الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تفضَّل أيُّها الـ غ ر يـ ب

تفضَّل أيُّها الـ غ ر يـ ب
17 مايو 2017 19:46
ها أنا أخسر للتوِّ دوراً تاريخياً في الشّطرنج، وهو ما سيجعلني أحتفي بخيبتي معكَ، وأدعوك إلى فنجان من القهوة لتستريح قليلاً. جفّف عرقك وتعالَ لتسترخي. من أين جئتَ؟ وإلى أين تذهب؟ سامحني على فضولي وأسئلتي الكثيرة، فكما ترى، صرتُ هَرِماً في الحادية والثمانين، لا أجيد شيئاً قدر إجادتي للثرثرة مع العابرين الطارئين، الذين يضطرّهم التعب والمطر الغزير إلى أن يستريحوا قليلاً في مقهانا العتيق، مثلك هكذا. أنا..؟! أنا مجرّد رجل ضئيل الحجم كثير الابتسام، يضحك على أيِّ شيء يراه في هذه الأزمان العجيبة، اسمي؟ أومير ?انهيه، ولدت في قرية صغيرة بالقرب من هنا اسمها «مورسيله»، خلف هذا الميدان الذي يقابلنا، هاااا.. متى ولدتُ؟ يا الله! منذ زمن بعيد يا رجل، فأنا أكبرك بما يزيد كثيراً عما تبقَّى لك من عمر، هاهاها... لا تؤاخذني يا صديقي، والعمر المديد لك، أراك شاباً وسيماً إن لم تكن عيناي الكليلتان تخدعانني، ويبدو لي من رشاقتك أنَّك تحافظ على صحة جسمك وقوة عضلاتك، مؤكّد أنّكَ لا تدخّن مثلي، سامحني، أحببت التدخين مذ جنّدوني في الحرب. كنت في العشرين حين اقتحم جنود هتلر قريتنا الصغيرة وأخذوني معهم لأعمل في مناجم الفحم الألمانية، وهناك.. تعلَّمت التدخين هرباً من تعلّم الصبر على الجوع. لكن اطمئن، لديَّ الآن ثلاثة أبناء رجال لا يدخّنون مثلك، يصرّون على أن يموتوا أصحّاء، وأحمد الله على ذلك. فأنا أدخّن مثل رجل تركي، وأنتَ – وإن تبدو لي صغيراً بعد على هذه المهمّة - هل لديك أطفال؟! هممم.. استنتجتُ ذلك، وأقسم لك، منذ النظرة الأولى وجدتك شاباً أكثر من أن تكون رجلاً، أقصد ما زلتَ صبياً بعد، لا أعرف، أرجو ألّا تسيء فهمي يا صديقي، فأنت رجل بالطّبع، لكنّني أقصد أنّك لا تزال تراوح في هذه المنطقة الوسطى التي لا تبين بين الفتوّة والرجولة، سامحني أيُّها الغريب، هل تعجبك القهوة.. أم تريد مزيداً من السكَّر؟ أنا أشربها دون سكّر منذ ستّين عاماً، أحبّها مُرَّة، تذكِّرني بأيّام فتوّتي حين كنتُ صبياً يسرق السّجائر من حُرّاسنا الألمان، لندخّنها في استراحة القهوة ظهيرة كلّ يوم، جيلك ربّما قرأ عن هذه الحروب، طبعاً، فهم يدرِّسونها لكم في المدارس ويجمِّلون من أحداثها، لتصير في نفوسكم موضع فخر، بدلاً عن العار الذي نجرجره خلفنا نحن الشيوخ، مؤكّد أنك تعرف، لكن المعرفة دون رؤية تظلّ منقوصة يا صديقي، أولادي أيضاً لا يفهمون، أصبحوا رجالاً وأنجبوا الأولاد والبنات وصار لديهم حفنة من الأحفاد الصغار، ورغم ذلك لا يفهمونني، ربّما تكمن المشكلة فيَّ، فهم معذورون.. ولدوا بعد انتهاء الحرب، كنّا بدأنا نشمّ الهواء حرّاً من الأدخنة الناتجة عن القنابل والصواريخ، وننعم بالنّوم بعد خمس سنوات كاملة من الفرار تحت السماوات العارية إلا من هدير الطائرات. المحظوظون مثلك، ولدوا قبل أن يشاهدوا مفرمة اللحم والدّم التي صنعناها بأيدينا، لنلوّث بها العالم. أعميتُ عيونكَ بهذا الدّخان؟! سامحني.. انتقل هنا يا صديقي. تعال إلى مقعدي، وسأنتقل إلى مقعدكَ. هكذا لن يضايقكَ دخان سيجارتي. الرّيح هي السبب، اللعنة على الريح. حين كنتُ أدخّن الغليون قبل عدّة سنوات لم أكن أضايق أحداً، كلّ من حولي كان ينتعش من رائحة التبغ الخاصّ الذي كنتُ أدخّنه آنذاك. الآن، أنفخ طيلة اليوم دخّان هذه اللفافات الحقيرة البيضاء، ليتأفّف منِّي ومن رائحتها الجميع. أنتم أجيال تستحقّ الشفقة والله، مرفّهون وأغبياء. سامحني على صراحتي، فهكذا أداعب أبنائي وأحفادي حين يزورونني في عطلات الأسبوع، أسخر منهم لأضحكهم، وأنا أعرف أنّهم يشتمونني في سرائرهم، بالضبط مثلك الآن، لكن لا بأس، ربما تشفع شيخوختي لي، فكما تعرف.. يصبح الشيوخ أطفالاً كلَّما كبروا. * * * هكذا كان. تعوّد أن يتخذَّ من نفسه مسافة كي يرى، وتعلَّم كيف يبتعدُ عن الصورة ليحيط بها كاملة، قبل أن يقترب خطوة وراء خطوة، ليدقِّق في التفاصيل، ليتتبَّع الخطوط وضربات الفرشاة وتحرُّش اللون برفيقه اللون، فيغلبه أو ينغلب. علّمته الأيام أن يبتعد كي يثبت حضوره، ويحضر كي يعرفوا طعم الغياب. كان أوَّل من أضحكني من قلبي حين جئت إلى هذه البلاد. هو الرَّجل الرّبعة، النَّحيف، الضحوك، ابن النكتة الذي خاض حرباً كاملة وسيجارته مشتعلة بين شفتيه. عروق كفَّيه تتلوى منتفخةً بين تجاعيد أصابعه العشرة، وهي تستريح فوق انحناءة عصاه الملتوية التي يتوكّأ عليها حين يسير. بزَّته العُمَّالية الرمادية ذكَّرتني بسبعينيّات القرن الماضي. ذقنه الحليقة، غليونه المهمل الذي ما يزال يحتفظ برائحة التبغ المدوِّخة القوية، وعيناه اللتان تلمعان بقوة في ضوء النهار. حركة يده المتمهِّلة، الصبورة، المتأنّية، وهي تمتدّ في المسافة الضئيلة بين عصاه وفنجان قهوته الساكن على الطاولة، كلّها أشياء كانت تدفعني إلى التّفرس طويلاً في تفاصيل المشهد أثناء حدوثها، كأنّها أفعال استثنائية، تأتي من عالم آخر أو من زمن لم أعشه، فيما ضحكته ترنُّ في بهو بيته الريفيّ وهو يصبّ لي فنجاناً من القهوة، فأصحو من شرودي على ابتسامته وهو يغمز لي بعينه مشيراً إلى مكعَّبات السكَّر: «قليل من السّم الأبيض يا صديقي؟». اسمه Omer Vanhee، ولد في الحادي والثلاثين من ديسمبر 1922، في قرية صغيرة اسمها مورسيله في الجنوب الغربيّ لبلجيكا. كان في السادسة عشرة من عمره حين اندلعت الحرب العالمية الثانية في الأول من سبتمبر 1939، وحين اجتاحت القوات الألمانية بلاده تم القبض عليه مع آلاف غيره من البلجيكيين، ليُرحَّلوا إلى معسكرات العمل الإجبارية في ألمانيا في 1942. كان في العشرين من عمره، مراهقاً لم يشبع بعد من النظر إلى جمال جاراته الفلمنكيّات، قيّده الجندي الألماني عنوة وهو يركله بين ساقيه فسقط مغشياً عليه: «لم أكن وحدي، كنّا آلافاً نزأر من الألم تحت أحذية الجنود في الشاحنات التي كانت تشقّ الطريق مسرعة إلى معسكرات العمل»، أظنّه رفع عينه ليرقب قريته الصغيرة قبل أن تختفي إلى الأبد تحت أجمّة الأشجار، أظنّه تأوّه وهو يفكّر في أنّها ربّما تكون المرّة الأخيرة التي ينظر فيها إلى تلك الشوارع وإلى هذه البيوت، هو الصبيّ الذي يعرفه كلّ بيت، وتعرف رائحته كلاب وحيوانات جيرانه الفلاحين: «لم أبك، كنت فقط نادماً لأنّني لم أودِّع أمِّي.. فربّما لا أعود». لكنّه عاد، بثلاث قطع من المعدن الصلب في قفصه الصدري، بعد أن سقط من فوق شاحنة كسّرت أضلاعه، فاضطروا إلى عمل جراحة سريعة له: «طبيب المعسكر كان ألمانياً ومؤدّباً على غير العادة، ارتعش وهو ينحني على صدري المحطّم. وحين رأيت حبّات عرق جبينه تسقط متتابعة فوق عنقي الساخن، عرفت أنني ميّت، فرسمت علامة الصليب قبل أن أغيب عن الوعي»، كان يضحك، لكنّه كان يفشل كالعادة في إخفاء غلالة الحزن الشفيفة التي تطلّ عليَّ من عينيه الصافيتين. بقي أومير عامين كاملين في معسكرات الألمان، يعمل في مناجم الفحم من أوّل النهار حتى مغيب الشمس: «عامان من العذاب، لكنّني عشت، أسأل نفسي أحياناً ماذا لو كانوا أوكلوا إليَّ مهمّة ما في معسكرات محارق اليهود، لربما متّ حينها من الألم، أشكر الربّ أنّنا وقتها لم نكن نعرف شيئاً عن كيفية إبادة اليهود، وربّما - لهذا السبب تحديداً – ما زلت تراني أمامك الآن». لم أكن صديقه أو أحد رفاقه، كنتُ الوافد الجديد على عائلته الموزّعة على المدن البعيدة، «الأجنبيّ الوحيد الذي دخل بيتي» كما كان يقول وهو يمازحني: «لكنّني أحبّك، فيكَ شيء ما يعجبني، تذكّرني بما كنتُ عليه قديماً من جنون وعنفوان وغباء محبّب، هاهاها، تعال.. هات رقعة الشّطرنج، ودعني أُمثّل بجثّتك». * * * في السنوات الأولى لي هنا، كان بيت أومير المتهالك هو الملاذ الآمن لي من الخارج، بكل ما يعنيه هذا الخارج من شوارع وأناس ولهجات مختلفة ولغات متباينة، كلّها أمور كانت تجعل من مفرداتي الهولندية المعدودات مؤونة غير ذات جدوى، كان يضحك حين أصارحه بتعقيد لغتهم وصعوبة جريانها على لساني، لكنه كان يصمت طويلاً ويبدأ في ترديد ما صعب عليّ نطقه من كلمات، وحين كنت أخطئ في نطق كلمة ما، كان يرفع كفّ يده اليمنى أمامه كأنّه يستحثّ طفلاً على التمهّل في الحبو: «لا تتعجّل، حاول أن تتهجّى الحروف واحداً بعد الآخر، كرّرها على لسانك، تشرّبها، ليس هناك من يطالبك بالتسرع، ولن يسخر أحد من لكنتك المختلفة، وإن فعل، قل له إنك تحاول أن تتحدّث لغته، فماذا عنه؟»، بهذه البساطة الآسرة كان «أومير» يتعامل مع أخطائي، في الوقت الذي كنت أرى فيه الجميع ينتظرون مني الوقوع في الخطأ، كنت حينها غريباً عن هذه البلاد، والغريب هشٌّ وسهل الكسر، و»أومير» نجّاني من الكسر: «أنتَ لست مطالباً بأكثر من أن يفهمك الناس». الآن، حين أفكر في سنواتي الأولى في بلجيكا، لا أستطيع أن أتخيّلها بدون وجوده المؤثر، ربما وجدت فيه صورة ما تشبه ما كان جدي عليه، كطفل.. تعلّمت النفور من كلّ ما هو أبويّ، هربت منه عن عمد إلى حِجْر جدّي، المتصوّف العجوز الذي حملني ذات يوم وأنا ابن السّابعة أمام أبي وسألني: «أين الله؟»، وحين تلجلجت في الإجابة، نظر إليَّ والدي بعينين جاحظتين وهو ينهرني: «ردّ على جدِّك يا ولد»، وحين رأى جدي انعقاد لساني، همس في أذني: «ليس في السماء صدّقني، يضحكون عليك، الله في قلبك، فاحرص على وجوده دوماً هناك». في الليلة الأخيرة له، ظللتُ أُضحكه حتى دمعت عيناه، كانت قد مرّت سنة كاملة على دخولي بيته أوّل مرّة. غلبني ليلتها في الشطرنج مرّتين، وحين شرعنا في اللعب من جديد، قال لي مجهداً: «دعها للغد، وحينها سنرى، إن فزتَ ستكون رقعة الشطرنج التي ورثتها عن أبي ملكاً لك». ليلتها، في السادس من أبريل 2004، مات أومير أثناء نومه في حضن زوجته. كان في الثانية والثمانين من العمر، حليق الذقن، تفوح من فمه رائحة التبغ الذي كفّ منذ سنوات عن تدخينه في غليونه، التبغ الذي انقرض، وحلّت محلّه لفافات حقيرة بيضاء.. يسمّونها: سجائر. ........................................... * فصل من عمل سردي جديد قيد الكتابة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©