه سوى مفارقة حدثت بسببين: 1. البعد الزمني الشاسع بيننا وبينه مما يتيح إمكانية لتحول العادي العملي إلى استثنائي خيالي لأن المطابقة المباشرة بين عام 3000ق.م وبين 2000 ميلادي تسيب فجوات وثغرات ومفارقات يمكن أن تكون سبباً في النظر إلى الأمور بصورة أخرى. 2. الترجمة، لأن تلك الأشعار القديمة لا بد أن تكون قد كتبت بلغات غير مستعملة حالياً (مندثرة) ومحاولة تطابق نظامين بلاغيين وأسلوبين الأول يخص اللغة القديمة، والآخر اللغة المترجم لها تسمح بخلق فجوات وثغرات ومفارقات من نوع آخر. 3. وهكذا… يمكن أن نضع حداً لتلك الشاعرية المتدفقة من الماضي البعيد على أنها مصدر الشعر وينبوعه والقول ببساطة إنها طفولة الشعر وإرباكه. في تلك الأزمان القديمة ولنأخذ اليونان مثلاً، ظهر هوميروس الشاعر اليوناني (العملاق) بعد أن استطاع صياغة الأساطير والأغاني والتراتيل الشفاهية الخاصة بالآلهة وبالأبطال والقادة في عملين كبيرين هما الإلياذة والأوديسة، وهما في حقيقتهما قصص وروايات مكتوبة بطريقة الشعر والأصح بطريقة الوزن ويبقى هوميروس حاكياً وراوياً أكثر من كونه شاعراً لأن أعماله تستعمل بعض آليات الشعر بينما هي في منطقة القصة أو الرواية أو الملحمة… ولكن الذي حصل فيما بعد وبسبب من شعبية وبساطة أعماله الأدبية هو سيادة النمط الهوميري في الشعر فقد حذا حذوه كل شعراء اليونان اللاحقين، بل واستمر في تأثيره بشكل أو بآخر على أوروبا لغاية القرن التاسع عشر، فقد بقي الشعر يناغي الحكاية ويتضمن شذرات منها، ويكاد الشعر الذي تبع هوميروس يكون مثقلاً بالنمط الحكائي والقصصي، ولذا يمكن القول إن ما فعله هوميروس بالشعر يشبه ما فعله أفلاطون في الفلسفة وأرسطو في المنطق، لأن الفلسفة بعد أفلاطون ظلت مثقلة محكومة برؤيته وإلى فترات قريبة، ولأن المنطق بعد أرسطو كان كذلك. لكن هناك حقيقة تبرز في هذا المجال وهي أن هناك نمطاً آخر في الشعر نشأ مع النمط الهوميري وهو النمط الأوروفي نسبة إلى أورفيوس الشاعر العازف أو المغني الذي أُلِّه والذي كان يؤلف أشعاراً غنائية بسيطة لا قصة فيها ولا حكاية، بل هي تجليات وجدانية كثيفة كانت تمثل بداية صحيحة للشعر لكنها كانت واقعة تحت المظلة الكبيرة الهوميرية، ولذلك أصبح النمط الأوروفي محدوداً غير قابل للتداول الشعبي أو الجماعي، بل كان يقتصر على فئات صغيرة من الناس. لقد استمر النمط الهوميري طاغياً طيلة ألفي سنة حتى جاءت الحداثة الشعرية مع بودلير ومن تبعه فتحول الشعر من النمط الهوميري إلى النمط الأورفي وكان هذا التحول المهم تحولاً يصبّ في جوهر الشعر لا في أعراضه الكثيرة الزائلة. وبذلك استطاعت الحداثة الشعرية أن توقف الشعر على أقدامه بعد أن ولد على رأسه، لقد تخلص الشعر من طبيعته الحكائية التراتبية الأفقية واتجه نحو الطبيعة الكثيفة الوجدانية العميقة… وانطلق منذ ذلك الحين يؤسس نفسه في مكان آخر ربما فوق الأمكنة بعد أن كان يسير على الأرض. لقد ولد الشعر بصورة معكوسة واحتاج إلى ألفين من السنوات حتى يكون في صورته الصحيحة رغم أن هذه الصورة الصحيحة كانت موجودة مع ولادته فإنها منزوية ومهملة ومبتسرة. إن النمط الأوروفي في الشعر لا يلغي النمط الهوميري وينهيه تماماً ولكن الشعر بطبيعته يقترب من الأورفية وينفر من الهوميرية. لقد كان أورفيوس رمزاً لجوهر شعري مغاير لاتجاه هوميروس الذي كان شارحاً ومسطراً لأساطير قومه المتميزة بخوارقها، والتي كانت تبدو كما لو أنها شعر. إن اللبس الذي وضع فيه هوميروس الشعر تمثل في أنه أعطى قوة للشعر من خلال قوة الحدث، ولذلك أصبحت معجزات وخوارق ومجترحات أبطال الإلياذة والأوديسة غشاء يحجب طبيعة الشحنة الباطنية العميقة التي يحملها الحدث وأصبحت القشرة الخارقة للحدث واضحة ظاهرة أمام الأعين على أنها الصدمة التي يحملها الشعر معه، أما الشعر الأورفي فقد حمل كثافته وقوته معه في داخله… في غنائه العميق وفي العلاقات التي كان يمخر فيها مغامراً وفي الشفرة الخاصة به، أما طبيعة الحدث فيه فقد تكون بسيطة أو كبيرة، إذ لا أهمية لذلك قوة الشعر تكمن في أعماقه لا على سطحه. ورغم غلبة الشعر الهوميري القوي المفتول العضلات الصلد في العصور اللاحقة فإنه لم يتمكن من محق أو قتل الشعر الأورفي الضعيف المكتنز الدافئ من الداخل الذي يحمل سره في أعماق عباراته وصياغته، وهكذا نهض الشعر الهوميري قوياً طويلاً ونهض معه سر داخلي بسيط ومحدود وعندما قطعت البشرية شوطاً طويلاً من عمرها اتضح أن الشعر الأورفي هو الذي يمثل حقيقة الشعر لا الشعر الهوميري، ورغم ذلك فقد كان هذا الصراع مخصباً وكانت نتائجه مثمرة في تكوين الشجرة الشعرية اللاحقة، وقد ظل قانون الصراع هذا من لحظات بالغلبة للاتجاه الهوميري وبالانحسار للاتجاه الأورفي حتى أتت لحظة نوعية من لحظات التاريخ الشعري (منتصف القرن التاسع عشر)، فانقلب الأمر وبدأ الشعر الأورفي (بودلير، رامبو، ملارميه، فيرلين، سان جون بيرس) هو الذي يعيد ترتيب الحادثة الشعرية من جديد، وهو الذي يجلس الطفل الوليد على قدميه بعد أن جاء على رأسه. لقد أتيت بهذا المثال لا لكي أجعله قانوناً عاماً وحيداً ومطلقاً، بل لكي أوضح الفكرة التي خلفه. إن الشعر الذي يشتمل على نوع من البوح الوجداني العميق أمام العالم هو الشعر الذي أصبح جديراً بتمثل طبيعة الشعر رغم تعدد طرقه وأساليبه، أما الشعر الاستطرادي الحكائي المترهل الذي يتتابع ولا ينمو، فقد اندرج ضمن الماضي أو أن مادته تفتت داخل نسيج الرواية والقصة والملحمة المعاصرة، والآن هل لنا أن نقرر من هو الشاعر العظيم، في عصره هوميروس أم أورفيوس؟ أعتقد أن الجواب واضح وموجود في ثنايا هذه المقالة. القوي والضعيف رغم غلبة الشعر الهوميري القوي مفتول العضلات الصلد في العصور اللاحقة إلا أنه لم يتمكن من محق أو قتل الشعر الأورفي الضعيف المكتنز الدافئ من الداخل، الذي يحمل سره في أعماق عباراته وصياغته، وهكذا نهض الشعر الهوميري قوياً طويلاً، ونهض معه سر داخلي بسيط ومحدود. وعندما قطعت البشرية شوطاً طويلاً من عمرها اتضح أن الشعر الاورفي هو الذي يمثل حقيقة الشعر لا الشعر الهوميري، ورغم ذلك فقد كان هذا الصراع مخصباً، وكانت نتائجه مثمرة في تكوين الشجرة الشعرية اللاحقة. اعتراف أنا لا أبرأ من التأثر بـ (هاملت) أو بـ (رامبو) فقد شكلاّ عمودين أساسيين في ثقافتي، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك يوم كتبت مسرحية (هاملت بلا هاملت) وكتابي الشعري النص المفتوح (عكازة رامبو)، وكان أهم ملمح لهما في العملين هو فكرة (المصير)، يخيل لي أن العملين هما نوع من (المراثي) لهذين العملاقين اللذين سلبا كياني ذات يوم. فك الالتباس إن اللبس الذي وضع فيه هوميروس الشعر تمثل في أنه أعطى قوة للشعر من خلال قوة الحدث، ولذلك أصبحت معجزات وخوارق ومجترحات أبطال الإلياذة والأوديسة غشاء يحجب طبيعة الشحنة الباطنية العميقة التي يحملها الحدث وأصبحت القشرة الخارقة للحدث واضحة ظاهرة أمام الأعين على أنها الصدمة التي يحملها الشعر معه، أما الشعر الأورفي، فقد حمل كثافته وقوته معه في داخله… في غنائه العميق وفي العلاقات التي كان يمخر فيها مغامراً وفي الشفرة الخاصة به، أما طبيعة الحدث فيه فقد تكون بسيطة أو كبيرة، إذ لا أهمية لذلك، قوة الشعر تكمن في أعماقه لا على سطحه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©