الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اللون بليغاًً

اللون بليغاًً
17 مايو 2017 19:49
كلّ شريط سينمائيّ، أو على الأقل ّ كلّ شريط سينمائيّ خياليّ، عامّة ما يكون سرداً لقصّة أو حكاية، وباعتباره تمثيلاً بصريّاً وصوتيّاً، ينقل الشّريط السّينمائي على الشّاشة الواقع، عبر سلسلة من الصّور والملامح الخَلْقيّة، والإيماءات والحركات والمشاهد الطبيعيّة، التي تتضافر وتأتلف لتشكّل فضاء لحكاية. ولو أقررنا أنّ للسّينما، كشكل من أشكال الخلق الفنّي، لغة نوعيّة خاصّة، وأنّ مجال الحكاية السّينمائيّة مختلف عن مجال الحكاية السّرديّة، الرّوائيّة مثلاً، فهل إن الألوان تُسهم حقيقة في التّعاطي مع تلك الحكاية، أم أنّها فحسب جزء من المعالجة الجماليّة للسّرد المرئي؟ والحال أنّ هذا البعد الثالث في الفيلم، الذي لا يمثّل غيابه عاملاً عائقاً للاستطلاع البصري، يجعل الألوان لا تشكّل من النّاحية المبدئيّة علامة تشخيص أكيدة.. مناسبة وضروريّة. ومع ذلك، وباعتبار أفلام زهانغ ييمو، التي ذاع صيتها في بلدان الغرب منذ قرابة عشرين سنة، ليس بوسعنا التّغافل عن طرح هذا السّؤال: هل كانت أفلام «الطّحين الأحمر» و«زوجات وخليلات» و«جُو دُو» أو «هِيرو» ستحظى بالقيمة ذاتها التي نعرف، لو تمّ تصويرها بالأسود والأبيض؟ ثمّ.. أيَكون اللّون بصورة قطعيّة، وهو مكوّن من مكوّنات الصّورة، التي هي بدورها مكوّن من مكوّنات الفضاء الفيلمي، غير مرتبط بالسّرد؟ إنّ الحديث عن «قصّة سينمائيّة» يمنحنا الصّيغة الأكمل لمأزق نظريّ مرتبط بمسألة الخصوصيّة. إنّه يكشف عن البعدين اللذين تنطوي عليهما تلك الخصوصيّة وكذلك مسألة الأسبقيّة: فمتى فضّلنا «القصّة»، انتفت خصوصيّة الوسيط، ويغدو الفيلم مجرّد تجلٍّ من تجلّيات ممكنة أخرى. ومتى وضعنا «ما هو سينمائيّ» في المقام الأوّل، غلب حينها البعد اللّغويّ للوسيط على وظيفة السّرد. وبمفهوم «السّرديّة» نخرج من دائرة ذلك المأزق، فالقصّة هي قبل كلّ شيء سلسلة من الأحداث، وتلتقي هذه الرّؤية مع تعريف لكلود بريمون، الذي يرى أنّ القصّة تمتاز بكونها «مستقلّة عن الوسيط الذي يسندها». في حين أنّ السّرديّة تتحدّد بخاصّيتها الافتراضيّة، التي لا وجود لها إلاّ متى تمّ إقحامها وتحيينها في خطاب سرديّ. مصنّفاً كذلك.. يغدو اللّون كمكوّن من مكوّنات الوسائط البصريّة، وكأنّه بعد ثالث في السينما، وهو ليس بالسّرديّ - التمثيليّ، إذ هو لا يساهم في إعداد وبناء الموضوع، وتبعاً لذلك فهو لا يشكّل خاصيّة ثابتة للسّرديّة. والمُشاهد المتعوّد على حضور البعد الخيالي في القصّة، يميل دوماً إلى إعادة حقنه في الصّورة، وإقامة علاقة بين المَشاهد والعناصر المكوّنة للفيلم، وفي هذه الحالة.. يكون أيّ لون قد تحوّل إلى أداة مستفزّة للخيال الذي يغذّي القصّة. لكنّ القصّة هي أيضاً حيّز لقاء بين المحتوى والإبانة عن ذلك المحتوى، حيّز يَرى فيه مارك فيرنييه «النصّ المنطوق في تركيبته الماديّة». وما دامت القصّة السّينمائيّة تتشكّل من سياق سرديّ يمنحها في ذات الوقت شكلها، فإنّ الألوان في فيلم ملوّن تمثّل إحدى وسائل التّعبير التي تُسهم، رغم طابعها اللاّسردي، في «التّشكّل الدّاخلي لمقاصد الشّريط السّينمائيّ»، ثمّ إنّ الطّبيعة الأيقونيّة للدّال في العمل السّينمائي يمنح تلك الوسائل بعداً آخر، يجعل من اللّون أيضاً وسيطاً رافداً للسرديّة الخياليّة. قيمة إدراكيّة تتمثّل القيمة الإدراكيّة للألوان في كونها تجعلنا ندرك الجزئيّات السّرديّة والأحداث التي يطالها الإخراج، كذلك تَفحُّصُ مدى وجاهتها لفهم القصّة وتمثّلها. إنّ الأمر ليتعلّق، وبغضّ النّظر عن الجانب الجمالي، بأن تُضفي على عناصر الدّيكور.. العلامات التي تمثّل فضاء البناء الدرامي في الشّريط السّينمائي. وفضاء البناء الدّرامي في السّينما، كإطار موهوب لسرد الأحداث ليس بالمَحْمَل المجرّد. إنّه ينبني وفق ضرورات «إخراج» المحتوى التّشخيصي. طبعاً لا تكون الألوان في هذه الحالة ضروريّة، ولكن باعتبارها جزءاً من الصّورة، فإنّها تكتسي لا محالة قيمة إيحائيّة، أكثر من كونها تنطوي على قيمة حضوريّة. غالباً ما تعتمد أفلام زهانغ ييمو تركيزاً مشهديّاً، كيما تمنح، عن المشهد، إفادة معرفيّة، تكشف عن مدى كثافة تمثيل الواقع. فعناصر الدّيكور وأزياء الشّخصيّات هي التي تتولّى تحديد الموضع الفضائي. أمّا الألوان التي لا يتمّ اختيارها بشكل اعتباطيّ، فإنّها تعزّز الانطباع بالواقع، وتُمَوضِع الأحداث في إطار محدّد، ألا وهو الصّين العتيقة. وباعتبار أنّ العلامة الأيقونيّة تتميّز بخصائص تَماثُلٍ مرتبطة بالموضوع الذي تلمح إليه، فإنّ الانطباع البصريّ، وإن كان لا يكتسي أهميّة جوهريّة، تصبح له قيمة العلامةَ المُؤشّرة. غير أنّ الألوان لها سطوة إيحائيّة تتجاوز وظيفة الاستكشاف، لأنّ الفيلم ليس مجرّد عيّنة سينمائيّة، ولكن أيضاً عيّنة ثقافيّة. وفي أفلام زهانغ ييمو، تُضفِي الألوان على الفضاء اللاّمحاكاتي.. حقيقة محدّدة، طبقاً للصّورة المنتظرة ثقافيّاً. وقد نشير على سبيل المثال إلى اللّون الأحمر، وهو لون الأعراس ومراسم الزّفاف، هذا اللّون الكليّ الحضور في شريط «زوجات وخليلات»، وكذلك في «الطّحين الأحمر» و«جُو دُو»، والذي يوحي لِوحدِه باقتران رجل وامرأة، دونما أيّة إشارة لفظيّة أخرى، أو صورة تومئ إلى ذلك. وفي شريط «هِيرو» (البطل) شكّلت ألوان الأزياء تلميحاً إلى علاقات الشّخصيّات ببعضها البعض، فالبطلتان اللّتان كانتا تسعيان إلى مناصرة البطل لتحقيق مشروعه، ألا وهو قتل الملك كِينْ، الموعود بتولّي وظيفة الإمبراطور، كانتا تتّشحان باللّون الأحمر، ولكن بدرجات لونيّة مختلفة، إذ كانت الأولى تتّشح بلون أحمر فاقع، فيما كانت الثّانية تتّشح دائماً بأحمر يميل إلى الورديّ أو إلى الأحمر الباهت، اللّون المخصّص للخليلة في حال حضور الزّوجة الرّئيسيّة. وتفصح تلك الجزئيّة للمُشاهد المطّلع ثقافيّاً عن تنافس مكشوف بين صاحبة البطل، وخادمتها التي تكنّ لهذه الشّخصيّة حبّاً غامراً. فحين تستحيل العلامة إلى عنصر لا محاكاتيّاً في الدراما، ألا يغدو التّمثيل هو الآخر سرداً؟ قيمة دراميّة إنّ الميزة الثّنائيّة (الأيقونيّة والإلماحيّة) تجعل الألوان تُؤمِّن وظيفة تتمثّل في المقام الأوّل في الإيماء، غير أنّ الإشارة فعلٌ لغويّ تستعمله السّينما كأداة للسّرد. وفي الفضاء الذي هو نقطة التقاء التّقني بالجماليّ، تغدو الألوان وسيلة تعبير، تكون فيها اللّغة والفنّ متلازمين بشكل جوهريّ. ويرى زهانغ ييمو أنّ اللّون هو إحدى الوسائل الموظّفة لإقحام العالم المُعرَب عنه والجوهر المضمّن بشكل مباشر في البناء الدّرامي، وعنده أن ذلك يرتبط بمدى تضافر العناصر المُجمَع عليها، فاللّون الأحمر الذي غالباً ما يدخل في الإخراج، هو رمز للمرأة وفقاً للتّقاليد الصّينيّة. وفي شريط «زوجات وخليلات» يقترن بعنصر آخر، ألا وهو الفانوس، لخلق إطار يكون فيه الجوّ الدراميّ رافداً لفعل العراقة والقدم. وفي شريط «جُو دُو» حيث كان الإطار العامّ للأحداث فيه.. هي مصبغة، فإنّ الألوان المختلفة للأقمشة الممدّدة، تحتلّ بالتّناوب المشهد، لتمنح - عبر الطّبيعة الحسيّة لكلّ لون - شعوراً خاصّاً بكل وضعيّة لا محاكية. وفي شريط «هيرو» حيث جُزّئت القصّة إلى مقاطع سرديّة مختلفة، كانت معالجة الألوان في خدمة تتابع أحداث القصّة، وشاهداً على حضورها الثّنائيّ، وهكذا، تنضاف للمتعة التّاريخيّة متعة مرتبطة بالوسيط السّينمائي. وتسرد قصّة الفيلم عبر حوار بين الملك كِينْ (الإمبراطور الأوّل المرتقب للصّين) وبين وُومينغْ (السّاموراي المنتصر على ثلاثة معلّمين في الفنون الحربيّة أقسموا على قتل الملك لحفظ السّلام في البلاد). بفضل ذلك العمل البطوليّ استُقبِل وُومينغ من قبل الملك، كما وعده الملك بذلك، وتُقدِّم عديد المقاطع بشكل متناوب رواية وُويومنغ عن ظروف مقتل المعلّمين الثّلاثة وتأويل الملك لها، وقد تمّ تصوير كلّ مقطع على خلفيّة لونٍ طاغٍ، على نحو قد يجعلنا نصنّفها بالتّناوب، بالقصّة الحمراء أو القصّة الزّرقاء، أو البيضاء أو الخضراء. وفي أولاها.. المُمَثَّلَة بلون أحمر، يروي وُويومنغ الطّريقة التي قتل بها «الحسام العتيق»، ألدّ أعداء الملك وأخطرهم. كانت الأسلحة والرّايات وثياب الشّخصيّات وديكور المعبد، حيث تمّت المواجهة بين الطّرفين، حمراء، كما العلامة المخطوطة التي تمثّل رمز السّلام، والتي عرضت مراراً بصور مقرّبة. وطيلة هذه اللّقطة، كان الأحمر لا يندمج إلاّ باللّون الأسود، اللّون السّحريّ لسلالة آل كِينْ. أمّا القصّة «الزّرقاء» التي تأتي في المرتبة الثانية، فإنّها تكرّر نفس المقطع الزّمني، لتقدّم رواية الملك عن القصّة ذاتها، فيكون «الحسام العتيق» حسب تلك الرّواية، قد أتاح لوُومينغ، وبإرادة منه، كسب المعركة، حتّى يجعله أكثر قرباً من الملك، ويتكوّن ذلك المقطع من قرابة أربعين مشهداً متتالياً، تغلب على جميعها درجات اللّون الأزرق، لتكون بذلك شبيهة بشريط قصير ثنائيّ اللّون. أمّا القصّة «البيضاء» التي تلي، فإنّها تكشف عن الرّغبة الأخيرة لـ«الحسام العتيق»، فلقناعته بأنّ الوحدة هي السبيل لخلاص الصّين، كان «الحسام العتيق» يعمل على إقناع وومينغ بالتخلّي عن قتل الملك. وتُبرز آخر هذه القصص القصيرة، أي القصّة «الخضراء» المواجهة بين وُومينغ و«زهرة الثّلج»، العدوّة الأخرى للملك، التي كانت تسعى للانتقام لعائلتها، وكان موت البطلة قد كشف آخر مخطّط لاغتيال الملك. هكذا.. كان الاختيار الجمالي للألوان، كما فعل السّرد، قد أدّيا دورهما في التّبيين والإبلاغ. متعة الوسيط يرى زهانغ ييمو أنّ اللّون هو إحدى الوسائل الموظّفة لإقحام العالم المُعرَب عنه والجوهر المضمّن بشكل مباشر في البناء الدّرامي، وعنده، أن ذلك يرتبط بمدى تضافر العناصر المُجمَع عليها. فاللّون الأحمر الذي غالبا ما يدخل في الإخراج، هو رمز للمرأة وفقا للتّقاليد الصّينيّة. وفي شريط «زوجات وخليلات» يقترن بعنصر آخر، ألا وهو الفانوس، لخلق إطار يكون فيه الجوّ الدراميّ رافدا لفعل العراقة والقدم. وفي شريط «جُو دُو» حيث كان الإطار العامّ للأحداث فيه.. هي مصبغة، فإنّ الألوان المختلفة للأقمشة الممدّدة، تحتلّ بالتّناوب المشهد، لتمنح - عبر الطّبيعة الحسيّة لكلّ لون - شعورا خاصّا بكل وضعيّة لامحاكيّة. و في شريط «هيرو» حيث جُزّئت القصّة إلى مقاطع سرديّة مختلفة، كانت معالجة الألوان في خدمة تتابع أحداث القصّة، وشاهدا على حضورها الثّنائيّ، وهكذا، تنضاف للمتعة التّاريخيّة متعة مرتبطة بالوسيط السّينمائي. حَكي الأحمر الألوان لها سطوة إيحائيّة تتجاوز وظيفة الاستكشاف، لأنّ الفيلم ليس مجرّد عيّنة سينمائيّة، ولكن أيضا عيّنة ثقافيّة. وفي أفلام زهانغ ييمو، تُضفِي الألوان على الفضاء اللاّمحاكاتي.. حقيقة محدّدة، طبقا للصّورة المنتظرة ثقافيّا. وقد نشير على سبيل المثال إلى اللّون الأحمر، وهو لون الأعراس ومراسم الزّفاف، هذا اللّون الكليّ الحضور في شريط «زوجات وخليلات» وكذلك في «الطّحين الأحمر» و «جُو دُو»، يوحي لِوحدِه باقتران رجل وامرأة، دونما أيّة إشارة لفظيّة أخرى، أو صورة تومئ إلى ذلك. قيمة إيحائيّة فضاء البناء الدّرامي في السّينما، كإطار موهوب لسرد الأحداث ليس بالمَحْمَل المجرّد. إنّه ينبني وفق ضرورات «إخراج» المحتوى التّشخيصي. طبعاً لا تكون الألوان في هذه الحالة ضروريّة، ولكن باعتبارها جزءا من الصّورة، فإنّها تكتسي لا محالة قيمة إيحائيّة، أكثر من كونها تنطوي على قيمة حضوريّة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©